الآية 143 وقوله تعالى : { ولما جاء موسى لميقاتنا } أي لميعادنا الذي وعدناه { وكلّمه ربه } لا يجوز لنا أن نصف كيفية الكلام وماهيّته سوى أنه أنشأ كلاما وصوتا أسمعه موسى كيف شاء بما شاء بكلام مخلوق [ وصوت مخلوق ]{[8890]} { قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني } الآية . قال قائلون : إن موسى لم يسأل ربه الرؤية لنفسه ، ولكن سأل لقومه لسؤال القوم له كقوله تعالى : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] لكن هذا بعيد ؛ لأنه لو كان سؤاله إياه لسؤال قومه لكان ر يقول : { رب أرني أنظر إليك } ولكن يقول أرهم ينظروا{[8891]} إليك . فدل أنه لم يكن لذلك .
وقال قائلون : لم يكن سؤال ربه رؤية الرب ، ولكن سأل ربه رؤية الآيات والأعلام والأدلة التي بها يرى . وذلك جائز سؤال الرؤية سؤال رؤية الآيات والأعلام . وذلك بعيد ، لأنه قد أعطاه من الآيات من نحو العصا التي كان ضرب{[8892]} بها الحجر { فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا } [ البقرة : 60 ] وما كان من فرق البحر وإهلاك العدو واليد البيضاء وغير ذلك من الآيات . فإذا بطل ذلك دل أنه سأل حقيقة الرؤية .
والقول بها لازم عندنا في الآخرة ، وحق من غير إدراك ولا تفسير . والدليل على ذلك قوله تعالى : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } [ الأنعام : 103 ] ولو كان لا يرى لم يكن لنفي الإدراك حكمة ؛ إذ لا يدرك غيره بغير الرؤية ، فوضع نفي الإدراك وغيره من الخلق ، لا يدرك إلا بالرؤية ، لا معنى له ، والله الموفق .
وأيضا قول موسى : { رب أنظر إليك } الآية : ولو [ كانت لا تجوز ]{[8893]} الرؤية لكان منه جهل بربه ، ومن يجهله لا يحتمل أن يكون موضعا لرسالته أمينا على وحيه .
وبعد فإنه لم ينهه ، ولا آيسه ، وبدون ذلك قد نهى نوحا ، وعاتب آدم وغيره من الرسل . وذلك لو كان لا يجوز لبلغ الكفر .
ثم قال : { ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني } فإن قيل : لعله سأل آية ليعلم{[8894]} بها . قيل لا يحتمل ذا لوجوه :
أحدها : أنه قال : { لن تراني } وقد أراه الآية .
والثاني{[8895]} : أن طلب الآيات{[8896]} يخرج [ مخرج ]{[8897]} التعنّت ، إذ قد أراه الآيات على ما ذكرنا ؛ وذلك صنيع الكفرة أنهم لا يزالون يطلبون الآيات ، وإن كانت الكفاية قد ثبتت لهم ، فمثله ذلك أيضا .
والثالث{[8898]} : أنه قال : { فإن استقر مكانه فسوف تراني } [ والآية التي يستقر ]{[8899]} معها الجبل هي دون التي لا يستقر معها . ثبت أنه لم يرد بذلك الآية .
والرابع{[8900]} : محاجّة إبراهيم عليه السلام في النجوم ، وما ذكر بالأفول والغيبة ، ولم يحاجّهم بألا يحب ربّا ، يرى ، ولكن حاجّهم بألا يحب ربا ، يأفل ؛ إذ هو دليل عدم الدوام ، ولا قوة إلا بالله .
والخامس{[8901]} : قوله تعالى : { وجوه يومئذ ناظرة } { إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22و23 ] ثم لا يحتمل ذلك الانتظار لوجوه :
أحدها : أن الآخرة{[8902]} ليست بوقت الانتظار ، وإنما هي الدنيا ، وهي دار الوقوع [ والوجود إلى ]{[8903]} وقت الفزع وقبل أن يعاينوا في أنفسهم ماله حق الوقوع .
