التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ فَسۡـَٔلۡ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِذۡ جَآءَهُمۡ فَقَالَ لَهُۥ فِرۡعَوۡنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰمُوسَىٰ مَسۡحُورٗا} (101)

بَقي قولهم : { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } [ الإسراء : 92 ] غيرَ مردود عليهم ، لأن له مخالفة لبقية ما اقترحوه بأنه اقتراح آية عِذاب ورعب ، فهو من قبيل آيات موسى عليه السلام التسع . فكان ذكر ما آتاه الله موسى من الآيات وعدم إجداء ذلك في فرعون وقومه تنظيراً لما سأله المشركون .

والمقصود : أننا آتينا موسى عليه السلام تسع آيات بيّناتتِ الدلالة على صدقه فلم يهتد فرعون وقومه وزعموا ذلك سحراً ، ففي ذلك مَثلٌ للمكابرين كلهم وما قريش إلا منهم . ففي هذا مثَل للمعاندين وتسلية للرسول . والآيات التسع هي : بياض يده كلما أدخلها في جيبه وأخرجَها ، وانقلاب العصا حية ، والطوفان ، والجراد ، والقُمّل ، والضفادع ، والدم ، والرجز وهو الدمل ، والقحط وهو السنون ونقص الثمرات ، وهي مذكورة في سورة الأعراف . وجمعها الفيروزآبادي في قوله :

عَصًا ، سَنَةٌ ، بَحْر ، جراد ، وقُمّل *** يَدٌ ، ودَمٌ ، بعد الضفادع طُوفَانُ

فقد حصلت بقوله : { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } الحجة على المشركين الذين يقترحون الآيات .

ثم لم يزل الاعتناء في هذه السورة بالمقارنة بين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالة موسى عليه السلام إقامةً للحجة على المشركين الذين كذبوا بالرسالة بعلة أن الذي جاءهم بشر ، وللحجة على أهل الكتاب الذين ظاهروا المشركين ولقنوهم شُبه الإلحاد في الرسالة المحمدية ليصفو لهم جَوّ العلم في بلاد العرب وهم ما كانوا يحسبون لما وراء ذلك حساباً .

فالمعنى : ولقد آتينا موسى تسع آيات على رسالته .

وهذا مثل التنظير بين إيتاء موسى الكتاب وإيتاء القرآن في قوله في أول السورة { وآتينا موسى الكتاب } [ الإسراء : 2 ] الآيات ، ثم قوله : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [ الإسراء : 9 ] .

فتكون هذه الجملة عطفاً على جملة { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً } [ الإسراء : 93 ] أو على جملة { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي } الآية [ الإسراء : 100 ] .

ثم انتقل من ذلك بطريقة التفريع إلى التسجيل ببني إسرائيل استشهاداً بهم على المشركين ، وإدماجاً للتعريض بهم بأنهم سَاووا المشركين في إنكار نبوءة محمد ومظاهرتهم المشركين بالدس وتلقين الشبه ، تذكيراً لهم بحال فرعون وقومه { إذ قال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحوراً } .

والخطاب في قوله : { فسئل } للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد : سؤال الاحتجاج بهم على المشركين لا سؤال الاسترشاد كما هو بين .

وقوله : { مسحوراً } ظاهره أن معناه متأثراً بالسحر ، أي سحَركَ السحرة وأفسدوا عقلك فصُرت تهرف بالكلام الباطل الدال على خلل العقل ( مثل المَيْمون والمشؤوم ) . وهذا قول قاله فرعون في مقام غير الذي قال له فيه { يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره } [ الشعراء : 35 ] ، والذي قال فيه { إن هذا لساحر عليم } ، [ الشعراء : 34 ] فيكون إعراضاً عن الاشتغال بالآيات وإقبالاً على تطلع حال موسى فيما يقوله من غرائب الأقوال عندهم .

ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عنه قال { لمن حوله ألا تستمعون } [ الشعراء : 25 ] . وكل تلك أقوال صدرت من فرعون في مقامات محاوراته مع موسى عليه السلام فحكي في كل آية شيء منها .

و ( إذا ) ظرف متعلق ب { آتينا } . والضمير المنصوب في { جاءهم } عائد إلى بني إسرئيل . وأصل الكلام : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات إذ جاء بني إسرائيل ، فاسألْهم .

