تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (143)

الآية 143 وقوله تعالى : { ولما جاء موسى لميقاتنا } أي لميعادنا الذي وعدناه { وكلّمه ربه } لا يجوز لنا أن نصف كيفية الكلام وماهيّته سوى أنه أنشأ كلاما وصوتا أسمعه موسى كيف شاء بما شاء بكلام مخلوق [ وصوت مخلوق ]{[8890]} { قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني } الآية . قال قائلون : إن موسى لم يسأل ربه الرؤية لنفسه ، ولكن سأل لقومه لسؤال القوم له كقوله تعالى : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] لكن هذا بعيد ؛ لأنه لو كان سؤاله إياه لسؤال قومه لكان ر يقول : { رب أرني أنظر إليك } ولكن يقول أرهم ينظروا{[8891]} إليك . فدل أنه لم يكن لذلك .

وقال قائلون : لم يكن سؤال ربه رؤية الرب ، ولكن سأل ربه رؤية الآيات والأعلام والأدلة التي بها يرى . وذلك جائز سؤال الرؤية سؤال رؤية الآيات والأعلام . وذلك بعيد ، لأنه قد أعطاه من الآيات من نحو العصا التي كان ضرب{[8892]} بها الحجر { فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا } [ البقرة : 60 ] وما كان من فرق البحر وإهلاك العدو واليد البيضاء وغير ذلك من الآيات . فإذا بطل ذلك دل أنه سأل حقيقة الرؤية .

والقول بها لازم عندنا في الآخرة ، وحق من غير إدراك ولا تفسير . والدليل على ذلك قوله تعالى : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } [ الأنعام : 103 ] ولو كان لا يرى لم يكن لنفي الإدراك حكمة ؛ إذ لا يدرك غيره بغير الرؤية ، فوضع نفي الإدراك وغيره من الخلق ، لا يدرك إلا بالرؤية ، لا معنى له ، والله الموفق .

وأيضا قول موسى : { رب أنظر إليك } الآية : ولو [ كانت لا تجوز ]{[8893]} الرؤية لكان منه جهل بربه ، ومن يجهله لا يحتمل أن يكون موضعا لرسالته أمينا على وحيه .

وبعد فإنه لم ينهه ، ولا آيسه ، وبدون ذلك قد نهى نوحا ، وعاتب آدم وغيره من الرسل . وذلك لو كان لا يجوز لبلغ الكفر .

ثم قال : { ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني } فإن قيل : لعله سأل آية ليعلم{[8894]} بها . قيل لا يحتمل ذا لوجوه :

أحدها : أنه قال : { لن تراني } وقد أراه الآية .

والثاني{[8895]} : أن طلب الآيات{[8896]} يخرج [ مخرج ]{[8897]} التعنّت ، إذ قد أراه الآيات على ما ذكرنا ؛ وذلك صنيع الكفرة أنهم لا يزالون يطلبون الآيات ، وإن كانت الكفاية قد ثبتت لهم ، فمثله ذلك أيضا .

والثالث{[8898]} : أنه قال : { فإن استقر مكانه فسوف تراني } [ والآية التي يستقر ]{[8899]} معها الجبل هي دون التي لا يستقر معها . ثبت أنه لم يرد بذلك الآية .

والرابع{[8900]} : محاجّة إبراهيم عليه السلام في النجوم ، وما ذكر بالأفول والغيبة ، ولم يحاجّهم بألا يحب ربّا ، يرى ، ولكن حاجّهم بألا يحب ربا ، يأفل ؛ إذ هو دليل عدم الدوام ، ولا قوة إلا بالله .

والخامس{[8901]} : قوله تعالى : { وجوه يومئذ ناظرة } { إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22و23 ] ثم لا يحتمل ذلك الانتظار لوجوه :

أحدها : أن الآخرة{[8902]} ليست بوقت الانتظار ، وإنما هي الدنيا ، وهي دار الوقوع [ والوجود إلى ]{[8903]} وقت الفزع وقبل أن يعاينوا في أنفسهم ماله حق الوقوع .

والثاني : قوله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة } [ القيامة : 22 ] وذلك وقوع الثواب .

والثالث : قوله تعالى : { إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 23 ] و { إلى } حرف يستعمل في النظر إلى الشيء لا في الانتظار .