والثاني : قوله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة } [ القيامة : 22 ] وذلك وقوع الثواب .
والثالث : قوله تعالى : { إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 23 ] و { إلى } حرف يستعمل في النظر إلى الشيء لا في الانتظار .
والرابع : أن القول به يخرّج مخرج البشارة لعظيم ما نالوه من النعم . /185-أ/ والانتظار ليس منه مع ما كان الصرف عن حقيقة المفهوم قضاء على الله . فيلزم القول بالنظر إلى الله كما قال على نفي جميع معاني{[8904]} الشّبه عن الله سبحانه على ما أضيف إليه من الكلام والفعل والقدرة والإرادة : إنه يجب الوصف به على نفي جميع معاني الشّبه .
وكذلك القول بالشبه . فمن زعم أن الله لا يقدر أن يكرم أحدا بالرؤية فهو يقدر في الرؤية التي فهمها من الخلق .
وإذا كان القول بالرحمن { على العرش استوى } [ طه : 5 ] وغير ذلك من الآيات ، لا يجوز دفعها بالعرض على المفهوم من الخلق ، بل يحقق ذلك على نفي الشبه فمثله خبر الرؤية .
وأيضا قوله تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] وجاء في غير خبر : النظر إلى الله . وقد يحتمل غير ذلك مما جاء فيه التفسير . لكنه لولا القول بالرؤية ، كان أمرا ظاهرا لم يحتمل صرف ظاهر ، لم يجئ فيها [ إليها ]{[8905]} ويدفع به الخبر ، والله أعلم .
وأيضا{[8906]} ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في غير خبر أنه قال : ( سترون ربكم يوم القيامة [ كما ترون القمر ]{[8907]} ليلة البدر لا تضامون ) [ البخاري : 2573 ] وسئل : ( هل رأيت ربك ؟ فقال : بقلبي قلبي ) [ مشكاة المصابيح 5729 ] فلم ينكر على السائل السؤال ، وقد علم السائل رؤية القلب ، إذ هي علم قد علمه ، وإنه لم يسأل عن ذلك .
وقد حذّر الله المؤمنين [ السؤال ]{[8908]} عن الأشياء التي{[8909]} كفّوا عنها بقوله : { لا تسألوا عن أشياء } [ المائدة : 101 ] فكيف يحتمل أن يكون السؤال عن مثله يجيء ؟ وذلك كفر في الحقيقة عند قوم ، ثم ينهاهم عن ذلك ، ولا يوبّخهم في ذلك ، بل يليق القول في ذلك ، ويروى أن ذلك ليس ببديع ، والله الموفق .
وأيضا إن الله وعد أن يجزي أحسن ما{[8910]} عملوا به في الدنيا ، ولا شيء أحسن من التوحيد ، وأرفع قدرا من الإيمان به ؛ إذ هو المستحسن{[8911]} بالعقول ، والثواب الموعود من جوهره{[8912]} الجنة ، حسنه حسن الطبع ؛ وذلك دون حسن العقل ؛ إذ لا يجوز أن يكون شيء حسن في العقول ، لا يستحسنه ذو عقل .
وجائز ما استحسنه الطبع طبعا لا يتلذذ به كطبع الملائكة ، ومثله في العقوبة . لذلك لزم القول بالرؤية لتكون كرامة تبليغ في الجلالة ما أكرموا به ، وهو أن يصير لهم المعبود بالغيب شهودا كما صار المطلوب من الثواب حضورا . ولا قوة إلا بالله .
ولا يحتمل العلم ، لأن كلاّ يجمع على العلم بالله في الآخرة ، العلم الذي لا يعتريه الوسواس . وذلك علم العيان لا علم الاستدلال . وكثرة الآيات لا تحقق علم الحق الذي لا يعتري ذلك . دليله قوله تعالى : { ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة } الآية [ الأنعام : 111 ] وما ذكر من استعانة الكفرة بالتكذيب في الآخرة وإنكار الرسل وقولهم : { لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } [ الأحقاف : 35 ] وغير ذلك .
