جَوابُ { لَمَّا } في قوله : { قَالَ } ، والمعنى أنَّه لمَّا كلَّمه اللَّه عزَّ وجلَّ ، وخصَّه بهذه المرتبة ، طَمَحَتْ همته إِلى رُتْبة الرؤْية ، وتشوَّق إِلى ذلك ، فسأل ربَّه الرؤية ، ورؤيةُ اللَّه عز وجلَّ عند أهل السنة جائزةٌ عقْلاً ، لأنه من حيثُ هو موجودٌ تصحُّ رؤيته ، قالوا : لأن الرؤية للشَّيْءِ لا تتعلَّق بصفةٍ مِنْ صفاته أَكْثَرَ من الوُجُود ، فموسى عليه السلام لم يسأَلْ ربَّه محالاً ، وإِنما سأله جائزاً .
وقوله سبحانه : { لَن تَرَانِي ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ . . . } .
ليس بجواب مَنْ سأل محَالاً ، و( لَنْ ) تنفي الفعْلَ المستقبَلَ ، ولو بقينا مع هذا النفْي بمجرَّده لقضينا أنه لا يَرَاهُ موسى أبداً ، ولا في الآخرةِ ، لكنْ ورد من جهة أخرى بالحديثِ المتواتر ، أنَّ أهل الإِيمانَ يَرَوْنَ اللَّه يوم القيامة ، فموسى عليه السلام أحرَى برؤيته ، قُلْتُ : وأيضاً قال تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 و 23 ] فهو نصٌّ في الرؤية بيَّنه صلى الله عليه وسلم .
ففي ( الترمذي ) عن ابن عمر ، قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( إِنَّ أدنى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إلى جنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ ، وَأَكْرَمُهُمْ على اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إِلى وَجْهِهِ غُدْوَةً وعَشيَّةً ) ، ثم قرأ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 ، 23 ] قال أبو عيسى : وقد روي هذا الحديثُ مِنْ غير وجه مرفوعاً ، وموقوفاً ، انتهى .
قال مجاهد وغيره : إن اللَّه عز وجل قال له : يا موسى ، لن تراني ، ولكنّ سأتجلَّى للجَبَل ، وهو أقوى منك ، وأَشَدُّ ، فإِن استقر وأطاقَ الصبْرَ لهيبتي ، فسَتُمْكِنُكَ أَنْتَ رؤيتي .
قال ( ع ) : فعلى هذا إِنما جعل اللَّه الجَبَل مثالاً ، قلتُ : وقول ( ع ) : ولو بَقِينَا مَعَ هذا النفْي بمجرَّده ، لَقَضَيْنَا أنَّه لا يراه موسَى أبداً ولا في الآخرة ، قولٌ مرجوحٌ لم يتفطَّن له رحمه اللَّه ، والحقُّ الذي لا شَكَّ فيه أَنَّ { لن } لا تقتضي النفْيَ المؤبَّد .
قال بدْرُ الدين أبو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مالِكٍ في شرح " التَّسْهِيلِ " : وَ( لَنْ ) كغيرها من حروفِ النفي في جواز كون استقبال المنفيِّ بها منقَطعاً عنْدَ حَدٍّ وغَيْرَ منقطعٍ ، وذكر الزمخشريُّ في " أُنْمُوذجِهِ " أَنَّ ( لَنْ ) لتأبيدِ النفْي ، وحاملُهُ على ذلك اعتقادُهُ أنَّ اللَّه تعالى لا يُرَى ، وهو اعتقادٌ باطلٌ ، لصحَّةَ ثبوتِ الرؤية عن رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، واستدل على عدم اختصاصها بالتأبيد بمجيء استقبال المنْفِيِّ بها مُغَيًّا إِلى غايةٍ ينتهي بانتهائها ، كما في قوله تعالى : { قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عاكفين حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى } [ طه : 91 ] وهو واضح ، انتهى . ونحوه لابْنِ هشامٍ ، ولفظه : ولا تفيدُ ( لَنْ ) توكيدَ المنفيِّ ، خلافاً للزمخشريِّ في «كشافه » ، ولا تأْبِيدَهُ ، خلافاً له في «أنموذجه » ، وكلاهما دعوى بلا دليلٍ ، قيل : ولو كانَتْ للتأبيدِ ، لم يقيد منفيُّها ب «اليوْم » في { فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } [ مريم : 26 ] ولكان ذكْرُهُ «الأَبَدَ » في { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا } [ البقرة : 95 ] تَكْراراً ، والأصل عدمه ، انتهى من «المغني » .
وقوله سبحانه : { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ }[ الأعراف :143 ] التجلِّي : هو الظهورُ منْ غير تشبيهٍ ولا تكييفٍ ، وقوله : { جَعَلَهُ دَكّاً } المعنى : جعله أرضاً دكًّا ، يقال : ناقةٌ دَكَّاء ، أَيْ : لا سنامَ لها ، { وَخَرَّ موسى صَعِقاً } ، أي : مغشيًّا عليه ، قاله جماعة من المفسِّرين .
قال ( ص ) : { وَخَرَّ } معناه سقَطَ ، وقوله : { سبحانك } ، أي : تنزيهاً لك ، كذا فسَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { تُبْتُ إِلَيْكَ } معناه : منْ أن أسألك الرُّؤْية في الدنيا ، وأنْتَ لا تبيحها فيها .
قال ( ع ) : ويحتمل عنْدي أنه لفظ قاله عليه السلام ، لشدَّة هَوْل المَطْلَعَ ، ولم يعن التَّوْبَة مِنْ شيء معيَّن ، ولكنَّه لفظٌ لائقٌ بذلك المقامِ ، والذي يتحرَّز منه أَهْلُ السنة أنْ تكون تَوْبَةً من سؤال المُحَال ، كما زعَمَتِ المعتزلةُ ، وقوله : { وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } ، أي : مِنْ قومه ، قاله ابن عباس وغيره ، أَو مِنْ أَهْلِ زمانه ، أنْ كان الكُفْر قد طَبَّق الأرض ، أو أولُ المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا ، قاله أبو العالية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.