والرابع : أن القول به يخرّج مخرج البشارة لعظيم ما نالوه من النعم . /185-أ/ والانتظار ليس منه مع ما كان الصرف عن حقيقة المفهوم قضاء على الله . فيلزم القول بالنظر إلى الله كما قال على نفي جميع معاني{[8904]} الشّبه عن الله سبحانه على ما أضيف إليه من الكلام والفعل والقدرة والإرادة : إنه يجب الوصف به على نفي جميع معاني الشّبه .

وكذلك القول بالشبه . فمن زعم أن الله لا يقدر أن يكرم أحدا بالرؤية فهو يقدر في الرؤية التي فهمها من الخلق .

وإذا كان القول بالرحمن { على العرش استوى } [ طه : 5 ] وغير ذلك من الآيات ، لا يجوز دفعها بالعرض على المفهوم من الخلق ، بل يحقق ذلك على نفي الشبه فمثله خبر الرؤية .

وأيضا قوله تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] وجاء في غير خبر : النظر إلى الله . وقد يحتمل غير ذلك مما جاء فيه التفسير . لكنه لولا القول بالرؤية ، كان أمرا ظاهرا لم يحتمل صرف ظاهر ، لم يجئ فيها [ إليها ]{[8905]} ويدفع به الخبر ، والله أعلم .

وأيضا{[8906]} ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في غير خبر أنه قال : ( سترون ربكم يوم القيامة [ كما ترون القمر ]{[8907]} ليلة البدر لا تضامون ) [ البخاري : 2573 ] وسئل : ( هل رأيت ربك ؟ فقال : بقلبي قلبي ) [ مشكاة المصابيح 5729 ] فلم ينكر على السائل السؤال ، وقد علم السائل رؤية القلب ، إذ هي علم قد علمه ، وإنه لم يسأل عن ذلك .

وقد حذّر الله المؤمنين [ السؤال ]{[8908]} عن الأشياء التي{[8909]} كفّوا عنها بقوله : { لا تسألوا عن أشياء } [ المائدة : 101 ] فكيف يحتمل أن يكون السؤال عن مثله يجيء ؟ وذلك كفر في الحقيقة عند قوم ، ثم ينهاهم عن ذلك ، ولا يوبّخهم في ذلك ، بل يليق القول في ذلك ، ويروى أن ذلك ليس ببديع ، والله الموفق .

وأيضا إن الله وعد أن يجزي أحسن ما{[8910]} عملوا به في الدنيا ، ولا شيء أحسن من التوحيد ، وأرفع قدرا من الإيمان به ؛ إذ هو المستحسن{[8911]} بالعقول ، والثواب الموعود من جوهره{[8912]} الجنة ، حسنه حسن الطبع ؛ وذلك دون حسن العقل ؛ إذ لا يجوز أن يكون شيء حسن في العقول ، لا يستحسنه ذو عقل .

وجائز ما استحسنه الطبع طبعا لا يتلذذ به كطبع الملائكة ، ومثله في العقوبة . لذلك لزم القول بالرؤية لتكون كرامة تبليغ في الجلالة ما أكرموا به ، وهو أن يصير لهم المعبود بالغيب شهودا كما صار المطلوب من الثواب حضورا . ولا قوة إلا بالله .

ولا يحتمل العلم ، لأن كلاّ يجمع على العلم بالله في الآخرة ، العلم الذي لا يعتريه الوسواس . وذلك علم العيان لا علم الاستدلال . وكثرة الآيات لا تحقق علم الحق الذي لا يعتري ذلك . دليله قوله تعالى : { ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة } الآية [ الأنعام : 111 ] وما ذكر من استعانة الكفرة بالتكذيب في الآخرة وإنكار الرسل وقولهم : { لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } [ الأحقاف : 35 ] وغير ذلك .

وبعد فإنه إذ لا يجوز أن يصير علم العيان نحو علم الاستدلال لم يجز أن يصير علم الاستدلال نحو علم العيان ، فثبت أن الرؤية توجب ذلك . وبعد فإنه{[8913]} ، في ذلك العلم يستوي المؤمن والكافر . والبشارة بالرؤية خصّ بها المؤمن ولا قوة إلا بالله .