وبعد فإنه إذ لا يجوز أن يصير علم العيان نحو علم الاستدلال لم يجز أن يصير علم الاستدلال نحو علم العيان ، فثبت أن الرؤية توجب ذلك . وبعد فإنه{[8913]} ، في ذلك العلم يستوي المؤمن والكافر . والبشارة بالرؤية خصّ بها المؤمن ولا قوة إلا بالله .
ولا نقول بالإدراك بقوله : { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] فقد امتدح بنفي الإدراك لا بنفي الرؤية ، وهو كقوله تعالى : { ولا يحيطون به علما } [ طه : 110 ] كان في ذلك إيجاب العلم ونفي الإحاطة . فمثله في الحق الإدراك ، وبالله التوفيق .
وأيضا إنّ الإدراك إنما هو الإحاطة بالمحدود ، والله يتعالى عن وصف الحد ، إذ هو نهاية وتقصير عما هو أعلى منه ، على أنه واحديّ الذات . والحد وصف المتصل الأجواء حتى ينقضي مع إحالة القول بالحد ؛ إذا كان ، ولا ما يحد ، أو به يحد ، فهو على ذلك لا يتغير . على أن لكل شيء حدّا{[8914]} ، يدرك سبيله ، نحو الطعم واللون والذوق ، والحد وغير ذلك من حدود خاصية الأشياء جعل الله لكل شيء من ذلك وجها يدرك ، ويحاط به حتى العقول والأعراض .
فأخبر الله تعالى أنه ليس بذي حدود وجهات ؛ هي طرق إدراكه بالأسباب{[8915]} الموضوعة لتلك الجهات . وعلى ذلك القول بالرؤية والعلم جميعا ، ولا قوة إلا بالله .
وبعد فإن القول بالرؤية يقع على وجوه لا تعلم حقيقة كل وجه من ذلك إلا بالعلم بذلك الوجه حتى إذا عبّر عنه بالرؤية صرف إلى ذلك ، وما لا يعرف له الوجه بدون ذكر الرؤية لزم الوقف في ماهيّتها على تحقيقها .
[ أحدها : الإدراك ]{[8916]} : هو معنى الوقوف على حدود الشيء . ألا ترى أن الظل في التحقيق يرى ؟ لكنه لا يدرك إلا بالشمس ، وإلا كان مرئيا على ما يرى لوقت نسخ الشمس ، ولكن لا يدرك إلا بما تبيّن له الحد .
وكذلك ضوء النهار يرى ؛ لكنّ حدّه لا يعرف بذاته ، وكذلك الظلمة ؛ لأن طرفها ، لا يرى ، فيدرك ، ويحاط به ، وبالحدود يدرك الشيء ، وإن كان لا يرى لا بها . ولذلك ضرب المثل بالقمر ؛ لأنه لا يعرف حدّه ولا سعته ليعرف ، ويحاط به ، ويرى بيقين ، ولا قوة إلا بالله .
والأصل فيه القول بذلك على قدر ما جاء به ، ونفى كل معنى من معاني الخلق ، ولا يفسر لما لم يجئ ، والله الموفق .
ثم زعم الكعبيّ أن الغائب ، إن لم يخرج عن الوجوه التي بها يعلم ، فكذلك لا يرى إلا بالوجوه التي بها يرى من المباينة للمرئيّ ولما حلّ فيه المرئي بالمسافة والمقابلة واتصال الهواء والصغر [ وعدم الصغر ]{[8917]} والبعد . ولو جازت الرؤية بخلاف هذه لجاز العلم به .
