الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (143)

قوله : { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه }[ 143 ] الآية .

( ومعنى : { وكلمه ربه } ) {[25127]} ، أي : أفهمه ما شاء من كلامه الذي {[25128]} ليس ككلام المخلوقين الذي [ هو {[25129]} ] حركات اللسان {[25130]} وظهور الأصوات ، فكلامه عز وجل ليس ككلام الآدميين {[25131]} ، إذ ليس كمثله شيء ، ولا يشبهه شيء ، وعلينا أن نقف حيث انتهى بنا العلم ، ولا نكيف ونحد {[25132]} ، ونسلم الأمر لله ( عز وجل ) {[25133]} ، ونقول كما قال ، ولا نشبه ؛ لأنه ، تعالى ، قد نفى التشبيه {[25134]} [ كله {[25135]} ] بقوله : { ليس كمثله شيء } {[25136]} .

ومن لم يمد { دكا }[ 143 ] ، جعله مصدر دككته : إذ {[25137]} كسرته وفتته {[25138]} .

ومعناه {[25139]} : جعله مفتتا كالتراب {[25140]} والمدر {[25141]} . وشاهده قوله : { [ إذا ] {[25142]} دكت الارض دكا دكا {[25143]} } ، وقوله : { فدكتا دكة واحدة {[25144]} } ، فتقديره : جعله مدكوكا ، ثم أقام المصدر مقام اسم المفعول {[25145]} .

وقيل : إن قوله : { جعله دكا } ، مثل : دكه دكا ، فهو مصدر قد عمل فيه فعل من غير لفظه ، فهو محمول على المعنى {[25146]} .

ومن مد { دكا } {[25147]} ، فمعناه {[25148]} : جعله " مثل دكَّاء " {[25149]} ، ثم حذف مثل ، ( وأجراه مجرى ) {[25150]} : { وسئل القرية {[25151]} } . وهو قول الأخفش {[25152]} .

وقال قطرب المعنى : جعله أرضا دكاء ، ثم أقام الصفة مُقام الموصوف مثل : { وقولوا {[25153]} للناس حسنا {[25154]} } {[25155]} .

وقال الفراء : { دكاء } و{ دكا } مثل : " البأس " [ والبأساء {[25156]} ] ، كأنه جعله بمعنى واحد {[25157]} .

ومعنى الآية : قال الربيع في قوله تعالى : { وقربناه نجيا {[25158]} } ، حدثني بعض من لقي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم {[25159]} ، قال : قربه الرب تعالى إليه حتى سمع صريف القلم ، فقال عند ذلك من الشوق : { رب أرني أنظر إليك قال لن تراني } {[25160]}[ 143 ] .

قال السدي : لما كلمه ، أحب أن ينظر إليه ، فقال له : { لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني }[ 143 ] ، فحفَّ الله حول الجبل ملائكته {[25161]} ، وحف حول الملائكة بنار ، وحف حول النار بملائكة ، وحف حول الملائكة بنار ، ثم تجلى ربه للجبل {[25162]} .

وقال أبو بكر الهذلي {[25163]} : تخلف {[25164]} موسى بعد الثلاثين حتى سمع كلام الله ، سبحانه {[25165]} ، اشتاق إلى {[25166]} النظر إليه فقال : { رب أرني أنظر إليك قال لن تراني } ، ( أي ) {[25167]} : ليس {[25168]} أن يطيق {[25169]} أن ينظر إلي في الدنيا ؛ فإن {[25170]} من نظر إليَّ مات ، قال : إلهي ، سمعت كلامك ، واشتقت إلى النظر إليك ، ولأن أنظر إليك ثم أموت ، أحب إليَّ من {[25171]} أن أعيش ولا أراك . قال : فانظر { إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني } {[25172]} .

قال مجاهد : يعني أنه أكبر منك ، وأشد خلقا ، فنظر موسى ، ( عليه السلام {[25173]} ) ، إلى الجبل لا يتمالك[ و ] {[25174]} أقبل يَنْدَكُّ {[25175]} على أوله . فلما رأى موسى ( عليه السلام {[25176]} ) ما يصنع الجبل ، خر صعقا {[25177]} .