ولا نقول بالإدراك بقوله : { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] فقد امتدح بنفي الإدراك لا بنفي الرؤية ، وهو كقوله تعالى : { ولا يحيطون به علما } [ طه : 110 ] كان في ذلك إيجاب العلم ونفي الإحاطة . فمثله في الحق الإدراك ، وبالله التوفيق .

وأيضا إنّ الإدراك إنما هو الإحاطة بالمحدود ، والله يتعالى عن وصف الحد ، إذ هو نهاية وتقصير عما هو أعلى منه ، على أنه واحديّ الذات . والحد وصف المتصل الأجواء حتى ينقضي مع إحالة القول بالحد ؛ إذا كان ، ولا ما يحد ، أو به يحد ، فهو على ذلك لا يتغير . على أن لكل شيء حدّا{[8914]} ، يدرك سبيله ، نحو الطعم واللون والذوق ، والحد وغير ذلك من حدود خاصية الأشياء جعل الله لكل شيء من ذلك وجها يدرك ، ويحاط به حتى العقول والأعراض .

فأخبر الله تعالى أنه ليس بذي حدود وجهات ؛ هي طرق إدراكه بالأسباب{[8915]} الموضوعة لتلك الجهات . وعلى ذلك القول بالرؤية والعلم جميعا ، ولا قوة إلا بالله .

وبعد فإن القول بالرؤية يقع على وجوه لا تعلم حقيقة كل وجه من ذلك إلا بالعلم بذلك الوجه حتى إذا عبّر عنه بالرؤية صرف إلى ذلك ، وما لا يعرف له الوجه بدون ذكر الرؤية لزم الوقف في ماهيّتها على تحقيقها .

[ أحدها : الإدراك ]{[8916]} : هو معنى الوقوف على حدود الشيء . ألا ترى أن الظل في التحقيق يرى ؟ لكنه لا يدرك إلا بالشمس ، وإلا كان مرئيا على ما يرى لوقت نسخ الشمس ، ولكن لا يدرك إلا بما تبيّن له الحد .

وكذلك ضوء النهار يرى ؛ لكنّ حدّه لا يعرف بذاته ، وكذلك الظلمة ؛ لأن طرفها ، لا يرى ، فيدرك ، ويحاط به ، وبالحدود يدرك الشيء ، وإن كان لا يرى لا بها . ولذلك ضرب المثل بالقمر ؛ لأنه لا يعرف حدّه ولا سعته ليعرف ، ويحاط به ، ويرى بيقين ، ولا قوة إلا بالله .

والأصل فيه القول بذلك على قدر ما جاء به ، ونفى كل معنى من معاني الخلق ، ولا يفسر لما لم يجئ ، والله الموفق .

ثم زعم الكعبيّ أن الغائب ، إن لم يخرج عن الوجوه التي بها يعلم ، فكذلك لا يرى إلا بالوجوه التي بها يرى من المباينة للمرئيّ ولما حلّ فيه المرئي بالمسافة والمقابلة واتصال الهواء والصغر [ وعدم الصغر ]{[8917]} والبعد . ولو جازت الرؤية بخلاف هذه لجاز العلم به .

قال الشيخ [ رحمة الله عليه ]{[8918]} : وهذا خطأ ، لأنه قدّر رؤية جوهره ، [ وقد علم أن غير جوهره ]{[8919]} جوهر يرى{[8920]} من الوجه الذي لا يقدر على الإحاطة بجوهره فضلا عن إدراك ببصره ، نحو الملائكة والجن وغيرهم مما يروننا من حيث لا نراهم ، والجثة الصغيرة نحو البقّ ونحو ذلك مما يرى لما لو توهّم مثل ذلك البصر لما احتمل الإدراك .

ويرى الملك الذي يكتب جميع أفعالنا ، ويسمع جميع أقوالنا على ما لو أردنا تقدير ذلك بما عليه جبلنا للزم إنكار ذلك كله ، وذلك عظيم ، وكذلك ما ذكر من نطق الجلود وغيرها مما لو امتحن بمثلها أمر الشاهد لوجد عظيما .

وبعد فإنه في الشاهد يفصل بين البصرين في الرؤية والتمييز على قدر تفاوتهما بما اعتراها في الحجب مما لو قابل أحدهما حال الآخر على حاله وجده مستنكرا . وإذا كان كذلك بطل التقدير بالذي ذكر ، والله الموفّق .