قال الشيخ [ رحمة الله عليه ]{[8918]} : وهذا خطأ ، لأنه قدّر رؤية جوهره ، [ وقد علم أن غير جوهره ]{[8919]} جوهر يرى{[8920]} من الوجه الذي لا يقدر على الإحاطة بجوهره فضلا عن إدراك ببصره ، نحو الملائكة والجن وغيرهم مما يروننا من حيث لا نراهم ، والجثة الصغيرة نحو البقّ ونحو ذلك مما يرى لما لو توهّم مثل ذلك البصر لما احتمل الإدراك .
ويرى الملك الذي يكتب جميع أفعالنا ، ويسمع جميع أقوالنا على ما لو أردنا تقدير ذلك بما عليه جبلنا للزم إنكار ذلك كله ، وذلك عظيم ، وكذلك ما ذكر من نطق الجلود وغيرها مما لو امتحن بمثلها أمر الشاهد لوجد عظيما .
وبعد فإنه في الشاهد يفصل بين البصرين في الرؤية والتمييز على قدر تفاوتهما بما اعتراها في الحجب مما لو قابل أحدهما حال الآخر على حاله وجده مستنكرا . وإذا كان كذلك بطل التقدير بالذي ذكر ، والله الموفّق .
والثاني{[8921]} : أنه في الشاهد بكل أسباب العلم لا يعلم غير العضو والجسم . ثم جائز العلم بالغائب خارجا منه ، فمثله الرؤية .
والثالث : ما ذكرنا من رؤية الظل والظلمة والنور من غير شيء من تلك الوجوه .
والرابع : أنه قد يجوز وجود تلك المعاني كلها مع عدم الرؤية إما [ بالحجب وإمّا ]{[8922]} بالجوهر ، فجاز تحقيق الرؤية على نفي تلك المعاني نحو ما أجيب القائل بالجسم عند معارضته بالفاعل .
والعالم ، إذ وجد ، جسم لا كذلك ، فيجوز وجود ذلك ، ولا جسم ؛ فمثله في الرؤية . على أن البعد الذي يحجبنا عن{[8923]} الرؤية يجوز أن يبلغه بصر غيرنا ، فصار ارتفاع الرؤية بالحجاب ، فإذا ارتفع جاز ، ولا قوة إلا بالله .
وبعد فإن الذي يقوله تقدير برؤية الأجسام ، ولم يمتحن بصره بغير الأجسام والأعراض أن كيف سبيل الرؤية له ؟ وبعد فإن كل جسم يرى ، وإن كانت الدّقة والبعد يحجبان ، فيجوز ارتفاعهما عن بصر غير ، فيرى ملك الموت من بأطراف الأرض ووسطها لو اعتبر ذلك ببصر البشر لما احتمل الإدراك . فثبت أن الذي قدر به ليس هو سبب تعريف ما يبصره ، ولكن سبب تعريف ما يحجب به البصر . فإذا ارتفع رأى مع ما كان المنفيّ رؤيته لذاته عرض .
فإن لزم إنكار الرؤية لما ليس بجسم أو لما لا يرى إلا بما ذكر ليلزم الإقرار به ؛ لأن الذي لا يرى لذاته ، هو العرض ، وإلاّ فكل غير يرى ، ولا قوة إلا بالله .
وإن{[8924]} عورض بأمر الدنيا ، وبحال العرض بذلك فلا{[8925]} يسقط المحنة ، ويرفع الكلفة . والدنيا هي لهما . ثم ذكر في أمر موسى أن ذلك على علم الإحاطة بالآيات ، وقد بيّنا فساد ذلك ، وما ذلك بالذي يسأل ، وهو رسول ، بعث إلى ما به نجاة الخلق ، وذلك لا يكون بغير /185-ب/ الممتحن ؛ إذ هو تبليغ الرسالة والدعاء إلى العبادة ، وهي محنة .
بل سأل الرؤية ليجلّ قدره ، ويعرف{[8926]} عظيم محلّه عند الله ، أو أن يكون الله أمره به ليعلم الخلق جواز ذلك ، وبالله التوفيق .
