التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (155)

قوله تعالى : ( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ) . قوله : ( فبما نقضهم ميثاقهم ) أي بسبب نقضهم ميثاقهم الذي قطعوه على أنفسهم . وما هنا زائدة وذلك كقوله : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ) والميثاق الذي أخذوه على أنفسهم هو أن يعترفوا بنبوة محمد ( ص ) عند ظهوره ، وأن يعلنوا إيمانهم به ويصدقوه لما يعلمونه من صفاته قبل مجيئه . على أن ثمة جرائم وأفاعيل ارتكبها اليهود طيلة حياتهم كنقضهم للميثاق وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وغير ذلك من جرائم كانت سببا في أخذهم بالصاعقة مثلما بينا آنفا . وميثاقهم مفعول به منصوب للمصدر ( نقضهم ) الذي ينوب مناب الفعل{[853]} .

وقوله : ( وكفرهم بآيات الله ) المقصود بآيات الله البراهين والمعجزات التي تحققت على أيدي النبيين من بني إسرائيل . وقيل هي الكتب السماوية المنزلة على أنبيائهم والتي حرفوها وبدلوها تبديلا فباتت كتبا مزيفة محرفة .

وقوله : ( وقتلهم الأنبياء بغير حق ) الأنبياء مفعول به منصوب للمصدر ( وقتلهم ) الذي ينوب مناب الفعل ، وتلك جريمة نكيرة من جرائم شتى اركبها اليهود على امتداد حياتهم ، وهي جريمة غليظة كبرى اقترفها اليهود وهم يعتدون على أنبياء الله ليسومهم التعذيب والتقتيل . وليت الأمر اقتصر على واحد أو اثنين من النبيين يقتلان ، ولكنهم كانوا يقتلون منهم بالجملة حتى ذكر أنهم كانوا يقتلون من النبيين بالعشرات في يوم واحد . وتلك جريمة فظيعة تأتي في طليعة الجرائم والموبقات التي يهتز لها عرش الرحمن ! !

يا لله لهذا الذنب العظيم الذي يجترحه فريق أثيم من بني إسرائيل وهم يعتدون على صفوة طاهرة من خير العباد وهم النبيون المرسلون ، إذ كانوا يأتمرون بهم ليقتلوهم . ومعلوم ما في كتب الله ودياناته من تنديد مغلّظ بالقتل ومن تبشيع صارخ لمثل هذا الذنب الموبق . وهو ذنب يستوجب سخط الله وغضبه فيما يجرجر القاتل الأثيم في نار جهنم ! ! .

وقوله : ( بغير حق ) تأكيد للظلم الذي وقع فيه بنو إسرائيل وهم يعتدون على رسل الله بالقتل . ومع أن مجرد العدوان عليهم بالقتل يعتبر غاية الظلم والخطيئة والباطل ، وإنه النكر البالغ الذي يدنو دونه كل نكر أو خطيئة . وهو من الفظاعة المكشوفة التي تقتضي برهانا- مع ذلك فإن الآية تؤكد بأجلى عبارة ( بغير حق ) .

وقوله : ( وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) عندما دعوا إلى الإيمان بالقرآن ونبي الله محمد ( ص ) قالوا مقالتهم : ( قولبنا غلف ) أي قلوبنا داخل غلاف ، فهي مجللة بالغطاء فلا تعي ما يقال لها . وذلك كقوله عنهم في آية أخرى : ( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ) أي قلوبهم يغطيها الكنان الواقي الذي يحول دون السماع أو الوعي . وقيل : غلف مفردها غلاف فيكون المعنى أن قلوبنا أوعية للعلم . فقد تحصّل لنا من العلم ما وعته قلوبنا بالقدر الوافي فنحن في غنى عن أي علم جديد . والذي يظهر أن الأول أصوب فإن قلوبهم كانت الغطاء الحاجب فلا تؤمن ولا تعي ، ويرجح ذلك قوله تعالى بعدها : ( بل طبع الله عليها بكفرهم ) فليس صحيحا ما زعموه من احتوائهم للعلم الوافي وأنهم مستغنون عن أحد غيرهم يأتيهم بعلم ، ولكنهم قد عموا وصموا وتحجرت طبائعهم ونفوسهم ، واستعصى الفهم والوعي على عقولهم وقلوبهم ، فباءت بالانكماش والشلل والكزازة ؛ فاستحقت بذلك أن يطبع الله عليها بالختم فتظل آيسة مبلسة لا يغنيها ما زعمته من علم وما تظنه من إيمان ببعض الأنبياء ، وهو إيمان قليل لا ينجي ولا ينفع .

وقوله : ( فلا يؤمنون إلا قليلا ) قليلا منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف . أي لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا ، وصار إيمانهم قليلا ؛ لأنهم لم يصدقوا على ما أمرهم الله به ، ولكن صدقوا ببعض النبيين وببعض الكتب وكذبوا ببعض ، فهم مصدقون من وجه ومكذبون من وجه آخر ومثل هذا الإيمان لا يجدي وليست له قيمة ؛ لأن الكفر ببعض كفر بالكل .


[853]:- البيان للأنباري جـ 1 ص 157.