وكان فرعون تعلق ظنه بحقيقة ما أظهر من الآيات فرجح عنده أنها سحر ، أوْ تعلق ظنه بحقيقة حال موسى فرجح عنده أنه أصابه سحر ، لأن الظن دون اليقين ، قال تعالى : { إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين } [ الجاثية : 32 ] . وقد يستعمل الظن بمعنى العلم اليقين .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ فَسۡـَٔلۡ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِذۡ جَآءَهُمۡ فَقَالَ لَهُۥ فِرۡعَوۡنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰمُوسَىٰ مَسۡحُورٗا} (101)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ولقد ءاتينا}، يعني: أعطينا

{موسى تسع آيات بينات}، يعنى: واضحات: اليد، والعصا بالأرض المقدسة، وسبع آيات بأرض مصر: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين، والطمس على الدنانير والدراهم، أولها العصا، وآخرها الطمس، {فسئل بني إسرائيل} عن ذلك،

{إذ جاءهم} موسى بالهدى،

{فقال له فرعون إني لأظنك}، يقول: إني لأحسبك،

{يا موسى مسحورا}، يعني: مغلوبا على عقله...

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

وروى مطرف عن مالك: هي: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، والبحر، والجبل.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا موسى بن عمران "تسع آيات بيّنات "تُبين لمن رآها أنها حجج لموسى شاهدة على صدقه وحقيقة نبوّته.

وقد اختلف أهل التأويل فيهنّ وما هنّ؛ فقال بعضهم:...عن ابن عباس... قال: التسع الآيات البينات: يده، وعصاه، ولسانه، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات...

وقال آخرون: نحوا من هذا القول، غير أنهم جعلوا آيتين منهنّ: إحداهما الطمسة، والأخرى الحجر...

وقال آخرون نحوا من ذلك إلا أنهم جعلوا السنين، والنقص من الثمرات آية واحدة، وجعلوا التاسعة: تلقف العصا ما يأفكون...

وقال آخرون في ذلك ما: حدثني محمد بن المثنى، قال: ثني محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، قال: سمعت عبد الله بن سلمة يحدّث عن صفوان بن عسال، قال: قال يهوديّ لصاحبه: اذهب بنا إلى النبيّ حتى نسأله عن هذه الآية. "ولَقَدْ آتَيْنا مُوسَى تِسْعَ آياتٍ بَيّناتٍ" قال: لا تقل له نبيّ، فإنه إن سمعك صارت له أربعة أعين، قال: فسألا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تُشْركُوا بالله شَيْئا، وَلا تَسْرقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا النّفْسَ التي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ، وَلا تَسْحَرُوا، وَلا تَأْكُلُوا الرّبا، وَلا تَمْشُوا بَبريءٍ إلى ذي سُلْطانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، أو قال: لا تَفرّوا مِنَ الزّحْف» شعبة الشاكّ «وأنْتُمْ يا يَهُودُ عَلَيْكُمْ خاصّةً لا تَعْدُوا في السّبْت» فقبّلا يده ورجله، وقالا: نشهد أنك نبيّ، قال: «فما يمنعكما أن تسلما؟» قالا: إن داود دعا أن لا يزال من ذرّيته نبيّ، وإنا نخشى أن تقتلنا يهود...

وأما قوله: "فاسأَلْ بَنِي إسْرَائيلَ إذْ جاءَهُمْ" فإن عامّة قرّاء الإسلام على قراءته على وجه الأمر بمعنى: فاسأل يا محمد بني إسرائيل إذ جاءهم موسى ورُوي عن الحسن البصري في تأويله... قال: سؤالك إياهم: نظرك في القرآن...

وقوله: "فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنَ إنّي لأَظنّكَ يا مُوسَى مَسْحُورا" يقول: فقال لموسى فرعونُ: إني لأظنك يا موسى تتعاطى علم السحر، فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك، وقد يجوز أن يكون مرادا به إني لأظنك يا موسى ساحرا، فوُضِع مفعول موضع فاعل، كما قيل: إنك مشؤوم علينا وميمون، وإنما هو شائم ويامن. وقد تأوّل بعضهم حجابا مستورا، بمعنى: حجابا ساترا، والعرب قد تخرج فاعلاً بلفظ مفعول كثيرا.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

هذا، والله أعلم، في ما آتاه من الآيات، وأمره أن يحاج فرعون، وإلا كانت آيات موسى عليه السلام أكثر من تسع؛ كأنها تبلغ عشرين، وتزداد عليه؛ إذ كان في عصاه أربع من الآيات:

إحداهما: حين ضرب بها البحر {فانفلق} (الشعراء: 63).