وقال {[25178]} الحسن : لما كلمه ربه دخل قلب موسى صلى الله عليه وسلم {[25179]} ، من السرور من كلام الله ( عز وجل ) ، ما لم يصل إلى قلبه مثله قط . فدعت موسى ( عليه السلام {[25180]} ) ، نفسه [ إلى {[25181]} ] أن يسأل ربه ( عز وجل ) ، أن يريه نفسه ، تبارك وتعالى ولو كان عهِد إليه {[25182]} قبل ذلك أنه لا يرى ، ما سأله ذلك {[25183]} .

ويروى : أن موسى عليه السلام مكث بعد أن كلمه ربه عز وجل أربعين ليلة لا يراه [ أحد {[25184]} ] إلا مات من نور رب {[25185]} العزة .

قال وهب : كلم الله ( سبحانه {[25186]} ) ، موسى في ألف مقام ، فكان إذا كلمه الله ، ( سبحانه {[25187]} ) رئي النور على وجهه ثلاثا ، وما قرب موسى عليه السلام النساء مذ كلمه [ الله {[25188]} ] ، جل {[25189]} وعز {[25190]} .

قوله {[25191]} : { فلما تجلى/ربه للجبل }[ 143 ] .

أي : اطلع ( إلى {[25192]} ) الجبل ، { جعله دكا } ، أي مستويا بالأرض { وخر موسى صعقا } ، أي : مغشيا عليه لم يمت {[25193]} .

قال ابن عباس : ما تجلى منه إلا قدر الخنصر ، { {[25194]}جعله دكا } ، أي : ترابا {[25195]} .

وقال {[25196]} قتادة : { صعقا } ، [ أي {[25197]} ] : ميتا {[25198]} .

وقال سفيان : ساخ الجبل في الأرض {[25199]} ، حتى وقع في البحر {[25200]} .

وقال {[25201]} أبو بكر الهذلي : انقعر الجبل فدخل تحت الأرض ، فلا يظهر إلى يوم القيامة {[25202]} .

وروى سفيان الثوري عن الكلبي [ أنه {[25203]} ] قال : ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر الذي تحت الأرضين السبع ، فهو يهوي إلى يوم القيامة {[25204]} .

وقال {[25205]} القتبي {[25206]} : { دكا } : ألصقه بالأرض .

يقال : " ناقة دكَّاء " : إذا لم يكن لها سنام {[25207]} .

وقيل معنى دككت : دققت . أبدل {[25208]} من القافين كافان لقرب مخرجيهما {[25209]} .

وكان الطبري يختار قراءة : ( دكاء ) بالمد {[25210]} ؛ لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم {[25211]} ، أنه ( قال {[25212]} ) : " ساخ {[25213]} الجبل {[25214]} " ، ولم يقل : " تفتت {[25215]} " ، ولا " تحول ترابا " . وإذا ساخ وذهب ظهر وجه الأرض ظهور وجه الأرض ، فصار {[25216]} بمنزلة ( الناقة {[25217]} ) التي ذهب سنامها {[25218]} .

قوله : { فلما أفاق }[ 143 ] .

أي : من غشيته {[25219]} ، { قال سبحانك } ، أي : تنزيها لك ، يا رب ، أن يراك أحد في الدنيا ، ثم يعيش ، { تبت إليك } ، عن مسألتي إياك الرؤية في الدنيا {[25220]} ، { وأنا أول المومنين }[ 143 ] ، أي : أولهم أنك لا تُرى في الدنيا {[25221]} .

قال ابن عباس : مرت الملائكة بموسى وقد صعق ، فقالت : يا ابن النساء الحيَّض ، لقد سألت ربك شيئا عظيما ! فقال : { سبحانك تبت إليك } ، من سؤالي الرؤية في الدنيا ، { وأنا أول المومنين } أي أول من يؤمن ، أي : يصدق بأنه لا يراك شيء من خلقك في الدنيا {[25222]} .

قال ابن عباس : { وأنا أول المومنين } ، أي : أول من آمن بك من بني إسرائيل {[25223]} .

وقال مجاهد : وأنا أول قومي إيمانا {[25224]} .


