غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (143)

142

{ ولما جاء موسى لميقاتنا } اللام بمعنى الاختصاص كأنه قيل : اختص مجيئه بوقتنا الذي حددنا له كما يقال : أتيته لعشر خلون من شهر كذا { وكلمه ربه } للناس في كلام الله مذاهب فقيل : هو عبارة عن هذه الحروف المؤلفة المنتظمة . وقيل : صفة حقيقية مخالفة للحروف والأصوات وعلى الأول فمحل تلك الحروف والأصوات هو ذات الله تعالى وهو قول الكرامية ، أو جسم مغاير كالشجرة ونحوها وهو قول المعتزلة . وعلى التالي فالأشعرية قالوا إن موسى عليه السلام سمع تلك الصفة الأزلية لأنه كما لا يتعذر رؤيته عندنا مع أنه ليس بجسم ولا عرض فكذا لا يمتنع سماع كلامه مع أنه ليس بحرف ولا صوت . وقال أبو منصور الماتريدي : الذي سمعه موسى عليه السلام أصوات مقطعة وحروف مؤلفة قائمة بالشجرة . واختلف العلماء أيضاً في أن الله تعالى كلم موسى وحده لظاهر الآية أو مع السبعين المختارين وهو قول القاضي لأن تكليم الله موسى معجز وقد تقدمت نبوّة موسى فلا بد من ظهور هذا المعنى لغيره { قال رب أرني أنظر إليك } أي أرني نفسك واجعلني متمكناً من رؤيتك فانظر إليك وأراك . عن ابن عباس : أن موسى عليه السلام جاء ومعه السبعون وصعد الجبل وبقي السبعون في أسفل الجبل وكلم الله موسى وكتب له في الألواح كتاباً وقربه نجياً . فلما سمع صرير القلم عظم شوقه فقال رب أرني انظر إليك . قالت الأشاعرة إن موسى سأل الرؤية وأنه عارف بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى . فلو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها . قال القاضي : للمحصلين من العلماء في هذا المقام أقوال : أحدها قول الحسن وغيره أن موسى ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى وهذا لا يقدح سبحانك في معرفته لأن العلم بامتناع الرؤية وجوازها لا يبعد أن يكون موقوفاً على السمع ، وزيف بأنه يلزم أن يكون موسى أدون حالاً من علماء المعتزلة العالمين بامتناع الرؤية على الله تعالى ، وبأنهم يدعون العلم الضروري بأن كل ما كان مرئياً فإنه يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل ، فلو لم يكن هذا العلم حاصلاً لموسى كان ناقص العقل وهو محال ، وإن كان حاصلاً وجوّز موسى عليه المقابلة كان كفراً وهو أيضاً محال . وثانيها طريقة أبي علي وأبي هاشم أن موسى عليه السلام سأل الرؤية عن لسان قومه فقد كانوا يكررون المسألة عليه بقولهم { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] وزيف بأنه لو كان كذلك لقال موسى أرهم ينظروا إليك ، ولقال الله لن يروني ، وبأنه لو كان محالاً لمنعهم كما منعهم لما قالوا اجعل لنا إلهاً ، وبأن ذكر الدليل القاطع في هذا المقام فرض مضيق فلم يمكن تأخيره مع أنهم كانوا مقرين بنبوّة موسى كفاهم في الامتناع عن السؤال قول موسى وإلا فلا انتفاع لهم بهذا الجواب فإن لهم أن يقولوا لا نسلم أن هذا المنع من الله بل هذا مما افتريته على الله . وثالثها وهو اختيار أبي القاسم الكعبي أن موسى سأل ربه المعرفة الضرورية بحيث تزول عندها الخواطر والوساوس كما في معرفة أهل الآخرة . وردّ بأنه تعالى أراه من الآيات كالعصا واليد وغيرها ما لا غاية بعدها فكيف يليق به أن يقول أظهر لي آية تدل على أنك موجود ؟ ولو فرض أنه لائق بحال موسى فلم منعه الله تعالى عن ذلك ؟ ولقائل أن يقول : منعه في الدنيا لحكمة علمها الله تعالى ولا يلزم منه المنع في الآخرة . ورابعها وهو قول أبي بكر الأصم أن موسى أراد تأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي ، وتعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء . وضعف بأنه كان الواجب عليه حينئذ أن يقول : أريد يا إلهي أن يقوى امتناع رؤيتك بوجوه زائدة على ما ظهر في عقلي . ولقائل أن يقول : هذا تعيين الطريق . وفي الآية سؤال وهو أنه تعالى لم قال { لن تراني } دون { لن تنظر إليّ } ليناسب قوله { انظر إليك } والجواب لأن موسى لم يطلب النظر المطلق وإنما طلب النظر الذي معه الإدراك بدليل { أرني } ومن حجج الأشاعرة أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز هو استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز . وردّ بأنه علق حصول الرؤية على استقرار الجبل حال حركته بدليل قوله { ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه } أي وقت النظر وعقيبه واستقرار الجبل حال حركته محال . ومنها قوله { فلما تجلى ربه } أي ظهر وبان ومنه جلوت العروس إذا أبرزتها ، أو ظهر للجبل اقتداره وتصدى له أمره وإرادته { جعله دكاً } أي مدكوكاً كالمصدر بمعنى «مفعول » . والدك والدق أخوان . ومن قرأ بالمد أراد أرضاً دكاء مستوية ومنه ناقة دكاء متواضعة السنام . والدكاء أيضاً اسم للرابية الناشزة من الأرض كالدكة . والغرض من الجميع تعظيم شأن الرؤية وأن أحداً لا يقوى على ذلك إلا بتقوية الله وتأييده . وقالت المعتزلة : الرؤية أمر محال لقوله { لن تراني } وكلمة «لن » إن لم تفد التأبيد فلا أقل من التأكيد . وأيضاً الاستدراك في قوله { ولكن انظر } معناه أن النظر إليّ محال فلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر إلى الجبل لتشاهد تدكك أجزائه وتفرق أبعاضه من عظمة التجلي ، وإذا لم يطق الجماد ذلك فكيف الإنسان ؟ قالت الأشاعرة هاهنا : لم يبعد أن يخلق الله تعالى حينئذ في الجبل حياة وعقلاً وفهماً ورؤية . وأيضاً قوله { وخر موسى صعقاً } أي مغشياً عليه غشية كالموت دليل استحالة الرؤية على الأنبياء فضلاً عن غيرهم . روي أن الملائكة مرت عليه وهو مغشي عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم يقولون : يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزّة . وأيضاً قوله بعد الإفاقة من الصعقة { سبحانك } أنزهك عما لا يليق بك من جواز الرؤية عليك { إني تبت إليك } من طلب الرؤية بغير إذن منك وإن كان لغرض صحيح هو تنبيه القوم على استحالة ذلك بنص من عندك { وأنا أوّل المؤمنين } بأنك لست بمرئي ولا مدرك بشيء من الحواس . وقالت الأشاعرة : وأنا أوّل المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا أو بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك .

/خ154