والثانية حين ضرب بها الحجر {فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} (البقرة: 60)

والثالثة: حين ألقاها {فإذا هي ثعبان مبين} (الأعراف: 107) والشعراء: 32)

والرابعة: حين تلفقت حبالهم وعصيهم {فإذا هي تلقف ما يأفكون} (الشعراء: 45) وأمثالها، فإنها تبلغ إلى ما ذكرنا. لكنه ذكر تسع الآيات البينات التي أمره الله تعالى أن يحاج بها فرعون وقومه...

{بينات} أنها من عند الله جاءت، وأنها ليست من البشر، وأنها سماوية، أو {بينات} أي مبينات ما تُبِيِّنُ صدق موسى في جميع ما يخبر، ويقول، ويبين عدله في حكمه وفعله، لأن في آيات الرسل يحتاج إلى هذا: تبين للناس صدقهم في قولهم وعدلهم في حكمهم لأنهم يدعون إلى عبادة الله والطاعة له...

{فسئل بني إسرائيل إذ جاءهم} يعني موسى صلوات الله على نبينا وعليه. قال بعضهم: أمر رسولنا صلى الله عليه وسلم أن يسأل بني إسرائيل الآيات التسع التي كانت في كتبهم على التقرير عندهم ليعلموا أنه إنما عرف ذلك بالله، وأنه رسول لأنه كان يعرف تلك الآيات في كتبهم بغير لسانه، وكان لا يخط بيده، ولا كان اختلف إلى أحد منهم ليعرف ذلك. فدل أنهم علموا أنه إنما عرف ذلك بوحي السماء. وقال بعضهم: ليس هو على الأمر أن يسألهم ذلك. ولكن لو سألتهم لأخبروك عنها كقوله: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (النحل: 43)...

{فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا} في عقلك، أي سحرت، والمسحور هو المغلوب في العقل. وقولهم متناقض لأنهم قالوا مرة: ساحر، ومرة: مسحور. فالساحر هو الذي يبلغ بالبصيرة غايته، والمسحور المغلوب...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

اتفق المتأولون والرواة أن الآيات الخمس التي في سورة الأعراف هي من هذه التسع، وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، واختلفوا في الأربع، فقال ابن عباس: هي يده ولسانه حين انحلت عقدته، وعصاه والبحر، وقال محمد بن كعب القرطبي: هي البحر والعصا والطمسة والحجر... والذي يلزم من الآية أن الله تعالى خص من آيات موسى إذ هي كثيرة جداً تنيف على أربع وعشرين، تسعاً بالذكر ووصفها بالبيان ولم يعينها، واختلف العلماء في تعيينها بحسب اجتهادهم في بيانها أو روايتهم التوقيف في ذلك، وقالت فرقة آيات موسى إنما أريد بها آيات التوراة التي هي أوامر ونواه...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات، وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون، وهي: العصا، واليد، والسنين، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات. قاله ابن عباس.

وقال محمد بن كعب: هي اليد، والعصا، والخمس في الأعراف، والطَّمْسَة والحجر.

وقال: ابن عباس أيضًا، ومجاهد، وعكرمة والشعبي، وقتادة: هي يده، وعصاه، والسنين، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.

وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي. وجعل الحسن البصري "السنين ونقص الثمرات "واحدة، وعنده أن التاسعة هي: تلقف العصا ما يأفكون. {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف: 133] أي: ومع هذه الآيات ومشاهدتهم لها، كفروا بها وجحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا، وما نجعت فيهم، فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك سألوا، وقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90] إلى آخرها، لما استجابوا ولا آمنوا إلا أن يشاء الله، كما قال فرعون لموسى -وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الآيات -: (إِنِّي لأظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) قيل: بمعنى ساحر. والله تعالى أعلم.

فهذه الآيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المرادة هاهنا، وهي المعنية في قوله تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل: 10- 12]. فذكر هاتين الآيتين: العصا واليد، وبين الآيات الباقيات في "سورة الأعراف" وفصلها.

