قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } الآيات . اعلم أنَّ المقصود من هذا الكلام هو الجواب عن قولهم : لن نؤمن لك ؛ حتى تأتينا بهذه المعجزات الباهرة ؛ فقال تعالى : ولقد آتينا موسى معجزات مساويات لهذه الأشياء التي طلبتموها ، بل أقوى ، وأعظم ، فلو حصل في علمنا أنَّ جعلها في زمانكم مصلحة ، لفعلناها ، كما فعلناها في حق موسى ؛ فدل هذا على أنَّا إنما [ لم ] نفعلها في زمانكم ؛ لعلمنا بأنها لا مصلحة في فعلها .
واعلم : أن الله تعالى ذكر في القرآن أشياء كثيرة من معجزات موسى –عليه السلام- .
منها : أنه [ أزال ]{[20735]} العقدة من لسانه .
قال المفسرون : أذهب الأعجمية منه ، وبقي فصيحاً .
ومنها : تلقُّف الحية حبالهم وعصيَّهم ، مع كثرتها .
ومنها : اليد البيضاء من غير سوء .
ومنها : الطُّوفان والجراد ، والقمَّل ، والضَّفادع ، والدَّم .
ومنها : ضربه الحجر بالعصا ، فانفجر .
ومنها : إنزال المنِّ والسلوى عليه وعلى قومه .
ومنها : قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات } [ الأعراف : 130 ] لأهل القرى ؛ فهذه آيتان .
ومنها : الطَّمس على أموالهم ، فجعلها حجارة من النَّخيلِ ، والدَّقيق ، والأطعمة ، والدَّراهم والدَّنانير .
روي أن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب ، عن قوله : { تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } ، فذكر محمد بن كعب في جملة التسعة ؛ حلَّ عقدة اللِّسان ، والطَّمس ، فقال عمر بن العزيز : هكذا يجبُ أن يكون الفقيهُ ، ثم قال : يا غلامُ ، أخرج ذلك الجراب ، فأخرجه ، فإذا فيه بيضٌ مكسورٌ ؛ نصفين ، وجوز مكسور ، وفول ، وحمص ، وعدس ، كلها حجارة{[20736]} .
وإذا كان كذلك ، فإنه تعالى ذكر في القرآن أنَّ هذه المعجزات لموسى صلى الله عليه وسلم وقال في هذه الآية : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } وتخصيص التسعة بالذِّكر لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليه ؛ لأنَّه ثبت في أصول الفقه أنَّ تخصيص العدد بالذكر لا يدلُّ على نفي الزائد ؛ وهذه الآية دليل على هذه المسألة .
واعلم : أن هذه التسعة قد اتَّفقوا على سبعة منها ؛ وهي : العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وبقي اثنتان اختلفت أقوال المفسرين فيهما ، ولمَّا لم تكن تلك الأقوال مستندة إلى حجَّة ظنيَّة ؛ فضلاً عن حجة يقينيَّة ، لا جرم تركت تلك الروايات .
فصل في أجود ما قيل في تفسير التسع آيات
في تفسير قوله : { تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } قول هو أجود ما قيل ، وهو ما روي عن صفوان بن عسَّالٍ المراديِّ : أن يهوديًّا قال لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع الآيات ، فقال الآخر : لا تقل : نبي ؛ فإنه لو سمع ، لصارت له أربعة أعين فأتياه ، فسألاه عن هذه الآية { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } .
فقال : هِيَ ألاَّ تشركوا بالله شيئاً ، ولا تقتلوا النَّفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحقِّ ، ولا تَزنُوا ، ولا تَأكلُوا الرِّبا ، ولا تَسْحرُوا ، ولا تمشُوا بالبريءِ للسلطان ؛ ليقتله ، ولا تسرقوا ، ولا تقذفوا المحصنة ، ولا تَفرُّوا من الزَّحف ، وعليكم - خاصة اليهود - ألاَّ تعذوا في السَّبت ، فقام اليهوديَّان يقبِّلان يده ، ويقولون : نشهدُ أنَّك نبيٌّ ، قال : فما يمنعكم أن تتبعوني ؟ قال اليهودي : إنَّ داود دعا ربَّهُ ألاَّ يزال في ذُريَّته نبيٌّ ، وإنَّا نخافُ إن اتَّبعنَاكَ أن تقْتُلنَا يهُودُ{[20737]} .
قوله تعالى : { تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } : [ يجوز في " بَيِّنات " ] النصب صفة للعدد ، والجر صفة للمعدود .
قوله : " إذْ جَاءهُمْ " فيه أوجهٌ :
أحدها : أن يكون معمولاً ل " آتيْنا " ويكون قوله " فاسْألْ بَنِي إسْرائيلَ " اعتراضاً ، وتقديره : ولقد آتينا موسى تسع آياتٍ بيِّناتٍ ؛ إذ جاء بني إسرائيل ، فسألهم ، وعلى هذا التقدير : فليس المطلوبُ من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم ، بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود بقول علمائهم صدق ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد .
والثاني : أنه منصوب بإضمار اذكر .
والثالث : أنه منصوبٌ ب " يُخْبرُونكَ " مقدراً .