[25127]:ما بين الهلالين ساقط من ج.
[25128]:في الأصل، و ر: أي: الذي.
[25129]:من ج. وفي ر، أفسدته الرطوبة والأرضة.
[25130]:في ج: حركات الأسنان.
[25131]:في الأصل: دمين، وهو سهو ناسخ. وفي ر: طمس بفعل الرطوبة والأرضة.
[25132]:في ج: ولا نحدد.
[25133]:ما بين الهلالين ساقط من ج.
[25134]:في الأصل: للتشبيه، وهو تحريف.
[25135]:زيادة من (ج) و(ر).
[25136]:الشورى:9. وتمامها: {وهو السميع البصير}. انظر: شرح العقيدة الطحاوية 1/57. وقد بين مكي، فيما مضى مذهب أهل السنة والجماعة في صفة كلام الله، والمصادر هناك.
[25137]:في الأصل: إذ، وهو تحريف. وفي ر، أفسدته الأرضة والرطوبة.
[25138]:في الأصل: وفتنه، وهو تحريف، وفي ر، أفسدته الرطوبة والأرضة.
[25139]:في الأصل: ومناه، وهو سهو ناسخ وفي ر: ومعنى، وهو تحريف.
[25140]:في ج: فوق كلمة "كالتراب" صاد صغيرة، وفي الهامش كلمة لم أتبينها بفعل الرطوبة، وما ورد في المتن صحيح لا شك فيه. انظر: حجة القراءات لأبي زرعة 295.
[25141]:المدر: قطع الطين اليابس. انظر: اللسان /مدر.
[25142]:زيادة من ج، و ر.
[25143]:الفجر: 23.
[25144]:الحاقة: 13.
[25145]:وهي قراءة: ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وابن عامر. انظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع 1/475، وهي الاختيار فيه. ومشكل الإعراب 1/301، وجامع البيان 13/100، والسبعة في القراءات 293، وحجة القراءات 295، وإعراب القراءات السبع وعللها 1/205، وزاد المسير 3/257.
[25146]:انظر: المصادر السالفة، ص: 2539، هامش 15.
[25147]:على وزن حمرا، وهي قراءة حمزة، والكسائي، وهي الاختيار عند الطبري. انظر المصادر السالفة، ص: 2539، هامش 15.
[25148]:في ج: أي وفي ر، أفسدته الرطوبة والأرضة.
[25149]:في الأصل: دكا.
[25150]:زيادة لازمة من جامع البيان 13/101.
[25151]:يوسف: 82. وفي الأصل: ولسئل، وهو تحريف.
[25152]:انظر: معانيه 1/336، والكشف 1/475، ومشكل إعراب القرآن 1/302، وحجة القراءات لأبي زرعة 295.
[25153]:في ج: قولوا، وهو خلاف نص التلاوة.
[25154]:البقرة: 82. أي: قولا حسنا.
[25155]:حجة القراءات لأبي زرعة 95، بتغيير يسير في اللفظ.
[25156]:زيادة من (ج) و(ر).
[25157]:لم أجده في معانيه، سواء هاهنا أو في سورة الكهف آية: 94:{فإذا جاء وعد ربي جعله دكا}.
[25158]:مريم: 52.
[25159]:ما بين الهلالين ساقط من ج.
[25160]:جامع البيان 13/91.
[25161]:في ج: ملائكة.
[25162]:جامع البيان 13/90.
[25163]:هو: أبو بكر الهذلي، البصري، اسمه: سلمى بن عبد الله. أخباري متروك الحديث. توفي سنة 167هـ. انظر: تهذيب التهذيب 4/498، وتقريبه 552.
[25164]:في الأصل، و"ر": لما تخلف، ولا يستقسم به السياق، وأثبت ما في ج.
[25165]:في ج: عز وجل.
[25166]:إلى، لحق في ج.
[25167]:ما بين الهلالين ساقط من ج.
[25168]:في ج: وليس.
[25169]:في الأصل: أن يطبق، وهو تصحيف.
[25170]:في الأصل: قال، وأحسبه تحريفا. وأثبت ما في ر، وهو ساقط من ج.
[25171]:في الأصل: عن.
[25172]:جامع البيان 13/91.
[25173]:ما بين الهلالين ساقط من ج. وفي ر: رمز: صم صلى الله عليه وسلم.
[25174]:زيادة لازمة من جامع البيان.
[25175]:في الأصل: يدد، بدالين مهملتين، ولا معنى له.
[25176]:ما بين الهلالين ساقط من ج. وفي ر، رمز: صم صلى الله عليه وسلم.