وقد أوتي موسى، عليه السلام، آيات أخرَ كثيرة، منها ضربُه الحجر بالعصا، وخروج الأنهار منه، ومنها تظليلهم بالغمام، وإنزال المنّ والسلوى، وغير ذلك مما أوتوه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر، ولكن ذكر هاهنا التسع الآيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر، وكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرًا وجحودًا. فأما الحديث الذي رواه الإمام [أحمد]: حدثنا يزيد، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مُرَّة قال: سمعت عبد الله بن سلمة يحدث، عن صفوان بن عَسّال المرادي، رضي الله عنه، قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي [صلى الله عليه وسلم] حتى نسأله عن هذه الآية: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) فقال: لا تقل له: نبي فإنه لو سمعك لصارت له أربع أعين. فسألاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة -أو قال: لا تفروا من الزحف- شعبة الشاك -وأنتم يا يهود، عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت". فقبلا يديه ورجليه، وقالا نشهد أنك نبي. [قال:"فما يمنعكما أن تتبعاني؟ "قالا لأن داود، عليه السلام، دعا ألا يزال من ذريته نبي]، وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود.

فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير في تفسيره من طرق عن شعبة بن الحجاج، به وقال الترمذي: حسن صحيح.

وهو حديث مشكل، وعبد الله بن سلمة في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات، فإنها، وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون، والله أعلم. ولهذا قال موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ}

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

... ولما كان اليهود الذين أمروا قريشاً بسؤال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الروح التي مضى الجواب عنها -كما في بعض الروايات- وعن أهل الكهف وذي القرنين الآتي شرح قصتيهما في الكهف، نبههم على سؤالهم -إن كانوا يقبلون كلامهم- عن أمر موسى عليه السلام في كونه كهذا النبي الكريم في أنه بشر مع كونه رسولاً وفي كونه أتى بالخوارق فكذب بها المعاندون فاستؤصل المكذب، فقال تعالى: {فسئل} أي يا أعظم خلقنا! {بني إسرائيل} أي عامة الذين نبهوا قريشاً على أمر الروح عن حديث موسى عليه السلام أو المؤمنين كعبد الله بن سلام وأصحابه {إذ} أي عن ذلك حين {جاءهم} أي جاء آباءهم، فوقع له من التكذيب بعد إظهار المعجزات الباهرات ما وقع لك، ولم يكذب لخلل من أمره ولا لقوة من عدوه على مدافعة العذاب، وإنما كان جهلاً وعناداً، ليكون ذلك مسلاة لك وعلماً على خبث طباعهم وحجة قاطعة عليهم {فقال} أي فذهب إلى فرعون فأمره بإرسالهم معه فأبى فأظهر له الآيات واحدة بعد أخرى فتسبب عن ذلك ضد ما يقتضيه الحال، وهو أن قال {له فرعون} عتواً واستكباراً: {إني لأظنك} أكد قوله لما أظهر موسى عليه السلام مما يوجب الإذعان له والإيمان والإنكار لأن يكذبه أحد {يا موسى مسحوراً} أي فكل ما ينشأ عنك فهو من آثار السحر الذي بك، خيال لا حقيقة له، وأنت في الحقيقة مسحور، ولوجود السحر عنك ساحر... وكأنه موه على جنوده لما أراهم آية اليد بهذه الشبهة، وهذا كما قالت قريش {إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} وقالوا في موضع آخر: ساحر، فإنهم ربما أطلقوا اسم المفعول مريدين اسم الفاعل مبالغة في أنه كالمجبر على الفعل.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهذا المثل من قصة موسى وبني إسرائيل يذكر لتناسقه مع سياق السورة وذكر المسجد الأقصى في أولها وطرف من قصة بني إسرائيل وموسى. وكذلك يعقب عليه بذكر الآخرة والمجيء بفرعون وقومه لمناسبة مشهد القيامة القريب في سياق السورة ومصير المكذبين بالبعث الذي صوره هذا المشهد... (فقال له فرعون: إني لأظنك يا موسى مسحورا).. فكلمة الحق وتوحيد الله والدعوة إلى ترك الظلم والطغيان والإيذاء لا تصدر في عرف الطاغية إلا من مسحور لا يدري ما يقول! فما يستطيع الطغاة من أمثال فرعون أن يتصوروا هذه المعاني؛ ولا أن يرفع أحد رأسه ليتحدث عنها وهو يملك قواه العقلية!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