ثم استدل بأنه لم ير من يعقل ، إنما أري الجبل ، والجبل لا يعقل ليعلمه ، وليراه ، فيقال له : لو كانت الآية [ الجبل ]{[8927]} فالجبل لا يراها ، ولا يعقل . فإذا كان كذلك فالآية إذن صارت{[8928]} اندكاك الجبل ، لا أن أراه الآية يستدل بها . وفي هذا آية ؛ قد رأى موسى الآية ، وهي اندكاك الجبل ، والله تعالى يقول : { لن تراني } وجملته على الآية ، وقد رآها ، ولا قوة إلا بالله .
فإن قيل : ما معنى توبته ، لو كان سؤاله على الأمر ؟ قيل : على العادة في الخلق لما{[8929]} يحدثه عند الأهوال بلا حدوث ذنب ، أو لما رأى من جلال الله وعظمته ، فزع إلى التوبة وإحداث الإيمان به ، وإن لم يكن يوجب ذلك ، وذلك متعارف في الخلق .
ويحتمل أن يكون قوله تعالى : { لن تراني } وكان عنده جواز الرؤية في الشاهد واحتمال وسعه ذلك بما وعد الله في الآخرة ، رجع عما كان عنده ، وآمن بالذي قال : { لن تراني } وإن كان في أصل إيمانه داخلا على نحو إحداث المؤمنين الإيمان بكل آية تنزيل وبكل فريضة تتجدّد ، وإن كانوا في جملة مؤمنين بالكل ، والله الموفق .
وقد بيّنا ما قالوا في قوله : { وجوه يومئذ ناضرة } ، [ القيامة : 22و23 ] .
والأصل في الكلام أنه إذا كان على أمر معهود ، أو يقرن به المقصود إليه ، صرف عن حقيقته ، وإلاّ ، لا ؛ وذلك نحو قوله تعالى : { ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظل } [ الفرقان : 45 ] وقوله{[8930]} : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } [ الفجر : 6 ] .
وأصله أن من قال : رأيت فلانا ، أو نظرت إلى فلان لم يحتمل غير ذاته ، وإذا قال : رأيته يقول : كذا ، ويفعل كذا ، إنه لا يريد به رؤية ذاته فمثله أمر قصة موسى وهذه الآية .
وروي عن ضرار بن عمرو أنه أتى البصرة ، فقال : يا أهل البصرة إما أن كان موسى مشبّها وإما أن كان الله يرى ؛ لأنه لو كان الذي لا يرى ، فسأل ربه رؤيته كان جاهلا به مشبّها خلقه به ، فدل أنه يرى .
ثم الأصل أن تأمّل الذي ذكره الكعبيّ عرف أنه مشبّهي المذهب ؛ لأنه لم يذكر المعنى الذي يجب له يجب أن تكون الرؤية بتلك الشرائط ، إنما أخبر أنه كذلك وجد ، وهو قول المشبّهة : إنه وجد كل فاعل في الشاهد جسما ، وكذا كل عالم ، فيجب مثله في الغائب .
ثم ذكر معنى رؤية الجسم ، ولم يذكر معنى رؤية غير الجسم ، حتى يكون له دليلا . وبعد فإنه نفى بالدقة والبعد وهما زائلان عن الله تعالى . ثم احتجّ بامتداح الله تعالى : { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] وقد قال : لا يجوز أن يزول . فمثله عليه في قوله : { على كل شيء قدير } [ البقرة : 20و . . ] فلا يجوز أن يزول .
ثم قد وصف الله بالرؤية على إسقاط ما ذكر ، فثبت أن ذلك طريق ، لا يؤدّي عن كنه ما به الرؤية .
فإن قيل : كيف يرى ؟ قيل : بلا كيف ؛ إذ الكيفية تكون بالذي{[8931]} صوّره ، بل يرى بلا وصف قيام وقعود واتكاء وتعلّق واتصال وانفصال ومقابلة ومدابرة وقصير وطويل ونور وظلمة وساكن ومتحرك ومماسّ ومباين وخارج وداخل ، ولا معنى يأخذه الوهم ، أو يقدّره العقل ، لتعاليه عن ذلك .