[25177]:جامع البيان 13/100، والدر المنثور 3/544.
[25178]:في ج: قال، الواو ساقطة.
[25179]:في ر: رمز إليها برمز: صم. وما بين الهلالين ساقط من ج.
[25180]:ما بين الهلالين ساقط من ج. وفي ر، رمز: صم صلى الله عليه وسلم. ومن قوله "من السرور" إلى: "عليه السلام" لحق في الأصل.
[25181]:ما بين الهلالين ساقط من ج.
[25182]:في الأصل: الله، وهو تحريف. وفي ر: أفسدته الرطوبة والأرضة.
[25183]:تفسير هود بن محكم الهواري 1/43.
[25184]:زيادة من (ج) و(ر).
[25185]:في ر: رب العالمين العزة.
[25186]:ما بين الهلالين ساقط من ج، وفي ر: تعالى.
[25187]:ما بين الهلالين ساقط من ج.
[25188]:زيادة من (ج) و(ر).
[25189]:في ر: جل ذكره، وفي ج عز وجل.
[25190]:المحرر الوجيز 2/450، والبحر المحيط 4/380.
[25191]:في ج: وقوله.
[25192]:ما بين الهلالين ساقط من "ر".
[25193]:جامع البيان 13/97.
[25194]:في ج: فجعله، وهو تحريف.
[25195]:جامع البيان 13/97، وتمام نصه: {وخر موسى صعقا} قال: مغشيا عليه. وأورده ابن كثير في تفسيره 2/244.
[25196]:في ج: قال، وفي ر، طمس بفعل الرطوبة والأرضة.
[25197]:زيادة من ج، ومصادر التوثيق أسفله.
[25198]:جامع البيان 13/97، وتفسير ابن أبي حاتم 5/1561، وتفسير الماوردي 2/258، وتفسير البغوي 3/278، وتفسير ابن كثير 2/244، وتعقب فيه، والدر المنثور 3/547. انظر: زاد المسير 3/257، والبحر المحيط 4/383.
[25199]:في الأرض حتى وقع، لحق في ج.
[25200]:جامع البيان 13/98، وتمام نصه: فهو يذهب معه. وأورده ابن كثير 2/244. وانظر: تفسير سفيان الثوري 113، وتفسير ابن أبي حاتم 5/161، والدر المنثور 3/546.
[25201]:في ج: قال.
[25202]:جامع البيان 13/98، وتفسير ابن كثير 2/244.
[25203]:زيادة من (ج) و(ر).
[25204]:انظر المحرر الوجيز 2/451، والبحر المحيط 4/383.
[25205]:في ج: قال.
[25206]:في الأصل: القتيبي، وهو تحريف: وفي ر، طمس بفعل الرطوبة والأرضة.
[25207]:تفسير غريب القرآن 172. وأورده المؤلف في تفسير المشكل من غريب القرآن 175، مختصرا.
[25208]:انظر: علة إبدال الحروف في الرعاية 190.
[25209]:غريب ابن قتيبة 172. وساقه ابن الجوزي في الزاد 3/257، منسوبا. انظر: الرعاية 145-148، باب القاف وباب الكاف.
[25210]:بالمد وترك الجر والتنوين، مثل: "حمراء" و"سوداء" كما في جامع البيان 13/100.
[25211]:في ج: عليه السلام.
[25212]:ما بين الهلالين ساقط من ج.
[25213]:في جامع البيان فساخ.
[25214]:انظره بتمامه في جامع البيان 13/98، 99، مخرجا فيه من قبل محققه الشيخ محمود شاكر، رحمه الله.
[25215]:في جامع البيان فتفتت.
[25216]:في ج: وصار.
[25217]:ما بين الهلالين ساقط من ج.
[25218]:جامع البيان 13/101، بتصرف يسير.
[25219]:جامع البيان 13/102، وتمام نصه: "وذلك هو الإقامة من الصعقة التي خر لها موسى، صلى الله عليه وسلم".
[25220]:قال القرطبي في تفسيره 7/147: "وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية، فإن الأنبياء معصومون. وأيضا عند أهل السنة والجماعة الرؤية جائزة".
[25221]:جامع البيان 13/102، بتصرف يسير.
[25222]:جامع البيان 13/103، بتصرف.
[25223]:جامع البيان 13/104.
[25224]:تفسير هود بن محكم الهواري 2/44، وجامع البيان 13/104، وهو الاختيار فيه، وتفسير ابن أبي حاتم 5/1562، والدر المنثور 3/547.