هذا إخبار عن اصطفاء يوسف عليه السّلام للنبوءة . ذكر هنا في ذكر مبدأ حلوله بمصر لمناسبة ذكر منّة الله عليه بتمكينه في الأرض وتعليمه تأويل الأحاديث .
والأشدُّ : القوة . وفسر ببلوغه ما بين خمس وثلاثين سنة إلى أربعين .
والحكم والحكمة مترادفان ، وهو : علم حقائق الأشياء والعمل بالصالح واجتناب ضده . وأريد به هنا النبوءة كما في قوله تعالى في ذكر داود وسليمان عليهما السّلام { وكلاً آتينا حكماً وعلماً } [ سورة الأنبياء : 79 ] . والمراد بالعلم علم زائد على النبوءة .
وتنكير { علماً } للنوعية ، أو للتعظيم . والمراد : علم تعبير الرؤيا ، كما سيأتي في قوله تعالى عنه : { ذلكما ممّا علّمني ربي } [ سورة يوسف : 37 ] .
وقال فخر الدين : الحكم : الحكمةُ العملية لأنها حكمٌ على هدى النفس . والعلمُ : الحكمةُ النظرية .
والقول في { وكذلك نجزي المحسنين } كالقول في نظيره ، وتقدم عند قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) .
وفي ذكر { المحسنين } إيماء إلى أنّ إحسانه هو سبب جزائه بتلك النعمة .
وفي هذا الذي دبّره الله تعالى تصريح بآية من الآيات التي كانت في يوسف عليه السّلام وإخوته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولما بلغ أشده}، يعني: ثماني عشرة سنة، {آتيناه حكما}، يقول: أعطيناه فهما، {وعلما وكذلك نجزي المحسنين}، يعني: وهكذا نجزي المخلصين بالفهم والعلم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لما بلغ يوسف أشدّه، يقول: لما بلغ منتهى شدّته وقوّته في شبابه وحده. وذلك فيما بين ثماني عشرة إلى ستين سنة، وقيل إلى أربعين سنة،وقد اختلف أهل التأويل في الذي عنى الله به في هذا الموضع من مبلغ الأشدّ:
فقال بعضهم: عُني به: ثلاث وثلاثون سنة...
وقال آخرون: بل عُني به: عشرون سنة... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه آتى يوسف لما بلغ أشدّه حكما وعلما.
والأشُدّ: هو انتهاء قوّته وشبابه. وجائز أن يكون آتاه ذلك وهو ابن ثماني عشرة سنة، وجائز أن يكون آتاه وهو ابن عشرين سنة، وجائز أن يكون آتاه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ولا دلالة في كتاب الله، ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في إجماع الأمة، على أيّ ذلك كان. وإذا لم يكن ذلك موجودا من الوجه الذي ذكرت، فالصواب أن يقال فيه كما قال عزّ وجلّ، حتى تثبت حجة بصحة ما قيل في ذلك من الوجه الذي يجب التسليم له، فيسلم لها حينئذ.
{آتَيْناهُ حُكْما وَعِلْما}، يقول تعالى ذكره: أعطيناه حينئذ الفهم والعلم.
{وكذلكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ}، يقول تعالى ذكره: وكما جزيت يوسف، فآتيته- بطاعته إياي- الحكمَ والعلم، ومكنته في الأرض، واستنقذته من أيدي إخوته الذين أرادوا قتله، كذلك نجزي من أحسن في عمله، فأطاعني في أمري، وانتهى عما نهيته عنه من معاصيّ. وهذا وإن كان مخرَج ظاهره على كلّ محسن، فإن المراد به محمد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم. يقول له عزّ وجلّ: كما فعلتُ هذا بيوسف من بعد ما لقي من إخوته ما لقي، وقاسى من البلاء ما قاسى، فمكنته في الأرض، ووطّأت له في البلاد، فكذلك أفعل بك، فأنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكن لك في الأرض، وأوتيك الحكم والعلم، لأن ذلك جزائي أهلَ الإحسان في أمري ونهيي.