حصلت بقوله: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} الحجة على المشركين الذين يقترحون الآيات... ثم لم يزل الاعتناء في هذه السورة بالمقارنة بين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالة موسى عليه السلام إقامةً للحجة على المشركين الذين كذبوا بالرسالة بعلة أن الذي جاءهم بشر، وللحجة على أهل الكتاب الذين ظاهروا المشركين ولقنوهم شُبه الإلحاد في الرسالة المحمدية ليصفو لهم جَوّ العلم في بلاد العرب وهم ما كانوا يحسبون لما وراء ذلك حساباً... ثم انتقل من ذلك بطريقة التفريع إلى التسجيل ببني إسرائيل استشهاداً بهم على المشركين، وإدماجاً للتعريض بهم بأنهم سَاووا المشركين في إنكار نبوءة محمد ومظاهرتهم المشركين بالدس وتلقين الشبه، تذكيراً لهم بحال فرعون وقومه {إذ قال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحوراً}...

والخطاب في قوله: {فسئل} للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد: سؤال الاحتجاج بهم على المشركين لا سؤال الاسترشاد كما هو بين...

وكان فرعون تعلق ظنه بحقيقة ما أظهر من الآيات فرجح عنده أنها سحر، أوْ تعلق ظنه بحقيقة حال موسى فرجح عنده أنه أصابه سحر، لأن الظن دون اليقين، قال تعالى: {إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32]. وقد يستعمل الظن بمعنى العلم اليقين...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

و {آتينا} معناها أعطيناه حجة ودليلا {تسع آيات}، أي معجزات بينات في دلالتها على رسالة موسى إلى فرعون وبني إسرائيل... {فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا}، أي أنه بدل أن يذعن بها ويؤمن بالحق إذ جاءته بينات، كابر واستمر في غيه، وضلاله القديم وما أجدت تلك الآيات الحسية شيئا، بل قال مؤكدا، {إني لأظنك} الظن هنا العلم، وقد أكد علمه بسحر موسى ب "إن "و"اللام"...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

والمراد بالآيات التسع هنا هي الآيات الخاصة بفرعون؛ لأن كثيرين يخلطون بين معجزات موسى إلى فرعون، ومعجزاته إلى بني إسرائيل... أما المعجزات الأخرى مثل العصا التي ضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة، وإنزال المن والسلوى عليهم، فهذه آيات خاصة ببني إسرائيل... السؤال لذريتهم هو عين سؤالهم، لأنهم تناقلوا الأحداث جيلاً بعد جيل... ويسأل رسول الله بني إسرائيل لأنهم هم الأمة التي لها ممارسة مع منهج الله ووحيه، ولها اتصال بالرسل وبالكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل، أما مشركو قريش فليس لهم صلة سابقة بوحي السماء... إذن: قوله (مسحوراً) تفيد أنه سحر غيره، أو سحره غيره؛ لأن المسحور هو الذي ألم به السحر، إما فاعلاً له، أو مفعولاً عليه. وهذه الكلمة قالها كفار مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: {إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً "47 "} (سورة الإسراء): والمسحور بمعنى المخبول الذي أثر في السحر، فصار مخبولاً مجنوناً، وهذا كذب وافتراء على رسول الله من السهل رده ودحضه... وسوف يناقض فرعون نفسه، فبعد أن اتهم موسى بالسحر، ثم كانت الغلبة لموسى، وخر السحرة ساجدين، قال: {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر.. "71 "} (سورة طه): وهذا دليل على التخبط والإفلاس...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

لم يُؤمنوا رغم الآيات: قبل بضعة آيات عرفنا كيف أنَّ المشركين طلبوا أُموراً عجيبة غريبة من الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبما أنَّ هدفهم ـ باعترافهم هم أنفسهم ـ لم يكن لأجل الحق وطلباً له، بل لأجل التذرُّع والتحجج والتعجيز، لذا فإِنَّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ردّ عليهم ورفض الانصياع إلى طلباتهم. وهذه الآيات ـ التي نبحثها ـ في الحقيقة تقف على نماذج للأُمم السابقة ممَّن شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية، إِلاَّ أنّهم استمروا في الإِنكار وعدم الإِيمان.