معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي  
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (143)

قوله تعالى : { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } ، أي : للوقت الذي ضربنا له أن نكلمه فيه ، قال أهل التفسير : إن موسى عليه السلام تطهر وطهر ثيابه لميعاد ربه لما أتى طور سيناء . وفي القصة : أن الله عز وجل وأنزل ظلمة على سبعة فراسخ ، وطرد عنه الشيطان ، وطرد عنه هوام الأرض ، ونحى عنه الملكين ، وكشط له السماء ، فرأى الملائكة قياماً في الهواء ، ورأى العرش بارزاً ، وكلمه الله وناجاه حتى أسمعه ، وكان جبريل عليه السلام معه فلم يسمع ما كلمة ربه ، وأدناه حتى سمع صرير القلم ، فاستحلى موسى عليه السلام كلام ربه ، واشتاق إلى رؤيته .

قوله تعالى : { قال رب أرني أنظر إليك } ، فقال الزجاج : فيه اختصار تقديره : أرني نفسك أنظر إليك ، قال ابن عباس : أعطني النظر إليك . فإن قيل : كيف سأل الرؤية وقد علم أن الله تعالى لا يرى في الدنيا ؟ قال الحسن : هاج به الشوق فسأل الرؤية . وقيل : سأل الرؤية ظناً منه أنه يجوز أن يرى في الدنيا .

قوله تعالى : { قال } الله تعالى .

قوله تعالى : { لن تراني } وليس لبشر أن يطيق النظر إليّ في الدنيا ، من نظر إلي في الدنيا مات ، فقال : إلهي سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك ، ولأن أنظر إليك ثم أموت ، أحب إلي من أن أعيش ولا أراك . فقال الله عز وجل : { لم تراني ولكن انظر إلى الجبل } ، وهو أعظم جبل بمدين يقال له زبير . قال السدي : لما كلم الله موسى غاص الخبيث إبليس في الأرض حتى خرج بين قدمي موسى ، فوسوس إليه وقال : أن من كلمك شيطان ، فعند ذلك سأل موسى الرؤية ، فقال الله عز وجل : { لن تراني } ، وتعلقت نفاة الرؤية بظاهر هذه الآية ، وقالوا : قال الله تعالى : { لن تراني } ، ولن تكون للتأبيد ، ولا حجة لهم فيها ، ومعنى الآية : لن يراني في الدنيا أو في الحال ، لأنه كان يسأل الرؤية في الحال ، و( لن ) لا تكون للتأبيد ، كقوله تعالى { ولن يتمنوه أبداً } [ البقرة : 95 ] إخباراً عن اليهود ، ثم أخبر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرة ، كما قال الله تعالى : { ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك } [ الزخرف : 77 ] ، و{ يا ليتها كانت القاضية } [ الحاقة : 27 ] ، والدليل عليه أنه لم ينسبه إلى الجهل بسؤال الرؤية ، ولم يقل إني لا أرى حتى تكون لهم حجة ، بل علق الرؤية على استقرار الجبل ، واستقرار الجبل على التجلي غير مستحيل إذا جعل الله تعالى له تلك القوة ، والمعلق بما لا يستحيل لا يكون مجالاً .

