السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (143)

{ ولما جاء موسى لميقاتنا } أي : للوقت الذي وعدناه للكلام فيه { وكلمه ربه } دلت الآية الكريمة على أنه تعالى كلم موسى عليه السلام والناس مختلفون في كلام الله تعالى ، قال الزمخشريّ في كشافه : وكلمه ربه من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطاً في اللوح ، اه . وهذا مذهب المعتزلة ولا شك في بطلانه وفساده لأنّ ذلك الجرم كالشجرة لا يقول : أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري فثبت بذلك بطلان ما قالوه وذهب بعض الحنابلة والحشوية إلى أنّ كلام الله تعالى حروف وأصوات متقطعة وأنه قديم ، قال الإمام الرازي : وهذا القول أخس من أن يلتفت إليه العقل والذي عليه أكثر أهل السنة والجماعة أنّ كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وأنّ موسى سمع تلك الصفة الحقيقية الأزلية ، قالوا : كما أنه لا يبعد رؤية ذاته مع أنّ ذاته ليست جسماً ولا عرضاً كذلك لا يبعد سماع كلامه مع أنّ كلامه لا يكون حرفاً ولا صوتاً .

وفيما روي أنّ موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أنّ سماع كلامه تعالى القديم ليس من جنس كلام المحدثين وهل كان سبحانه وتعالى كلم موسى وحده أو مع أقوام آخرين ؟ ظاهر الآية يدل للأوّل لأنّ قوله تعالى : { وكلمه ربه } يدل على تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف والتخصيص بالذكر يدل على نفي الحكم عمن عداه ، وقال القاضي : بل السبعون المختارون سمعوا أيضاً كلام الله تعالى ، قال : لأنّ الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم موسى عليه السلام عما يجري هناك وهذا المقصود لا يتم إلا عند سماع الكل وأيضاً فإنّ تكليم الله تعالى على هذا الوجه معجز وقد تقدّمت نبوّة موسى عليه السلام فلا بدّ من ظهور هذا المعنى لغيره ، ولما سمع عليه السلام كلام ربه اشتاق إلى رؤيته سبحانه وتعالى { قال رب أرني أنظر إليك } قال في الكشاف : ثاني مفعولي أرني محذوف أي : أرني نفسك أنظر إليك .

فإن قيل : الرؤية عين النظر فكيف قيل : أرني أنظر إليك ؟ أجيب : بأنّ معنى أرني نفسك اجعلني متمكناً من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك وفي هذا دليل على أنّ رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأنّ طلب المستحيل من الأنبياء محال خصوصاً ما يقتضي الجهل بالله تعالى ولذلك ردّه بأن { قال } له { لن تراني } دون لن أرى ولن أريك ولن تنظر إليّ تنبيهاً على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على بعد في الرائي لم يوجد فيه بعد وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين : قالوا : { أرنا الله جهرة } ( النساء ، 153 ) كما قاله الزمخشري أشدّ خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيل شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا : اجعل لنا إلهاً والاستدلال بالجواب وهو قوله تعالى : { لن تراني } على استحالتها أشدّ خطأ إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته إياه على أنه لا يراه أبداً وأن لا يراه غيره أصلاً فضلاً عن أن يدل على استحالته فإنّ أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة قالوا : ( لن ) تكون لتأبيد النفي وهو خطأ لأنها لو كانت للتأبيد لزم التناقض بذكر اليوم في قوله تعالى : { فلن أكلم اليوم إنسياً } ( مريم ، 26 ) ولزم التكرار بذكر أبداً في قوله تعالى : { ولن يتمنوه أبداً } ( البقرة ، 95 ) ولن تجتمع مع ما هو لانتهاء الغاية نحو قوله تعالى : { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي } ( يوسف ، 80 )

