{ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا } أي الوقت سأله أن يكلمه فيه والميقات مفعال من الوقت كالميعاد والبلاد انقلبت الواو ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها .
قال المفسّرون : إنّ موسى ( عليه السلام ) تطهّر وطهّر ثيابه لميعاد ربه فلما أتى بطور سيناء { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } وناجاه وأدناه حتّى سمع حروف القلم فاستجلى كلامه واشتاق [ إلى رؤيته ] وطمع فيها { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } قال ابن عباس : أعطني أنظر إليك { قَالَ } الله تعالى { لَن تَرَانِي } وليس بشراً [ لا ] يطيق النظر إليّ في الدنيا ، من نظر إليّ مات ، فقال له : سمعت كلامك واشتقت إلى النظر إليك [ فلئن ] أنظر إليك وأموت أحب إليّ من أن أعيش ولا أراك فقال الله تعالى { وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } فهو أعظم جبل بمدين يُقال له : زبير فلمّا سمعت الجبال ذلك تعاظمت رجاء أن يتجلّى منها الله لها وجعل زبير يتواضع من تبيان فلمّا رأى الله تعالى تواضعه رفعه من بينهما وخصّه بالتجلّي .
قال السدي : لمّا كلّم الله موسى خاض الخبيث إبليس في الأرض حتّى خرج بين قدمي موسى فوسوس إليه وقال : إن مكلمك الشيطان فعند ذلك سأل الرؤية فقال الله تعالى : لن تراني [ . . . . . . ] تعلّقت [ . . . . . . ] الرؤية بهذه الآية ، ولا دليل لهم فيها لأنّ ( لن ) ههنا لا توجب التأبيد وإنما هي للتوقيت لقوله تعالى حكاية عن اليهود
{ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ } [ البقرة : 95 ] يعني الموت ثمّ حكى عنهم أنهم يقولون لمالك
{ يمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [ الزخرف : 77 ] . و
{ يلَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ } [ الحاقة : 27 ] يعني الموت ، وقال سبحانه
{ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ } [ آل عمران : 92 ] يعني الجنّة
{ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] وقد يدخل الجنّة مَنْ لا يُنفق ممّا [ علمت ] فمعنى الآية لن تراني في الدنيا وإنما تراني في العقبى .
قال عبد العزيز بن يحيى : قوله { لَن تَرَانِي } جواب قول موسى ( أرني أنظر إليك ) ولا تقع على الآخرة ، لأن موسى لم يقل أرني أنظر إليك في الآخرة إنما سأله الرؤية في الدنيا فأُجيب عما سأل ولا حجّة فيه لمَنْ أنكر الرؤية .
وقيل : معنى { لَن تَرَانِي } أي لا تقدر أن تراني ، وقيل : معناه لن تراني بعين فانية وإنما تراني بعين باقية ، وقيل : لن تراني قبل محمد وأُمته وإنما تراني بعد محمد وأُمته ، وقيل : معناه لن تراني بالسؤال والدعاء وإنما تراني بالنوال والعطاء إنّه لو أعطاه إياه بسؤاله لكانت الرؤية مكافأة السؤال ، ويجوز أن يكون فعله مكافأة فعل عبده ولا يجوز أن يكون هو مكافأة فعل عبده .
وقيل : معناه لن تراني بالعين التي رأيت بها عدوي وذلك أنّ الشيطان تراءى له فوسوس إليه ، فقال الله تعالى : ياموسى أما تعلم أنّ رؤية الخبيث والله لا يجتمعان في حال واحد ومكان واحد وزمان واحد .
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت عليّ بن مهدي الطبري يقول : لو كان سؤال موسى مستحيلاً لما أقدم عليه نبي الله موسى ( عليه السلام ) مع علمه ومعرفته بالله عن اسمه كما لم تجز أن يسأله لنفسه صاحبة ولا ولداً .
وقال الله عزّ وجلّ : { وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } واستقراره بكونه وثباته .
قال المتكلّمون من أهل الشام : لما علق الله [ الرؤية باستقراره ] دلّ على جواز الرؤية لأن استقراره غير محال فدلّ على أن ما [ علق ] عليه من كون الرؤية غير محال أيضاً ألا ترى أن دخول الكفار الجنّة لما كان مستحيلاً علقه بشيء مستحيل . وهو قوله { وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } [ الأعراف : 40 ] .
وقال أهل الحكمة والاشارة : إن الكليم لما أراد الخروج إلى الميقات جعل بين قومه وبين ربه واسطة يقول لأخيه هارون : { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } فلما سأل الرؤية جعل الله تعالى بينه وبينها واسطة وهو الجبل لقوله تعالى { لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } فقال : وكأنّه يقول إن لم أصلح لخلافتك دون أخيك فأنت أيضاً لأنه لم ترونني دون استقرار الجبل { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } .
قال وهب : لما سأل موسى الرؤية أرسل إليه الضباب والصواعق والظلمة والرعد والبرق فأحاطت بالجبل الذي عليه موسى فأمر الله ملائكة السماوات أن يعترضوا على موسى أربعة فراسخ من كل ناحية فمرت به ملائكة سماء الدنيا كثير ، إن البقر تتبع أفواههم بالتقديس والتسبيح بأصوات عظيمة كأصوات الرعد الشديد ، ثمّ أمر الله ملائكة سماء الثانية أن اهبطوا على موسى فهبطوا عليه مثل الأسد لهم لجبّ بالتسبيح والتقديس ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى وسمع واقشعر كل شعرة في رأسه وجسده .
ثمّ قال : ندمت على مسألتي فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه ؟
فقال له حبر الملائكة ورأسهم : يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثمّ هبطت ملائكة السماء الثالثة كأمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد وأفواههم تتبع بالتسبيح بالتقديس كجلب الجيش العظيم ولهب النار .
ثمّ هبطت عليه ملائكة السماء الرابعة لا يشبههم شيء من الذين مروا به قبلهم ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به من قبلهم .
ثمّ هبطت عليهم ملائكة السماء الخامسة سبعة ألوان فلم يستطيع أن يتبعهم طرفه ولم يرَ مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفاً واشتد حزنه وكثر بكاؤه فقال له حبر الملائكة ورأسهم : يا بن عمران مكانك حتّى ترى ما لا تصبر عليه ثمّ أمر الله تعالى ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على عبدي أراد أن يراني فاعترفوا عليه فهبطوا عليه في يد كل ملك مثل النخلة العظيمة الطويلة نار أشد ضوءاً من الشمس ولباسهم كلهيب النار ، إذا سبحوا وقدّسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السماوات كلهم يقولون بشدة أصواتهم : سبوح قدوس رب العزّة أبداً لا يموت ، في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه ، فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم حين سبحوا وهو يبكي ويقول : رب اذكرني ولا تنسَ عبدك لا أدري أنقلب مما أنا فيه أم لا ؟ إن خرجت أُحرقت وإن مكثت متّ ، فقال له رأس الملائكة ورئيسهم : قد أوشكت ياابن عمران أن يمتلىء جوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي جلست .
ثمّ أمر الله تعالى أن يحمل عرشه في ملائكة السماء السابعة وقال : أروه ، فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب ورفعت ملائكة السماوات أصواتهم جميعاً فارتج الجبل واندكت كل شجرة كانت فيه { وَخَرَّ } العبد الضعيف { موسَى صَعِقاً } على وجهه ليس معه روحه فقلب الله الحجر الذي كان عليه موسى وجعله كالمعدة كهيئة القبّة لئلاّ يحترق موسى ، فأرسل الله تعالى إليه روح الحياة فقام موسى يسبح الله تعالى ويقول : آمنت بأنك ربّي وصدقت بأنه لا يراك أحد فيحيا . ومن نظر الى ملائكتك انخلع قلبه فما أعظمك وأعظم ملائكتك أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك ، لا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء رب تبت إليك الحمد لله لا شريك لك رب العالمين .
وقال السدي : حفّت حول الجبل بالملائكة وحفّت حول الملائكة بنار وحفّ حول النار بالملائكة وحفّ حول الملائكة بنار ثمّ تجلّى ربّك للجبل .
وقال ابن عباس : ظهر نور ربّه للجبل جبل زبير ، وقال الضحاك [ أخرج ] الله تعالى له من نور الحجب مثل منخر الثور .
وقال عبد الله بن سلام وكعب الأحبار : ما تجلّى من عظمة الله للجبل إلاّ مثل سمّ الخياط ، يعني صار دكّاً .
وقال السدي : ما تجلّى منه إلاّ قدر الخنصر . يدلّ عليه ما روى عن ثابت عن أنس " عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قرأ هذه الآية فقال : هكذا ، ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر ، فساخ الجبل " .
وقال سفيان : ساخ الجبل في الأرض حتّى وقع في البحر فهو يذهب معه .
وقال أبو بكر الهذلي : انقعر فدخل تحت الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة .
وقال عطيّة العوفي : جعله دكّاً أي رملاً هائلاً ، وقال الكلبي : جعله دكاً أي كسراً جبالاً صغيراً . قال الحسن : جعله دكّاً أي ذاهباً أصلاً . وقال مسروق : صار صغيراً [ كالرابية ] .
الحسن : أوحى الله تعالى إلى الجبل هل تطيق رؤيتي فغار الجبل وساخ في الأرض وموسى ينظر حتّى ذهب أجمع .
وقال قطرب : فلمّا تجلّى ربّه أي : أمر ربّه للجبل كقوله .
{ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } [ يوسف : 82 ] .
وقال المبرد : معناه فلمّا تجلّى ربّه آية للجبل جعله فعلاً متعدّياً [ كالتخلّص والتبدّل والتوعد ] .
