مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي - النسفي  
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (143)

{ ولمّا جآء موسى لميقاتنا } لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا . ومعنى اللام الاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا { وكلّمه ربّه } بلا واسطة ولا كيفية . وروي أنه كان يسمع الكلام من كل جهة . وذكر الشيخ في التأويلات أن موسى عليه السلام سمع صوتاً دالاً على كلام الله تعالى ، وكان اختصاصه باعتبار أنه أسمعه صوتاً تولى تخليقه من غير أن يكون ذلك الصوت مكتسباً لأحد من الخلق ، وغيره يسمع صوتاً مكتسباً للعباد فيفهم منه كلام الله تعالى ، فلما سمع كلامه طمع في رؤيته لغلبة شوقه فسأل الرؤية بقوله { قال ربّ أرني أنظر إليك } ثاني مفعولي { أرني } محذوف أي أرني ذاتك أنظر إليك يعني مكني من رؤيتك بأن تتجلى لي حتى أراك { أرني } مكي . وبكسر الراء مختلسة : أبو عمرو ، وبكسر الراء مشبعة : غيرهما وهو دليل لأهل السنة على جواز الرؤية ، فإن موسى عليه السلام اعتقد أن الله تعالى يرى حتى سأله واعتقاد جواز ما لا يجوز على الله كفر { قال لن تراني } بالسؤال بعين فانية بل بالعطاء والنوال بعين باقية ، وهو دليل لنا أيضر لأنه لم يقل لن أرى ليكون نفياً للجواز ، ولو لم يكن مرئياً لأخبر به بأنه ليس بمرئي إذ الحالة حالة الحاجة إلى البيان { ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه } بقي على حاله { فسوف ترياني } وهو دليل لنا أيضاً لأنه علق الرؤية باستقرار الجبل وهو ممكن ، وتعليق الشيء بما هو ممكن يدل على إمكانه كالتعليق بالممتنع يدل على امتناعه ، والدليل على أنه ممكن قوله { جعله دكاً } ولم يقل «اندك » وما أوجده تعالى كان جائزاً أن لا يوجد لو لم يوجده لأنه مختار في فعله ، ولأنه تعالى ما أيأسه عن ذلك ولا عاتبه عليه ولو كان ذلك محالاً لعاتبه كما عاتب نوحاً عليه السلام بقوله :

{ إني أعظك أن تكون من الجاهلين } [ هود : 46 ] حيث سأل إنجاء ابنه من الغرق .

{ فلمّا تجلى ربّه للجبل } أي ظهر وبان ظهوراً بلا كيف . قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : معنى التجلي للجبل ما قاله الأشعري إنه تعالى خلق في الجبل حياة وعلماً ورؤية حتى رأى ربه ، وهذا نص في إثبات كونه مرئياً ، وبهذه الوجزة يتبين جهل منكري الرؤية وقولهم بأن موسى عليه السلام كان عالماً بأنه لا يرى ولكن طلب قومه أن يريهم ربه كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهره } [ البقرة : 55 ] فلطلب الرؤية ليبين الله تعالى أنه ليس بمرئي باطل إذ لو كان كما زعموا لقال أرهم ينظروا إليك ثم يقول له : لن يروني . ولأنها لو لم تكن جائزة لما أخر موسى عليه السلام الرد عليهم بل كان يرد عليهم وقت قرع كلامهم سماعه لما فيه من التقرير على الكفر ، وهو عليه السلام بعث لتغييره لا لتقريره ، ألا ترى أنهم لما قالوا له { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } لم يمهلهم بل رد عليهم من ساعته بقوله { إنكم قوم تجهلون } { جعله دكًّا } مدكوكاً مصدر بمصدر بمعنى المفعول كضرب الأمير والدق والدك أخوان . { دكاء } : حمزة وعلي . أي مستوية بالأرض لا أكمة فيها وناقة دكاء لا سنام لها { وخرّ موسى صعقاً } حال أي سقط مغشياً عليه { فلمّآ أفاق } من صعقته { قال سبحانك تبت إليك } من السؤال في الدنيا { وأنا أوّل المؤمنين } بعظمتك وجلالك ، وبأنك لا تعطي الرؤية في الدنيا مع جوازها . وقال الكعبي والأصم : معنى قوله { أرني أنظر إليك } أرني آية أعلمك بها بطريق الضرورة كأني أنظر إليك { لن تراني } لن تطيق معرفتي بهذه الصفة { ولكن انظر إلى الجبل } فإني أظهر له آية ، فإن ثبت الجبل لتجليها و { استقر مكانه } فسوف تثبت لها وتطيقها . وهذا فاسد لأنه قال { أرني أنظر إليك } ولم يقل «إليها » وقال { لن تراني } ولم يقل لن ترى آيتي وكيف يكون معناه لن ترى آيتي وقد أراه أعظم الآيات حيث جعل الجبل دكاً .