اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (143)

قوله : { وَلَمَّا جَاءَ موسى لِمِيقَاتِنَا } اللام في لِمِيقَاتِنَا للاختصاص ، وكذا في قوله تعالى { لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] ، وليست بمعنى عند .

قوله : { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } ، هذه الفائدة التي لأجلها حضر موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الميقات واختلفُوا في أنَّهُ تعالى كلَّمَ مُوسَى وحدَه ، أو مع أقوام آخرين . وظاهر الآيةِ أنَّهُ تعالى كَلَّمَهُ وحده ؛ لأنَّهُ يدلُّ على تخصيص موسى بهذا التَّشريف .

وقال القَاضِي : " بل السَّبْعُونَ المختارُونَ سمعوا كلام الله ؛ لأن الغرضَ بإحضارهم أن يخبرُوا قومَ موسى عمَّا يَجْرِي هَنَاكَ " .

فصل

دَلَّت الآيةُ على أنَّهُ تعالى يجوز أن يُرَى ؛ لأنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - سأل الرُّؤية ، ولا شَكَّ أنَّه كان عارفاً بما يجب ويجوز ويمتنع على اللَّهِ ، فلو كانت الرُّؤية ممتنعة على اللَّه تعالى لما سألها ، وأنكرت المعتزلةُ ذلك ، والبحثُ في هذه المسألة مذكور في كتب أصُولِ الدِّينِ .

فصل

نقل عن ابن عبَّاس أنه قال : جاء موسى ومعه السَّبْعُون ، وصعد موسى الجبلَ وبقي السَّبعون في أسفل الجبل ، وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى ، وكتب له في الألواح كتاباً وقرَّبُه نَجِيّاً ، فلمَّا سمع موسى صرير القلم عظم شوْقُهُ .

فقال : { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ }{[16781]} .

قوله : " أرنِي " مفعولُه الثَّانِي محذوفٌ ، تقديره : أرني نَفسكَ ، أو ذاتكَ المقدَّسةَ ، وإنَّما حذفهُ مبالغةً في الأدب ، حيثُ لم يواجِهْهُ بالتَّصريح بالمفعول ، وأصل " أرِني " " أرْإنِي " فنُقِلَتْ حركةُ الهمزة ، وقد تقدَّم تَحْريرُه .

فصل

فإن قيل : النَّظَرُ إمَّا أن يكون عبارة عن الرُّؤية ، أو عن مقدِّمتها ، وهي تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التِمَاساً لرؤيته ، وعلى التَّقديرِ الأولِ : يكون المعنى : أرِنِي حَتَّى أراك ، وهذا فاسدٌ ، وعلى التقدير الثانِي : يكون المعنى : أرِنِي حتى أقلِّبَ الحدقة إلى جانبك وهذا فاسدٌ لوجهين : أحدهما : أنَّهُ يقتضي إثبات الجهة . والثاني : أنَّ تَقْلِيبَ الحدقةِ إلى جهة المرئي مقدمة للرؤية ؛ فجعله كالنَّتِيجَةِ عن الرُّؤيةِ وذلك فاسد .

فالجوابُ : أن معنى أرِنِي : اجعلني متمكناً من رؤيتك حتَّى أنظر إليك وأرَاكَ .

فإن قيل : كيف سأل الرُّؤية وقد علم أنَّهُ لا يرى ؟

قال الحسنُ : هاج به الشَّوق ؛ فسأل الرؤية .

وقيل : سأل الرُّؤية ظَنّاً منه أنَّهُ يجوز أن يرى في الدُّنيا .

قوله : " لَن تَرَانِي " قد تقدَّم أنَّ " لَنْ " لا يلزم مِنْ نَفْيِهَا التَّأبِيدُ ، وإن كان بعضُهم فهم ذلك ، حتى إنَّ ابن عطيَّة قال " فلو بَقينَا على هذا النَّفي المجرَّد لتضمن أنَّ موسى لا يراه أبَداً ، ولا في الآخرة لكن ورد من جهةٍ أخرى في الحدث المتواتر أنَّ أهلَ الجنَّةِ يَرَوْنَهُ " .