وقال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق : حكي لي عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من [ وراء ] سبعين ألف حجاب ضوءاً قدر الدرهم فجعل الجبل دكاً .
وقال أبو بكر : فَعَذُب إذ ذاك كل ماء وأفاق كل مجنون وبرأ كل مريض . وزالت الأشواك عن الأشجار وخصبت الأرض وأزهرت وخمدت نيران المجوس . وخرت الأصنام لوجهها { جَعَلَهُ دَكّاً } مستوياً بالأرض . وقال ابن عباس : جعله تراباً .
عن معونة بن قرّة عن أنس بن مالك قال : " قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً } : طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة : أحد وورقان ، ورضوى . ووقع ثلاثة بمكّة ثور وثبيرة وحراء " .
واختلفت القراءة في هذا الحرف ، وقرأ عاصم { دَكّاً } بالقصر والتنوين . والتي في الكهف بالمد ، وقرأ غيره من أهل الكوفة وحمير ( دكاء ) ممدودة غير مجراه في التنوين .
وقرأ الباقون مقصورة الرفع منونة . وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد ، فمن قصره فمعناه جعله مدكوكاً . والدك والدق بمعنى واحد لأن الكاف والقاف يتعاقبات ، لقولهم : كلام رقيق وركيك ، ويجوز أن يكون معناه : دكه الله دكاً أي فتّه الله أغباراً لقوله
{ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً } [ الفجر : 21 ] وقوله
{ وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } [ الحاقة : 14 ] .
يدك أركان الجبال هزمه *** تخطر بالبيض الرقاق بهمه
ومن مده فهو من قول العرب ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام . وحينئذ يكون معناه : جعله أيضاً دكاء ، أي مستوية لا شيء فيها ، لأن الجبل مذكر ، هذا قول أهل الكوفة .
وقال نحاة البصرة : معناه فجعله مثل دكّاً وحذف مثل فأجرى مجرى
{ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] قال الأخفش : من مدّ قال في الجمع : دكاوات ، وذلك مثل حمراوات وحمرة ، ومن قال : أرض دك ، قال في الجمع : دكوك ، { وَخَرَّ } أي وقع { موسَى صَعِقاً } قال ابن عباس : فغشي عليه ، وقال قتادة : ميّتاً .
وقال الكلبي : خرّ موسى صعقاً يوم الخميس يوم عرفة وأعطى التوراة يوم الجمعة [ يوم النحر ] .
وقال الواقدي : لما خرَّ موسى صعقاً قالت ملائكة السماوات : ما لابن عمران وسؤاله الرؤية ؟ !
وفي بعض الكتب أنّ ملائكة السماوات أتوا موسى وهو مغشي عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون : يابن النساء الحيض أطمعت في رؤية ربّ العزّة .
{ فَلَمَّآ أَفَاقَ } من صعقته وعقله عرف أنّه قد فعل أمراً لا [ ينبغي فعله ] { قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ } من سؤالي الرؤية { وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } بأنك لا تُرى في الدنيا [ قال السدي ] ومجاهد : وأنا أوّل مَنْ آمن بك من بني إسرائيل .
وسمعت أبا القاسم الحبيبي قال : سمعت أبا القاسم النصر آبادي يحكي عن الجنيد [ أنه قال : ] جئت إليك من الأسباط في شيء لا تعقله نيتي ، فأنا أوّل المؤمنين بأنّك لا تُرى في الدنيا لأن أول من سألك الرؤية [ . . . . . . ] .
قال ابن عباس : لمّا سار موسى إلى طور سيناء للميقات قال له ربه : ما تبتغي ؟ قال : جئت أبتغي الهدي . قال قد وجدته يا موسى ، فقال موسى : يارب أي عبادك أحب إليك ؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني . قال : أي عبادك أقصى ؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى . قال : أي عبادك أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه فيسمع الكلمة تهديه إلى الهُدى ويرد سنن ردىء .
وقال عبد الله بن مسعود : لمّا قرب الله موسى بطور سيناء رأى عبداً في ظلّ العرش جالساً فقال : [ ما هذا ] ، قال : هذا عبد لا يحسد الناس على ما أتاهم الله من فضله وبرّ بوالديه ولا يمشي بالنميمة .
فقال موسى : يارب اغفر لي ما مضى من ذنبي وما مضى وما بين ذلك وما أنت أعلم به مني ، أعوذ بك من وسوسة نفسي وأعوذ بك من شر عملي . فقال : قد كفيت ذلك يا موسى ، قال : يا رب أي العمل أحب إليك أن أعمل به ؟ قال : تذكرني ولا تنساني ، قال : أي عبادك خير عملاً ؟ قال : مَنْ لا يُكذّب لسانه ولا يفجر قلبه ولا يزني فرجه [ وهو ذو خلق حسن ] ، قال : فأي عبادك شر عملاً ؟ قال : فاجر في خلق سيء [ جيفة ليل ] بطال النهار .