والثاني{[8921]} : أنه في الشاهد بكل أسباب العلم لا يعلم غير العضو والجسم . ثم جائز العلم بالغائب خارجا منه ، فمثله الرؤية .

والثالث : ما ذكرنا من رؤية الظل والظلمة والنور من غير شيء من تلك الوجوه .

والرابع : أنه قد يجوز وجود تلك المعاني كلها مع عدم الرؤية إما [ بالحجب وإمّا ]{[8922]} بالجوهر ، فجاز تحقيق الرؤية على نفي تلك المعاني نحو ما أجيب القائل بالجسم عند معارضته بالفاعل .

والعالم ، إذ وجد ، جسم لا كذلك ، فيجوز وجود ذلك ، ولا جسم ؛ فمثله في الرؤية . على أن البعد الذي يحجبنا عن{[8923]} الرؤية يجوز أن يبلغه بصر غيرنا ، فصار ارتفاع الرؤية بالحجاب ، فإذا ارتفع جاز ، ولا قوة إلا بالله .

وبعد فإن الذي يقوله تقدير برؤية الأجسام ، ولم يمتحن بصره بغير الأجسام والأعراض أن كيف سبيل الرؤية له ؟ وبعد فإن كل جسم يرى ، وإن كانت الدّقة والبعد يحجبان ، فيجوز ارتفاعهما عن بصر غير ، فيرى ملك الموت من بأطراف الأرض ووسطها لو اعتبر ذلك ببصر البشر لما احتمل الإدراك . فثبت أن الذي قدر به ليس هو سبب تعريف ما يبصره ، ولكن سبب تعريف ما يحجب به البصر . فإذا ارتفع رأى مع ما كان المنفيّ رؤيته لذاته عرض .

فإن لزم إنكار الرؤية لما ليس بجسم أو لما لا يرى إلا بما ذكر ليلزم الإقرار به ؛ لأن الذي لا يرى لذاته ، هو العرض ، وإلاّ فكل غير يرى ، ولا قوة إلا بالله .

وإن{[8924]} عورض بأمر الدنيا ، وبحال العرض بذلك فلا{[8925]} يسقط المحنة ، ويرفع الكلفة . والدنيا هي لهما . ثم ذكر في أمر موسى أن ذلك على علم الإحاطة بالآيات ، وقد بيّنا فساد ذلك ، وما ذلك بالذي يسأل ، وهو رسول ، بعث إلى ما به نجاة الخلق ، وذلك لا يكون بغير /185-ب/ الممتحن ؛ إذ هو تبليغ الرسالة والدعاء إلى العبادة ، وهي محنة .

بل سأل الرؤية ليجلّ قدره ، ويعرف{[8926]} عظيم محلّه عند الله ، أو أن يكون الله أمره به ليعلم الخلق جواز ذلك ، وبالله التوفيق .

ثم استدل بأنه لم ير من يعقل ، إنما أري الجبل ، والجبل لا يعقل ليعلمه ، وليراه ، فيقال له : لو كانت الآية [ الجبل ]{[8927]} فالجبل لا يراها ، ولا يعقل . فإذا كان كذلك فالآية إذن صارت{[8928]} اندكاك الجبل ، لا أن أراه الآية يستدل بها . وفي هذا آية ؛ قد رأى موسى الآية ، وهي اندكاك الجبل ، والله تعالى يقول : { لن تراني } وجملته على الآية ، وقد رآها ، ولا قوة إلا بالله .

فإن قيل : ما معنى توبته ، لو كان سؤاله على الأمر ؟ قيل : على العادة في الخلق لما{[8929]} يحدثه عند الأهوال بلا حدوث ذنب ، أو لما رأى من جلال الله وعظمته ، فزع إلى التوبة وإحداث الإيمان به ، وإن لم يكن يوجب ذلك ، وذلك متعارف في الخلق .

ويحتمل أن يكون قوله تعالى : { لن تراني } وكان عنده جواز الرؤية في الشاهد واحتمال وسعه ذلك بما وعد الله في الآخرة ، رجع عما كان عنده ، وآمن بالذي قال : { لن تراني } وإن كان في أصل إيمانه داخلا على نحو إحداث المؤمنين الإيمان بكل آية تنزيل وبكل فريضة تتجدّد ، وإن كانوا في جملة مؤمنين بالكل ، والله الموفق .

وقد بيّنا ما قالوا في قوله : { وجوه يومئذ ناضرة } ، [ القيامة : 22و23 ] .