وأمّا تأبيد النفي في قوله تعالى : { لن يخلقوا ذباباً } ( الحج ، 73 ) فلأمر خارجيّ لا من مقتضيات لن ولا تقتضي تأكيد النفي أيضاً خلافاً للزمخشريّ في كشافه بل قولك : لن أقوم ، محتمل لأن تريد به أنك لا تقوم أبداً وأنك لا تقوم في بعض الأزمنة المستقبلة وهو موافق لقولك : لا أقوم ، في عدم إفادة التأكيد وقوله تعالى : { ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني } استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيق الرؤية وفي تعليق الرؤية بالاستقرار أيضاً دليل على جوازها لأنّ استقرار الجبل عند التجلي ممكن بأن يجعل الله تعالى له قوّة على ذلك والمعلق على الممكن ممكن و( تراني ) في الحرفين الياء ثابتة وقفاً ووصلاً ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر النون والباقون بالضم ، قال وهب بن منبه ومحمد بن إسحاق : لما سأل موسى ربه الرؤية أرسل الله الضباب والصواعق والرعد والبرق حتى أحاطت بالجبل الذي عليه موسى أربعة فراسخ من كل جانب وأمر الله تعالى ملائكة السماوات أن يعرضوا على موسى عليه السلام فمرّت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقر تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ثم مرّت به ملائكة السماء الثانية كأمثال الأسود لهم لجب بالتسبيح والتقديس ففزع مما رأى وسمع واقشعرّت كل شعرة في جسده ورأسه ثم قال : لقد ندمت على مسألتي فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء ؟ فقال له رئيس الملائكة : يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم مرّت به ملائكة السماء الثالثة كأمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس كلجب الجيش العظيم ألوانهم كلهب النار ففزع موسى عليه السلام واشتدّ فزعه وأيس من الحياة فقال له رأس الملائكة : مكانك يا ابن عمران حتى ترى ما لا صبر لك عليه ثم مرّت به ملائكة السماء الرابعة لا يشبههم شيء من الذين مرّوا به ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شيء من الذين مرّوا به قبلهم فاصطكت ركبتاه وأرعب

قلبه واشتد بكاؤه فقال له رأس الملائكة : يا ابن عمران اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم مرّت به ملائكة السماء الخامسة لهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره لم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفاً واشتدّ حزنه وكثر بكاؤه فقال له رأس الملائكة : يا ابن عمران مكانك حتى ترى بعض ما لا تصبر عليه ثم مرّت به ملائكة السماء السادسة وفي يد كل واحد منهم مثل النخلة الطويلة نور أشدّ ضوأً من الشمس ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدّسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السماوات كلهم يقولون بشدّة أصواتهم : سبوح قدّوس ربّ العزة أبداً لا يموت في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم وهو يبكي ويقول : يا رب اذكرني ولا تنس عبدك لا أدري أنفلت مما أنا فيه أم لا إن خرجت احترقت وإن مكثت احترقت ، فقال له رأس الملائكة : قد أوشك يا ابن عمران أن يشتدّ خوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي سألت ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه ملائكة السماء السابعة فلما بدا نور العرش انصدع نور الجبل من عظمة الله تعالى ورفعت الملائكة أصواتهم جميعاً يقولون : سبحان الملك القدّوس رب العزة أبداً لا يموت بشدّة أصواتهم فارتج الجبل واندك وذلك قوله تعالى : { فلما تجلى ربه } أي : ( أظهر من نوره قدر نصف أنملة الخنصر ) كما في حديث صححه الحاكم { للجبل } أي : جبل زبير بفتح الزاي والإضافة فيه بيانية لقول الجوهري : الزبير اسم للجبل الذي كلم الله تعالى عليه السلام عليه { جعله دكاً } أي : مدكوكاً مفتتاً ، وحكي عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نوراً قدر الدرهم فجعل الجبل دكاً مستوياً بالأرض والدك والدق أخوان ، وقال ابن عباس : جعله تراباً ، وقال سفيان : ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب فيه ، وقال الكلبي : كسر جبالاً صغاراً ، قال البغويّ : ووقع في بعض التفاسير صار لعظمته ستة أجبل وقعت ثلاثة بالمدينة أحد وورقان ورضوى ووقعت ثلاثة بمكة ثور وثبير وحراء .

وقرأ حمزة والكسائيّ بألف بعد الكاف وهمزة مفتوحة من غير تنوين وصلاً ووقفاً أي : مستوياً ومنه ناقة دكاء للتي لا سنام لها والباقون بالتنوين بعد الكاف والوقف على ألف التنوين { وخرّ } أي : وقع { موسى صعقاً } أي : مغشياً عليه من هول ما رأى غشية كالموت ، وروي أنّ الملائكة مرّت عليه وهو مغشيّ عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون له : يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة { فلما أفاق } من غشيته { قال } تعظيماً لما رأى { سبحانك } أي : تنزيهاً لك من النقائص كلها { تبت إليك } أي : من الجراءة والإقدام على السؤال بغير إذن ، وقيل : لما كانت الرؤية مختصة بمحمد صلى الله عليه وسلم فمنعها قال : سبحانك تبت إليك من سؤالي ما ليس لي ، وقيل : لما سأل الرؤية ومنعها قال : تبت إليك من هذا السؤال وحسنات الأبرار سيئات المقرّبين { وأنا أوّل المؤمنين } أي : في زماني ، وقيل : أنا أوّل من أمن إنك لا ترى في الدنيا أي : لكل الأنبياء وإلا فالرؤية ثابتة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء على الصحيح وللزمخشري هنا في كشافه على مذهبه الفاسد في عدم الرؤية مطلقاً تأويلات فلتحذر .