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {حُكْمًا} حكمة وهو العلم بالعمل واجتناب ما يجهل فيه. وقيل: حكما بين الناس وفقها. {وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} تنبيه على أنه كان محسناً في عمله، متقياً في عنفوان أمره، وأنّ الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه. وعن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر تعالى يوسف عما يريد بيوسف عليه الصلاة والسلام بما ختمه بالإخبارعن قدرته، أتبعه الإعلام بإيجاد ذلك الفعل دلالة على تمام القدرة وشمول العلم فقال: {ولما بلغ أشده} أي مجتمع قواه {آتيناه} أي بعظمتنا {حكماً} أي نبوة أو ملكة يكف بها النفس عن هواها، من حكمة الفرس، فلا يقول ولا يفعل إلا أمراً فصلاً تدعو إليه الحكمة؛ قال الرماني: والأصل في الحكم تبيين ما يشهد به الدليل، لأن الدليل حكمة من أجل أنه يقود إلى المعرفة {وعلماً} أي تبييناً للشيء على ما هو عليه جزاء له لأنه محسن {وكذلك} أي ومثل ذلك الجزاء الذي جزيناه به {نجزي المحسنين} أي العريقين في الإحسان كلهم الذين رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي أسرى به فأعلاه ما لم يعل غيره...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي منتهى اشتدادِ جسمه وقوتِه وهو سنُّ الوقوف ما بين الثلاثين إلى الأربعين، وقيل: سنُّ الشباب ومبدأ بلوغِ الحُلُم والأولُ هو الأظهرُ لقوله تعالى: {أتيناه حُكْمًا} حِكمةً وهو العلم المؤيَّدُ بالعمل أو حكماً بين الناس وفقهاً أو نبوة {وَعِلْماً} أي تفقهاً في الدين، وتنكيرُهما للتفخيم أي حكماً وعلماً لا يُكتنه كُنهُهما ولا يقادَرُ قدرُهما فهما ما آتاه الله تعالى عند تكاملِ قُواه سواءٌ كانا عبارةً عن النبوة والحُكم بين الناس أو غيرِهما، كيف لا وقد جُعل إيتاؤهما جزاءً لعمله عليه السلام حيث قيل: {وكذلك} أي مثلَ الجزاءِ العجيب {نَجْزِى المحسنين} أي كلَّ من يُحسِن في عمله فيجب أن يكون ذلك بعد انقضاءِ أعمالِه الحسنةِ التي من جملتها معاناةُ الأحزان والشدائدِ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بدئت هذه القصة ببيان إيتاء الله الحكم والعلم ليوسف عند استكمال سن الشباب وبلوغ الأشد، وأن هذا العطاء جزاء منه سبحانه له على إحسانه في سيرته منذ سن التمييز لم يكن مسيئا في شيء قط، وختمت بشهادته تعالى بما كان من اقتناع العزيز ببراءته من الخطيئة والتياث امرأته بها وحدها قال عز وجل:
{ولما بلغ أشده} أي رشده وكمال قوته وشدته باستكمال نموه البدني والعقلي {آتيناه حكما وعلما} أي وهبناه حكما إلهاميا وعقليا بما يعرض له أو عليه من النوازل والمشكلات مقرونا بالحق والصواب، وعلما لدنيا وفكريا بحقائق ما يعينه من الأمور، وهذه السن في عرف الأطباء تتم في خمس وعشرين سنة، ولأهل اللغة ورواة التفسير فيها أقوال فعن عكرمة أنها 25 سنة وعن ابن عباس أنها ثلاث وثلاثون سنة ولعله أخذه من قوله تعالى في كمال البنية الإنسانية {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة} [الأحقاف:15] فجعلها درجتين بلوغ الأشد وبلوغ الأربعين وهي سن الاستواء كما قال في موسى {ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين} [القصص: 14] فالأول مبدأ استكمال النمو العضلي والعصبي والثاني مستواه، وبه يتم الاستعداد للنبوة ووحي الرسالة.
وقد ثبت عن علماء النفس والاجتماع أن الإنسان يظهر استعداده العقلي والعلمي بالتدريج حتى إذا بلغ خمسا وثلاثين سنة لا يظهر فيه شيء جديد من العلم الكسبي غير ما ظهر من بدء سن التمييز إلى هذه السن، وإنما يكمل ما كان ظهر منه إذا هو ظل مزاولا له ومشتغلا بتكميله، وقد بينا ذلك في تفسير قوله تعالى {فقد لبث فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون} [يونس: 16] وفصلناه في كتاب الوحي المحمدي وقد ظهر حكم يوسف وعلمه بعد بلوغ أشده في مصر كما يأتي تفصيله في مواضعه.