وقوله تعالى : { فلما تجلّى ربه للجبل جعله دكّا } الآية . قال أبو بكر الأصم : تجلّى بالآيات والعلام التي بها يرى ، وكذلك قال في قوله { رب أرني أنظر إليك } إنه إنما سأل ربه الآيات والأعلام التي ترى لا رؤية الذات . وقد بينا بعده وإحالته لما قد أعطاه من الآيات والأعلام [ ما ]{[8932]} له غنية عن غيرها ، فلا{[8933]} يحتاج إلى غيرها .
وقال الحسن : إن موسى سأل ربه الرؤية في غير وقت الرؤية ، وهو يقرّ بالرؤية ، لكنه يقول : سألها في الدنيا ، وبيّنته هذا العالم ، لا تحتمل ذلك . ألا ترى أنه قال { فإن استقر مكانه فسوف تراني } أخبر أن الجبل لا يستقر له فكيف تستقر أنت ؟ لكنه ينشئ بيّنة تحتمل ذلك . وقال الحسن : لذلك قال موسى : { تبت إليك وأنا أول المؤمنين } أن ليس في الدنيا الرؤية . إلى نحو هذا يذهب الحسن . وقد ذكرنا نحن الوجه على قدر ما حضر لنا .
وقال أهل التأويل : قوله تعالى : { تجلّى ربه } أي ظهر . لكن لا يفهم من ظهوره ما يفهم من ظهور الخلق على ما ذكرنا في قوله تعالى : { استوى على العرش } [ الأعراف : 54 ] وقوله تعالى : { وجاء ربك } [ الفجر : 22 ] وغيرهما{[8934]} من الآيات ؛ [ لأنه ]{[8935]} لا يقدّر استواؤه باستواء الخلق ، وكذلك مجيئه . فعلى ذلك ظهوره ، وبالله العصمة .
وروي أن في التوراة أنه جاء من طور سيناء ، وظهر من جبل ساعورا ، واطّلع من جبل فاران وتأويله : جاء وحيه على موسى في طور سيناء ، وظهر على عيسى في جبل ساعورا ، وطلع على محمد في جبل فاران .
ثم العجب أن كيف اجترأ موسى بالسؤال بسؤال مثله { أرني أنظر إليك } ؟ لكنه يحتمل وجوها :
أحدها : على الأمر بالسؤال عن{[8936]} ذلك ليعلم أنه يرى ، ويعتقدوا ذلك ، أو على الظن منه لما رأى أنه أعطاه أشياء ، لا يكون مثلها في الدنيا ، إنما يكون في الآخرة ، خص بها ، من نحو انفجار العيون من الحجر من غير مؤنة تكون لهم في ذلك في{[8937]} حفر الأنهار وإصلاحها وأنواع المؤن ، ونحو ما أعطاهم من اللباس الذي ينمو ، ويزداد على قدر قامتهم وطولهم ، ومن نحو ما أعطاهم من المنّ والسلوى على غير مؤنة ولا جهد . وذلك كله وصف الجنة .
فلما رأى ذلك ظن أن الرؤية أيضا ، تكون في الدنيا على ما كانت له من أشياء ، لم يكن مثلها لأحد في الدنيا . أو لمّا رأى أنه سمع كلام ربه ، وألقى [ على ]{[8938]} مسامعه كلامه ؛ لا من مكان ولا من قريب ولا بعيد ولا من أسفل ولا من أعلى ولا من فوق ولا من تحت . لكنه سمع بما شاء ، وكيف شاء ؟ بلطفه ، فعلى ظن أنه يجوز له أن يسأل ربه الرؤية ، فيريه بها شاء ، وكيف شاء ؟ بلطفه كما ذكرنا .