والأصل في الكلام أنه إذا كان على أمر معهود ، أو يقرن به المقصود إليه ، صرف عن حقيقته ، وإلاّ ، لا ؛ وذلك نحو قوله تعالى : { ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظل } [ الفرقان : 45 ] وقوله{[8930]} : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } [ الفجر : 6 ] .

وأصله أن من قال : رأيت فلانا ، أو نظرت إلى فلان لم يحتمل غير ذاته ، وإذا قال : رأيته يقول : كذا ، ويفعل كذا ، إنه لا يريد به رؤية ذاته فمثله أمر قصة موسى وهذه الآية .

وروي عن ضرار بن عمرو أنه أتى البصرة ، فقال : يا أهل البصرة إما أن كان موسى مشبّها وإما أن كان الله يرى ؛ لأنه لو كان الذي لا يرى ، فسأل ربه رؤيته كان جاهلا به مشبّها خلقه به ، فدل أنه يرى .

ثم الأصل أن تأمّل الذي ذكره الكعبيّ عرف أنه مشبّهي المذهب ؛ لأنه لم يذكر المعنى الذي يجب له يجب أن تكون الرؤية بتلك الشرائط ، إنما أخبر أنه كذلك وجد ، وهو قول المشبّهة : إنه وجد كل فاعل في الشاهد جسما ، وكذا كل عالم ، فيجب مثله في الغائب .

ثم ذكر معنى رؤية الجسم ، ولم يذكر معنى رؤية غير الجسم ، حتى يكون له دليلا . وبعد فإنه نفى بالدقة والبعد وهما زائلان عن الله تعالى . ثم احتجّ بامتداح الله تعالى : { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] وقد قال : لا يجوز أن يزول . فمثله عليه في قوله : { على كل شيء قدير } [ البقرة : 20و . . ] فلا يجوز أن يزول .

ثم قد وصف الله بالرؤية على إسقاط ما ذكر ، فثبت أن ذلك طريق ، لا يؤدّي عن كنه ما به الرؤية .

فإن قيل : كيف يرى ؟ قيل : بلا كيف ؛ إذ الكيفية تكون بالذي{[8931]} صوّره ، بل يرى بلا وصف قيام وقعود واتكاء وتعلّق واتصال وانفصال ومقابلة ومدابرة وقصير وطويل ونور وظلمة وساكن ومتحرك ومماسّ ومباين وخارج وداخل ، ولا معنى يأخذه الوهم ، أو يقدّره العقل ، لتعاليه عن ذلك .

وقوله تعالى : { فلما تجلّى ربه للجبل جعله دكّا } الآية . قال أبو بكر الأصم : تجلّى بالآيات والعلام التي بها يرى ، وكذلك قال في قوله { رب أرني أنظر إليك } إنه إنما سأل ربه الآيات والأعلام التي ترى لا رؤية الذات . وقد بينا بعده وإحالته لما قد أعطاه من الآيات والأعلام [ ما ]{[8932]} له غنية عن غيرها ، فلا{[8933]} يحتاج إلى غيرها .

وقال الحسن : إن موسى سأل ربه الرؤية في غير وقت الرؤية ، وهو يقرّ بالرؤية ، لكنه يقول : سألها في الدنيا ، وبيّنته هذا العالم ، لا تحتمل ذلك . ألا ترى أنه قال { فإن استقر مكانه فسوف تراني } أخبر أن الجبل لا يستقر له فكيف تستقر أنت ؟ لكنه ينشئ بيّنة تحتمل ذلك . وقال الحسن : لذلك قال موسى : { تبت إليك وأنا أول المؤمنين } أن ليس في الدنيا الرؤية . إلى نحو هذا يذهب الحسن . وقد ذكرنا نحن الوجه على قدر ما حضر لنا .

وقال أهل التأويل : قوله تعالى : { تجلّى ربه } أي ظهر . لكن لا يفهم من ظهوره ما يفهم من ظهور الخلق على ما ذكرنا في قوله تعالى : { استوى على العرش } [ الأعراف : 54 ] وقوله تعالى : { وجاء ربك } [ الفجر : 22 ] وغيرهما{[8934]} من الآيات ؛ [ لأنه ]{[8935]} لا يقدّر استواؤه باستواء الخلق ، وكذلك مجيئه . فعلى ذلك ظهوره ، وبالله العصمة .