{وكذلك نجزي المحسنين} أي وكذلك شأننا وسنتنا في جزاء المتحلين بصفة الإحسان الثابتين عليه بالأعمال، الذين لم يدنسوا فطرتهم ولم يدنسوا أنفسهم بالإساءة في أعمالهم، نؤتيهم نصيبا من الحكم بالحق والعدل، والعلم الذي يزينه ويظهره القول الفصل، فيكون لكل محسن حظه من الحكم الصحيح والعلم النافع بقدر إحسانه، وبما يكون له من حسن التأثير في صفاء عقله، وجودة فهمه وفقهه، غير ما يستفيده بالكسب من غيره، لا يؤتى مثله المسيئون بإتباع أهوائهم وطاعة شهواتهم، وقال ابن جرير الطبري: وهذا وإن كان مخرج ظاهره على كل محسن فالمراد به محمد صلى الله عليه وسلم، يقول له عز وجل: كما فعلت هذا بيوسف من بعد ما لقي من إخوته ما لقي فكذلك أفعل بك، فأنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكن لك في الأرض الخ. وأقول: لا شك أن هذه السنة في جزاء المحسنين عامة، ولكل محسن منها بقدر إحسانه، وإذن يكون حظ محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من حظ يوسف وغيره من الأنبياء عليهم السلام.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما. وكذلك نجزي المحسنين)..
فقد أوتي صحة الحكم على الأمور، وأوتي علما بمصائر الأحاديث أو بتأويل الرؤيا، أو بما هو أعم، من العلم بالحياة وأحوالها، فاللفظ عام ويشمل الكثير. وكان ذلك جزاء إحسانه. إحسانه في الاعتقاد وإحسانه في السلوك:
والبلوغ هو الوصول إلى الغاية، وقوله تعالى: {بلغ أشده} أي: وصل إلى غايته في النضج والاستواء؛ ومن كلمة "بلغ "أخذ مصطلح البلوغ؛ فتكليف الإنسان يبدأ فور أن يبلغ أشده؛ ويصير في قدرة أن ينجب إنسانا مثله. وحين يبلغ إنسان مثل يوسف أشده، وهو قد عاش في بيت ممتلئ بالخيرات؛ فهذا البلوغ إن لم يكن محروسا بالحكمة والعلم؛ ستتولد فيه رعونة؛ ولهذا فقد حرسه الحق بالحكمة والعلم. والحكم هو الفيصل بين قضيتين متعاندتين متعارضتين؛ حق وباطل؛ وما دام قد أعطاه الله الحكم، فهو قادر على أن يفصل بين الصواب والخطأ. وقد أعطاه الله العلم الذي يستطيع أن ينقله إلى الغير، والذي سيكون منه تأويل الرؤى، وغير ذلك من العلم الذي سوف يظهر حين يولي على خزانة مصر. إذن فهنا بلغ يوسف أشده وحرسه الحق بالحكمة والعلم. ويذيل الحق سبحانه هذه الآية بقولة: {وكذلك نجزي المحسنين} وكل إنسان يحسن الإقامة لما هو فيه؛ يعطيه الله ثمرة هذا الحسن... وهذا حال عظماء الدنيا كله. وهكذا نجد قول الحق سبحانه: {وكذلك نجزي المحسنين} لا ينطق على يوسف وحده؛ بل على كل من يحسن استقبال قدر الله؛ لأنه سبحانه ساعة يأتي بحكم من الأحكام؛ وبعد ذلك يعمم الحكم؛ فهذا يعني أن هذا الحكم ليس خاصا بل هو عام. وإذا كان الحق سبحانه يورد هذا في مناسبة بعينها، فإنه يقرر بعدها أن كل محسن يعطيه الله الحكم والعلم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... وعاش يوسف، لا كما يعيش من هم في سنّه من الشباب حياة اللهو والعبث، بل عاش حياة فكرٍ وتأمّل وعلم، ودراسةٍ واقعيةٍ للساحة التي تحيط به لما تقتضيه الحكمة من معايشة للواقع، وفهمٍ له، وملاحقةٍ لخصوصيات التجارب المختلفة كي يصدر الحكم على الأشياء من قاعدة الوعي العميق لطبيعتها وطبيعة انطلاقها وحركتها، وقد وهبه الله من فضله، ما يكفل وصوله إلى الغايات التي يريدها من حركة حياته في خط رسالته وتدبيره، كونه أحسن النيّة، وصدق العمل، وسار في الطريق المستقيم. {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} فأصبح من أولي الحكم الذين يقصدون للحكم من موقعٍ فكريٍّ عميقٍ واسعٍ، وعلمٍ غزيرٍ شاملٍ، جزاءً لصبره وإحسانه، لما يمثله الصبر في حياة الإنسان من تعميقٍ للفكر وتوسيعٍ له، أمام مصاعب الحياة ومشاكلها التي لا يتحملها إلا الصابرون، وبما يمثله الإحسان من انفتاح على الكون في حاضر الحياة ومستقبلها، بالشكل الذي يغني التجربة، ويوسّع الأفق، ويوحي بالامتداد، {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} في ما نخصهم به من مواهب ونعم في الحكم والعلم والقدرة...