قال شهابُ الدِّينِ{[16782]} : " وعلى تقدير أنّ " لَنْ " ليست مقتضيةً للتَّأبيد ، فكلامُ ابْنِ عطيَّة وغيره مِمَّنْ يقولُ : إنَّ نفيِ المستقبل بعدها يَعُمُّ جميع الأزمنة المستقبلة - صحيح ، لكن لِمَدْرَكٍ آخَرَ ، وهو أنَّ الفعلَ نكرةٌ ، والنكرةُ في سياق النَّفي تَعُمُّ ، وللبحث فيه مجال " .

والدليل على أنَّ " لَنْ " لا تقتضي التَّأبيد قوله تعالى : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } [ البقرة : 95 ] أخبر عن اليهود ، ثم أبخر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرةِ يقولون : { لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [ الزخرف : 77 ] { يا ليتها كَانَتِ القاضية } [ الحاقة : 27 ] .

فإن قيل : كيف قال : " لَن تَرَانِي " ولم يقل : لن تنظر إليَّ ، حتَّى يُطابق قوله أنظرْ إليكَ ؟ فالجوابُ أنَّ النَّظَرَ لمَّا كان مقدمة للرُّؤية كان المقصودُ هو الرُّؤيةُ لا النَّظرُ الذي لا رؤية معه .

والاستدراكُ في قوله : { ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } واضح ، فإن قلت : كيف اتصل الاستدراك في قوله : { ولكن انظر إلى الجبل } فالجوابُ : المقصودُ من تعظيمُ أمر الرُّؤيةِ ، وأنَّ أحَداً لا يقوى على رؤية الله تعالى إلاَّ إذَا قواه الله بمعونته وتأييده ؛ ألا ترى أنَّهُ لما ظهر أثر التَّجلي والرُّؤية للجبل اندكّ ؛ فدل ذلك على تعظيم أمر الرُّؤيةِ .

فصل

وقال الزمخشريُّ{[16783]} : فإن قلت : كيف اتَّصل الاستدراكُ في قوله : ولكِن انظرْ .

قلت : اتَّصَلَ به على معنى أنَّ النَّظر إليَّ محالٌ فلا تطلبه ، ولكن اطلب نظراً آخر ، وهو أن تنظر إلى الجبل .

وهذا على رأيه من أنَّ الرُّؤية محالٌ مطلقاً في الدُّنيا ، والآخرة .

قوله : { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } : عَلَّقَ الرُّؤية على استقرار الجبل ، واستقرار الجبل على التَّجلي غير مستحيل إذا جعل الله له تلك القوة ، والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالاً .

قوله { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } : قال الزَّجَّاجُ : " تَجَلَّى " أي : " ظهر وبان " .

ومنه يقالُ : جلوتُ العروس إذا أبْرَزْتهَا ، وجلوتُ السَّيف والمرآة : إذا أزلت ما عليهما من الصَّدَأ . وهذا الجبل أعظم جبل بمدين يقال له : زبير .

قال ابن عباس : ظهر نُور ربِّهِ للجبل .

قوله : " جَعَلهُ دَكّاً " قرأ الأخوان{[16784]} " دَكَّاءَ " بالمدِّ ، غير منوَّن ، على وزن " حمراء " والباقون بالقصر والتَّنوين ، فقراءةُ الأخوين تحتمل وجهين :

أحدهما : أنَّها مأخوذةٌ من قولهم : " ناقةٌ دَكَّاء " أي : منبسطة السَّنَام ، غير مرتفعة ، والمعنى جعله مستوياً . وإما من قولهم : أرض دكاء للناشزة روي أنَّهُ لم يذهب كله ، بل ذهب أعلاه .

وأمَّا قراءةُ الجماعة ف " الدَّكُّ " مصدر واقع موقع المفعول به بمعنى المدكوك ، أي : مَدْكوكاً ، أو من دكَّ ، أو على حذف مضاف أي ذا دَكّ ، والمعنى : جعله مدقوقاً والدَّك والدَّقّ واحد ، وهو تفتيت الشيء وَسَحْقُهُ .

وقيل : تسويته بالأرض .

في انتصابه على القراءتين وجهان ، أشهرهما : أنَّهُ مفعولٌ ثان ل " جَعَلَ " بمعنى : صَيَّرَ .