وروي أن في التوراة أنه جاء من طور سيناء ، وظهر من جبل ساعورا ، واطّلع من جبل فاران وتأويله : جاء وحيه على موسى في طور سيناء ، وظهر على عيسى في جبل ساعورا ، وطلع على محمد في جبل فاران .

ثم العجب أن كيف اجترأ موسى بالسؤال بسؤال مثله { أرني أنظر إليك } ؟ لكنه يحتمل وجوها :

أحدها : على الأمر بالسؤال عن{[8936]} ذلك ليعلم أنه يرى ، ويعتقدوا ذلك ، أو على الظن منه لما رأى أنه أعطاه أشياء ، لا يكون مثلها في الدنيا ، إنما يكون في الآخرة ، خص بها ، من نحو انفجار العيون من الحجر من غير مؤنة تكون لهم في ذلك في{[8937]} حفر الأنهار وإصلاحها وأنواع المؤن ، ونحو ما أعطاهم من اللباس الذي ينمو ، ويزداد على قدر قامتهم وطولهم ، ومن نحو ما أعطاهم من المنّ والسلوى على غير مؤنة ولا جهد . وذلك كله وصف الجنة .

فلما رأى ذلك ظن أن الرؤية أيضا ، تكون في الدنيا على ما كانت له من أشياء ، لم يكن مثلها لأحد في الدنيا . أو لمّا رأى أنه سمع كلام ربه ، وألقى [ على ]{[8938]} مسامعه كلامه ؛ لا من مكان ولا من قريب ولا بعيد ولا من أسفل ولا من أعلى ولا من فوق ولا من تحت . لكنه سمع بما شاء ، وكيف شاء ؟ بلطفه ، فعلى ظن أنه يجوز له أن يسأل ربه الرؤية ، فيريه بها شاء ، وكيف شاء ؟ بلطفه كما ذكرنا .


[8890]:من م، ساقطة من الأصل.
[8891]:في الأصل وم: ينظرون.
[8892]:في الأصل وم: يضرب.
[8893]:في الأصل وم: كان لا يجوز.
[8894]:من م، في الأصل: يعلم.
[8895]:في الأصل وم: وأيضا.
[8896]:من م، في الأصل: الابان.
[8897]:من م، ساقطة من الأصل.
[8898]:في الأصل وم: وأيضا.
[8899]:من م، ساقطة من الأصل.
[8900]:في الأصل م، وأيضا.
[8901]:في الأصل وم: وأيضا.
[8902]:في الأصل وم: الآخر.
[8903]:في الأصل: والوجود إلا، في م: والجود إلا.
[8904]:من م، في الأصل: المعاني.
[8905]:من م، ساقطة من الأصل.
[8906]:من م، في الأصل: أيضا.
[8907]:من م، ساقطة من الأصل.
[8908]:ساقطة من الأصل وم.
[8909]:في الأصل وم: قد.
[8910]:في الأصل وم: مما.
[8911]:من م، في الأصل: المحسن.
[8912]:من م، في الأصل: جوهر.
[8913]:من م، في الأصل: فإن.
[8914]:في الأصل وم: حد.
[8915]:في الأصل وم: بالأسنان.
[8916]:في الأصل وم: وأما الإدراك إنما.
[8917]:من م، ساقطة من الأصل.
[8918]:في م: رحمة الله.
[8919]:من م، ساقطة من الأصل.
[8920]:في الأصل: يرون.
[8921]:في الأصل وم: وأيضا.
[8922]:في الأصل: بحجب أو، في م: بالحجب أو.
[8923]:في الأصل وم: و.
[8924]:في الأصل وم: و.
[8925]:الفاء ساقطة من الأصل وم.
[8926]:في الأصل وم: ليعرف.
[8927]:ساقطة من الأصل وم.
[8928]:في الأصل وم: صار.
[8929]:في الأصل وم: من.
[8930]:في الأصل وم: و.
[8931]:بالأصل وم: الذي.
[8932]:ساقطة من الأصل وم.
[8933]:الفاء ساقطة من الأصل وم.
[8934]:في الأصل وم: وغيره.
[8935]:ساقطة من الأصل وم.
[8936]:في الأصل وم: على.
[8937]:في الأصل وم: من.
[8938]:ساقطة من الأصل وم.