الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ فَسۡـَٔلۡ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِذۡ جَآءَهُمۡ فَقَالَ لَهُۥ فِرۡعَوۡنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰمُوسَىٰ مَسۡحُورٗا} (101)

قوله تعالى : { تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } : يجوز في " بيِّنات " النصبُ صفةً للعددِ ، والجرُّ صفةً للمعدود .

قوله : { إِذْ جَآءَهُمْ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ معمولاً ل " آتَيْنا " ، ويكون قولُه { فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } اعتراضاً . والثاني : أنَّه منصوبٌ بإضمار اذكُرْ . والثالث : أنه منصوبٌ ب يُخْبرونك مقدَّراً . الرابع : أنه منصوبٌ بقولٍ مضمرٍ ، إذ التقديرُ : فَقُلْنا له : سَلْ بني إسرائيل حين جاءهم . وقد ذكر هذه الأوجهَ الزمخشريُّ مرتبةً على مقدمةٍ ذكرها قبل ذلك فلنذكُرْها . قال : { فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } ، أي : فقلنا له : سَلْ بني [ إسرائيل ] ، أي : سَلْهُمْ عن فرعونَ ، وقل/ له : أرسلْ معي بني إسرائيل ، أو سَلْهُم عن إيمانهم وحالِ دينهم ، أو سَلْهُمْ أن يُعاضِدوك ، وتَدُلُّ عليه قراءةُ رسول الله " فسال " على لفظ الماضي بغير همزٍ وهي لغةُ قريش .

وقيل : فَسَلْ يا رسول اللهِ المُؤْمِنَ من بني إسرائيل كعبدِ الله بن سلام وأصحابِه عن الآيات ليزدادوا يقيناً وطُمَأنينة كقوله : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] . ثم قال : " فإن قلتَ بمَ تعلَّق " إذ جاءهم " ؟ قلت : أمَّا على الوجهِ الأولِ فبالقولِ المحذوفِ ، أي : فقلنا له : سَلْهُمْ حين جاءهم ، أو ب " سال " في القراءة الثانية . وأمَّا على الأخير فب " آتَيْنا " أو بإضمار اذْكُرْ ، أو بيُخْبرونك . ومعنى إذ جاءهم : إذ جاء آباءهم " . انتهى .

قال الشيخ : " ولا يتأتَّى تَعَلُّقه ب " اذكر " ولا ب يُخبرونك لأنه ظرفٌ ماضٍ " . قلت : إذا جعله معمولاً ل " اذكُرْ " ، أو ل يُخْبرونك لم يَجْعَلْه ظرفاً بل مفعولاً به ، كما تقرَّر ذلك غيرَ مرة .

الخامس : أنه مفعولٌ به والعاملُ فيه " فَسَلْ " . قال أبو البقاء : " فيه وجهان ، أحدُهما : هو مفعولٌ به باسْأَلْ على المعنى لأنَّ المعنى : اذْكرْ لبني إسرائيل [ إذ جاءهم ] وقيل : التقديرُ اذكر إذ جاءهم وهي غيرُ " اذكر " الذي قَدَّرْتَ به اسْأَلْ " . يعني أن اذكرْ المقدرةَ غيرُ " اذكر " الذي فَسَّرْتَ " اسأَلْ " بها ، وهذا يؤيد ما ذكرْتُه لك مِنْ أنَّهم إذا قدَّروا " اذكر " جعلوا " إذ " مفعولاً به لا ظرفاً .

إلا أنَّ أبا البقاء ذكر حالَ كونِه ظرفاً ما يقتضي أنْ يعملَ فيه فعلٌ مستقبلٌ فقال : " والثاني : أن يكونَ ظرفاً . وفي العامل فيه أوجهٌ ، أحدُها : " آتَيْنا " . والثاني : " قلنا " مضمرة . والثالث : " قُلْ " ، تقديرُه قل لخصمِك : سَلْ . والمرادُ به فرعونُ ، أي : قُلْ يا موسى ، وكان الوجهُ أن يُقال : إذ جئتهم بالفتح ، فرجع من الخطاب إلى الغيبة " .

قلت : فظاهرُ الوجهِ الثالثِ أنَّ العاملَ فيه " قُلْ " وهو ظرفٌ ماضٍ ، على أنَّ هذا المعنى الذي نحا إليه ليس بشيءٍ ؛ إذ يرجع إلى : يا موسى قُلْ لفرعونَ : سَلْ بني إسرائيل ، فيعودُ فرعون هو السائلَ لبني إسرائيل ، وليس المرادُ ذلك قطعاً ، وعلى التقدير الذي قَدَّمْتُه عن الزمخشريِّ - وهو أنَّ المعنى : يا موسى سَلْ بني إسرائيل ، أي : اطْلُبْهم من فرعونَ - يكون المفعولُ الأول للسؤال محذوفاً ، والثاني هو " بني إسرائيل " ، والتقدير : سَلْ فرعونَ بني إسرائيل ، وعلى هذا فيجوز أن تكونَ المسألةُ من التنازع ، وأعمل الثانيَ ، إذ التقديرُ : سَلْ فرعونَ فقال فرعونُ ، فأعمل الثانيَ فَرَفَع به الفاعلَ ، وحَذَفَ المفعولَ مِنَ الأول وهو المختار من المذهبين .

والظاهرُ غيرُ ذلك كلِّه ، وأنَّ المأمورَ بالسؤال إنما هو سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه ، وبنو إسرائيل كانوا معاصِرِيه .

والضميرُ في { إِذْ جَآءَهُمْ } : إمَّا للآباء ، وإمَّا لهم على حَذْفِ مضافٍ ، أي : جاء آباءهم .

قوله : " مَسْحُوراً " فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه بمعناه الأصلي ، أي : إنك سُحِرْتَ ، فمِنْ ثَمَّ اختلَّ كلامُك ، قال ذلك حين جاءَه بما لا تَهْوَى نفسُه الخبيثةُ . الثاني : أنه بمعنى فاعِل كمَيْمون ومَشْؤوم ، أي : أنت ساحرٌ ؛ فلذلك تأتي بالأعاجيبِ ، يشير لانقلابِ عصاه حيةً وغيرِ ذلك .