والثاني - وهو رأي الأخفش - : أنَّهُ مصدرٌ على المعنى ، إذ التقدير : دَكَّهُ دَكّاً ، وأما على القراءة الأولى فهو مفعول فقط أي صيره مثل ناقة دكاء أو الأرض دكاً .

وقرأ ابنُ وثَّاب{[16785]} دُكّاً بضم الدَّالِ والقصر ، وهو جمع دَكَّاء بالمد ، ك : حُمْر في حمراء ، وغُرّ في غَرَّاء أي : جعله قِطَعاً .

قال الكلبي : كسراً جبالاً صغاراً . ووقع في بعض التَّفاسير أنَّه تكسر سِتَّة أجْبُلِ ، ووقعت ثلاثة بالمدينة : أحد ، وودقان ، ورضوى ، ووقعت ثلاثة بمكة : ثور ، وثبير ، وحِرَاء{[16786]} .

قوله : { وَخَرَّ موسى صَعِقاً } . الخُرورُ : السُّقُوطُ كذا أطلعه أبو حيَّان وقيَّدَهُ الرَّاغب بسقوطٍ يُسمع له خريرٌ ، والخريرُ يقال لصوت الماءِ والريحِ .

ويقال كذلك لما يَسْقُطُ من علوٍّ وصَعِقاً حالٌ مقارنةٌ .

قال اللَّيْثُ : الصَّعْقُ مثل الغَشْي يأخذُ الإنسانَ والصَّعْقَةُ الغشي .

يقال : صُعِقَ الرَّجُلُ يُصْعَقُ ، فهو مصعوق .

قال ابنُ عبَّاس : مَغْشياً عليه{[16787]} .

وقال قتادةُ : ميتاً{[16788]} .

يقال : صَعِقَ إذا مات .

قال تعالى : { فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } [ الزمر : 68 ] فسَّرُوه بالموتِ .

وقال : { يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ } [ الطور : 45 ] أي : يموتون .

قال الزمخشريُّ : " صعق أصله من الصَّاعقة " .

قال الزمخشريُّ : " صعق أصله من الصَّاعقة " .

والقولُ الأوَّلُ أولى ؛ لقوله تعالى { فَلَمَّا أَفَاقَ } .

قال الزَّجَّاجُ : " ولا يقال للميتِ : قد أفاق من موته ، وقال تعالى في الذين ماتوا ثم أحيوا : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } [ البقرة : 56 ] .

قوله : { فَلَمَّا أَفَاقَ } الإفاقة : رجوعُ الفهم والعقل إلى الإنسان بعد جنونٍ أو سُكرٍ ومنه إفاقة المريض ، وهي رجوعُ قوته ، وإفاقةُ الحلب ، وهي رجوع الدِّرِّ إلى الضَّرع .

يُقال : اسْتَفِقْ ناقَتَكَ أي : اتركها حتَّى يعود لَبَنُها ، والفُواق : ما بين حَلْبَتَي الحالب . وسيأتي بيانه [ ص15 ] إن شاء الله تعالى .

قوله سُبْحَانَكَ أي : تنزيهاً لك من أن أسألك شيئاً بغير إذنك تُبْتُ إليكَ من سؤال الرُّؤية في الدُّنيا ، أو من سؤال الرُّؤية بغير إذنك . { وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } بأنك لا تُرَى في الدنيا ، أو بأنَّه لا يجوز السُّؤال منك إلاَّ بإذنك .

وقيل : أوَّلُ المؤمنين من قومي .

وقيل : من بني إسرائيل في هذا العصر .


[16781]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/190) عن ابن عباس وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/220) وعزاه لأبي الشيخ.
[16782]:ينظر: الدر المصون 3/338.
[16783]:ينظر: الكشاف 2/154.
[16784]:ينظر: السبعة 293، والحجة 4/75، وإعراب القراءات 1/205، وحجة القراءات 295، وإتحاف فضلاء البشر 2/62.
[16785]:ينظر: الكشاف 2/155، والبحر المحيط 4/184 والدر المصون 3/339.
[16786]:ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/222) عن أنس بن مالك مرفوعا وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي الشيخ.
[16787]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/53) وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/222) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في الرؤية.
[16788]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/53) عن قتادة.