التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (143)

قوله تعالى : { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني انظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين } .

لما جاء موسى –عليه السلام- في الوقت الموعود للقاء ربه وتكليمه فناجاه الله وكلمه ، أحب أن يرى ربه فسأله أن يراه . فأجابه ربه { لن تراني } لأنك لن تطيق أن تراني ؛ ذلك أن موسى بشر قد جبل على طبع البشر من حيث محدودية العزم والقدرة والطاقة بالغرم من كونه نبيا ورسولا أوتي من ربه العصمة ؛ فهو بطبيعته البشرية وطاقته البدنية والإنسانية لا يملك أن يرى الله جهرة . ولئن رآه لسوف ينفي ويتبدد ! فهذا الجبال الشامخات ، وتلك الأجرام الكونية الضخام لو ظهر لها الله بجلاله وعليائه وسطوع نوره ؛ فإنها سوف تنماع أو تسيخ أو تزول البته ! فكيف بالإنسان ، ضعيف البنية والاقتدار والاحتمال ، لا جرم أنه أعظم ضعفا وأشد أن لا يتماسك أمام جبروت الله إذا تجلى له ظاهرا .

وقوله : { ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني } ، { استقر } ، أي ثبت وسكن . ويضرب الله لموسى مثالا من الجبل وهو أعظم وأثبت من نبيه الإنسان ؛ أي إنك يا موسى لن تطيق رؤيتي أو النظر إلي ؛ لبساطة احتمالك واقتدارك وضعف بنتك وبدنك ، لكن انظر إلى هذا الجبل ، فإن ثبت أو سكن مكانه من غير اضطراب أو زعزعة أو تزلزل فسوف تزاني . وذلك برهان من الله مشهود ؛ ليتحقق لموسى أنه لن يستطيع أن ينظر إلى الله ، بدليل اندكاك الجبل لما تجلى له ربه وهو قوله سبحانه :

{ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا } تجلى ، أي ظهر . أي لما ظهر الله للجبل ، وقيل : ظهر له اقتداره وأمره { جعله دكا } دكا منصوب من وجهين ، أحدهما : أن يكون منصوبا على المصدر ، من : دككت الأرض دكا ، إذا جعلتها مستوية .

وثانيهما : أن يكون منصوبا على المفعول وفيه حذف لمضاف ، وتقديره : فجعله ذا دك ؛ أي ذا استواء{[1517]} ، ودكا ، من الدك وهو الدق . وقد دكه ، إذا ضربه وكشره حتى سواه بالأرض . والدكداك من الرمل : ما التبد منه بالأرض ولم يرتفع{[1518]} .

وقيل : ساخ الجبل في الأرض . وقيل : تفرقت أجزاؤه وتناثرت حتى صار مستويا بالأرض .

والمعنى المراد ، أنه ما إن عاين موسى اندكاك الجبل حتى هاله المشهد ترويعا فلم يحتمل مثل هذه المعانية الهائلة التي لا يقوى على رؤيتها كائن ؛ لفرط هولها الذي يفوق الحس والتصور ويعلو على الكائنات في مبلغ قدراتها وطاقتاها . وبذلك { خر موسى صعقا } أي سقط مغشيا عليه . وقيل : مات ثم بعثه الله ؛ وذلك لهول ما أحس وفظاعة ما رأى .

قوله : { فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين } يعني لما ثاب إلى موسى وعيه مما غشيه من الرهب والصعق قال مخاطبا ربه : { سبحانك ثبت إليك } يعني أنزهك يا رب تنزيها يليق بكمالك وجلالك وعظيم سلطانك أن يراك مخلوق في هذه الدنيا ويقوي بعد ذلك على الثبات أو التماسك . وقد ثبت إليك يا رب عما سألتك إياه من رؤيتك { وأنا أول المؤمنين } أي المؤمنين بك من قومي . وقيل : من بني إسرائيل في هذا الزمان . أو أول من آمن بك أنه لن يراك أحد قبل يوم القيامة{[1519]} .


[1517]:البيان لابن الأنباري جـ 1 ص 374.
[1518]:مختار الصحاح ص 208.
[1519]:تفيسر الطبري جـ 9 ص 34- 38 وتفسير القرطبي جـ 7 ص 278 وفتح القدير جـ 2 ص 243.