قوله تعالى : { ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني } ، قال وهب وابن إسحاق : لما سأل موسى ربه الرؤية أرسل الله الضباب ، والصواعق ، والظلمة ، والرعد ، والبرق ، وأحاطت بالجبل الذي عليه موسى أربعة فراسخ من كل جانب ، وأمر الله ملائكة السموات أن يعترضوا على موسى ، فمرت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقر ، تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ، ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية أن اهبطوا على موسى ، فاعترضوا عليه ، فهبطوا عليه أمثال الأسود ، لهم لجب بالتسبيح والتقديس ، ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى وسمع ، واقشعرت كل شعرة في رأسه وجسده ، ثم قال : لقد ندمت على مسألتي فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء ؟ فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا موسى اصبر لما سألت ، فقليل من كثير ما رأيت . ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة أن اهبطوا على موسى ، فاعترضوا عليه ، فهبطوا أمثال النسور ، لهم قصف ورجف ولجب شديد ، وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس كجلب الجيش العظيم ، ألوانهم كلهب النار ، ففزع موسى واشتد فزعه ، وأيس من الحياة ، فقال له خير الملائكة : مكانك يا ابن عمران ، حتى ترى ما لا تصبر عليه ، ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى بن عمران فهبطوا عليه لا يشبههم شيء من الذين مروا من قبلهم ، ألوانهم كلهب النار ، وسائر خلقهم كالثلج الأبيض ، أصواتهم عالية بالتقديس والتسبيح ، لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به من قبلهم ، فاصطكت ركبتاه ، وارتعد قلبه ، واشتد بكاؤه ، فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا ابن عمران ، اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت . ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الخامسة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى ، فهبطوا عليه ، لهم سبعة ألوان ، فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره ، لم ير مثلهم ، ولم يسمع مثل أصواتهم ، فامتلأ جوفه خوفاً ، واشتد حزنه ، وكثر بكاؤه ، فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا بن عمران مكانك حتى ترى بعض ما لا تصبر عليه ، ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه ، فهبطوا عليه ، في يد كل ملك منهم مثل النخلة الطويلة نارا ، أشد ضوءاً من الشمس ، ولباسهم كلهب النار ، إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السموات ، كلهم يقولون بشدة أصواتهم : ( سبوح قدوس ، رب الملائكة والروح ، رب العزة أبداً لا يموت " في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه ، فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم حين سبحوا وهو يبكي ويقول : رب اذكرني ولا تنس عبدك ، لا أدري أأنفلت مما أنا فيه أم لا ؟ إن خرجت احترقت ، وإن مكثت مت ، فقال له كبير الملائكة ورأسهم : قد أوشكت يا بن عمران أن يشتد خوفك ، وينخلع قلبك ، فاصبر للذي سألت . ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه في ملائكة السماء السابعة ، فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب جل جلاله ، ورفعت ملائكة السموات أصواتهم جميعاً يقولون : " سبحان الملك القدوس ، رب العزة أبداً لا يموت " بشدة أصواتهم ، فارتج الجبل ، واندكت كل شجرة كانت فيه وخر العبد الضعيف موسى صعقاً ، على وجهه ليس معه روحه ، فأرسل الله برحمته الروح ، فتغشاه ، وقلب عليه الحجر الذي كان عليه موسى ، وجعله كهيئة القبة لئلا يحترق موسى ، فأقامه الروح مثل اللامة ، فقام موسى يسبح الله تعالى ويقول : آمنت بك ربي ، وصدقت أنه لا يراك أحد فيحيا ، من نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه ، فما أعظمك وأعظم ملائكتك ، أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك ، ولا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء ، رب تبت إليك الحمد لله لا شريك لك ما أعظمك وما أجلك رب العالمين ، فذلك قوله تعالى : { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً } ، قال ابن عباس : ظهر نور ربه للجبل ، جبل زبير . وقال الضحاك : أظهر الله من نور الحجب مثل منخر ثور . وقال عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار : ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سم الخياط حتى صار دكاً . وقال السدي : ما تجلى إلا قدر الخنصر ، يدل عليه ما روى ثابت ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : هكذا ، ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر ، فساخ الجبل . وحكي عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نوراً قدر الدرهم ، فجعل الجبل دكاً ، أي : مستوياً بالأرض . قرأ حمزة والكسائي ( دكاء ) ممدوداً غير منون هاهنا وفي سورة الكهف ، ووافق عاصم في الكهف ، وقرأ الآخرون ( دكا ) مقصوراً منوناً ، فمن قصره فمعناه جعله مدقوقاً ، والدك والدق واحد ، وقيل : معناه دكه الله دكاً ، أي : فتقه ، كما قال : { إذا دكت الأرض دكاً دكاً } [ الفجر :21 ] ، ومن قرأ بالمد أي : جعله مستوياً أرضاً دكاء ، وقيل معناه : جعله مثل دكاء ، وهي الناقة التي لا سنام لها ، قال ابن عباس : جعله تراباً ، وقال سفيان : ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب فيه . وقال عطية العوفي : صار رملاً هائلاً . وقال الكلبي : جعله دكاً أي كسراً جبالاً صغاراً . ووقع في بعض التفاسير : صارت لعظمته ستة أجبل ، وقعت ثلاثة بالمدينة : أحد ، وورقان ، ورضوى ، ووقعت ثلاثة بمكة : ثور ، وتبير ، وحراء . قوله تعالى : { وخر موسى صعقاً } . قال ابن عباس والحسن : مغشياً عليه . وقال قتادة : ميتاً . وقال الكلبي : خر موسى صعقاً يوم الخميس يوم عرفة ، وأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر . قال الواقدي : لما خر موسى صعقاً قالت ملائكة السموات : ما لابن عمران وسؤال الرؤية ؟ وفي بعض الكتب أن ملائكة السموات أتوا موسى وهو مغشي عليه ، فجعلوا يركلونه بأرجلهم ويقولون : يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة ؟

قوله تعالى : { فلما أفاق } موسى من صعقته ، وثاب إليه عقله ، عرف أنه قد سأل أمراً عظيما لا ينبغي له .

قوله تعالى : { قال سبحانك تبت إليك } عن سؤال الرؤية .

قوله تعالى : { وأنا أول المؤمنين } بأنك لا ترى في الدنيا ، وقال مجاهد والسدي : وأنا أول من آمن بك من بني إسرائيل .