بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (143)

قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا } يعني : لميعادنا لتمام أربعين يوماً . ويقال : { لميقاتنا } أي للوقت الذي وقّتنا له .

{ وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } فسمع موسى كلام الله تعالى بغير وحي ، فاشتاق إلى رؤيته { قَالَ رَبّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } { انظر } صار جزماً لأنه جواب الأمر { قَالَ } له ربه : { لَن تَرَانِي } يعني : إنك لن تراني في الدنيا { ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } يعني : انظر إلى أعظم جبل بمدين { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } يعني : سوف تقدر أن تراني إن استقر الجبل مكانه . معناه : كما أن الجبل لا يستقر لرؤيتي فإنك لن تطيق رؤيتي { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } قال الضحاك : ألقى عليه من نوره فاضطرب الجبل من هيبته يعني : من رهبة الله تعالى . وقال القتبي : { تجلى } ربه للجبل أي ظهر وأظهر من أمره ما شاء . يقال : جلوت المرأة والسيف إذا أبرزته من الصدأ وكشف عنه . وجلوت العروس إذا أبرزتها . { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } أي : جبل زبير { جَعَلَهُ دَكّا } قرأ حمزة والكسائي جعله { دكاء } بالهمز يعني : جعله أرضاً دكاء .

وقرأ الباقون { دَكّا } بالتنوين يعني : دَكَّه دَكّاً . قال بعضهم : صار الجبل قطعاً ، فصار على ثمان قطع . فوقع ثلاث بمكة وثلاث بالمدينة واثنان بالشام . ويقال : صار ستة فرق . ويقال : صار أربع فرق . ويقال : صار كله رملاً عالجاً أي ليناً . وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : { جعله دكا } أي تراباً ، وقال القتبي : { جعله دكا } أي ألصقه بالأرض . ويقال : ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام أي تراباً . وروي عن وهب بن منبه أنه قال : لما سأل موسى النظر إلى ربه أمر الله الضباب والصواعق والظلمات والرعد والبرق فهبطن حتى أحطن بالجبل ، وأمر الله تعالى ملائكة السموات فهبطوا ، وارتعدت فرائص موسى وتغير لونه . فقال له جبريل : اصبر لما سألت ربك ، فإنما رأيت قليلاً من كثير فلما غشي الجبل النور ، خمد كل شيء ، وانقطعت أصوات الملائكة وانهار الجبل من خشية الله تعالى . حتى صار دكاً .

قوله تعالى : { وَخَرَّ موسى صَعِقًا } قال مقاتل : يعني ميتاً . كقوله عز وجل : { فَصَعِقَ مَن فِي السماوات } يعني : مات . ويقال : { وخر موسى صعقا } أي مغشياً عليه { فَلَمَّا أَفَاقَ } من غشيانه قال مقاتل : رد الله حياته إليه { قَالَ سبحانك } أي تنزيهاً لك { تُبْتُ إِلَيْكَ } من قولي { وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } . روى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : قد كان قبله من المؤمنين . ولكن يقول أول من آمن بأنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة . وقال مقاتل : { وأنا أول المؤمنين } بأنك لا تُرى في الدنيا . وقال القتبي : أراد به في زمانه كقوله : { يا بني إسرائيل اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } [ البقرة : 47 ] ويقال : معناه تبت إليك بأن لا أسألك بعد هذا سؤالاً محالاً . فاعترف أنه طلب شيئاً في غير حينه وأوانه ووقته . وقال الزجاج : قد قال موسى : { أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } أرني أمراً عظيماً لا يرى مثله في الدنيا مما لا تحتمل عليه نفسي { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } أي : أمر ربه قال : وهذا خطأ . ولكن لما سمع كلامه قال يا رب : إنِّي سمعت كلامك وأحب أن أراك .