الرابع : أنه منصوب بقولٍ مضمرٍ ؛ إذ التقدير : فقلنا له : سل بني إسرائيل حين جاءهم ، ذكر هذه الأوجه الزمخشري مرتبة على مقدمة ذكرها قبلُ [ قال : ] فاسْأَلْ بنِي إسْرائيلَ ، أي : فقلنا له : اسأل بني إسرائيل ، أي : اسْألهُم عن فرعون ، وقل له : أرسل معي بني إسرائيل ، أو اسألهم عن إيمانهم ، وحال دينهم ، أو اسألهم أن يعاضدوك . ويدل عليه قراءة{[20738]} رسول الله " فَسَألَ " على لفظ الماضي ، بغير همزٍ ، وهي لغة قريشٍ .
وقيل : فَسلْ ، يا رسول الله ، المُؤمنَ من بني إسرائيل ؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات ؛ ليزدادوا يقيناً وطمأنينة ؛ كقوله : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] [ ثم قال : ] فإن قيل بم تعلق " إذْ جَاءهُمْ " ؟ فالجواب :
أمَّا على الوجه الأول : فبالقول المحذوف ، [ أي ] : فقلنا له ، سلهم حين جاءهم ، أو ب " سَالَ " في القراءة الثانية ، وأمَّا على الآخر فب " آتَيْنَا " أو بإضمار " اذكر " أو ب " يُخْبرونَكَ " ومعنى " إذْ جَاءهُمْ " " إذ جاء آباءهم " ، انتهى .
قال أبو حيان : " لا يتأتَّى تعلقه ب " اذْكُر " ولا ب " يُخْبرُونَكَ " ؛ لأنه ظرف ماضٍ " .
قال شهاب الدين : إذا جعله معمولاً ل " اذْكُر " ، أو ل " يُخْبرُونكَ " لم يجعله ظرفاً ، بل مفعولاً به ، كما تقرَّر مراراً .
الوجه الخامس : أنه مفعول به ، والعامل فيه " فَسلْ " .
قال أبو البقاء{[20739]} : " فيه وجهان :
أحدهما : هو مفعول به ب " اسْألْ " على المعنى إذ التقدير : اذكر لبني إسرائيل ؛ إذ جاءهم ، وقيل : التقدير : اذكر إذا جاءهم وهي غير " اذكُر " الذي قدَّرت به " اسْأل " " ، يعني : أن " اذكر " المقدرة غير " اذكُر " التي فسَّرت " اسألْ " بها ؛ وهذا يؤيِّد ما تقدَّم من أنهم ، إذا قدروا " اذكُر " جعلوا " إذْ " مفعولاً به ، لا ظرفاً .
إلا أنَّ أبا البقاء ذكر [ حال ] كونه ظرفاً ، ما يقتضي أن يعمل فيه فعلٌ مستقبل ، فقال{[20740]} : " والثاني : أن يكون ظرفاً ، وفي العامل وجوه :
والثالث : [ " قُل " ] ، تقديره : قل لخصمك : سل ؛ والمراد به فرعون ، أي : قل ، يا موسى ، وكان الوجه أن يقال : إذ جئتهم بالفتح ، فخرج من الخطاب ، إلى الغيبة " .
فظاهر الوجه الثالث : أن العامل فيه " قُلْ " وهو ظرف ماض ، على أنَّ هذا المعنى الذي نحا إليه ليس بشيء ؛ إذ يرجع إلى : يا موسى ، قل لفرعون : يا فرعون سل بني إسرائيل ، فيعود فرعون هو السائل لبني إسرائيل ، وليس المراد ذلك قطعاً ، وعلى التقدير الذي تقدم عن الزمخشري- وهو أن المعنى : يا موسى ، سل بني إسرائيل ، [ أي : اطلبهم من فرعون - يكون المفعول الأول للسؤال محذوفاً ، والثاني هو " بني إسْرائيلَ " ] ، والتقدير : سَلْ فرعون بني إسرائيل ، وعلى هذا : فيجوز أن تكون المسألة من التنازع ، وأعمل الثاني ؛ إذ التقدير : سل فرعون ، فقال فرعون ، فأعمل الثاني ، فرفع به الفاعل ، وحذف المفعول من الأول ، وهو المختار من المذهبين .
والظاهر غير ذلك كلِّه ، وأن المأمور بالسؤال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو إسرائيل كانوا معاصريه .
والضمير [ في ] " إذْ جَاءَهُمْ " : إمَّا للآباء ، وإمَّا لهم على حذف مضافٍ ، أي : جاء آباءهم .
فصل في معنى " واسأل بني إسرائيل "
المعنى : فسَلْ ، يا محمد ، بني إسرائيل ؛ إذ جاءهم موسى ، يجوز أن يكون الخطاب معه ، والمراد غيره ، ويجوز أن يكون خاطبه - عليه الصلاة والسلام - وأمره بالسؤال ؛ ليتبيَّن كذبهم مع قومهم ، فقال له فرعون : { إِنِّي لأَظُنُّكَ يا موسى مَسْحُوراً } .
وقوله " مَسْحُوراً " : وفيه وجهان :
أظهرهما : أنه بمعناه الأصلي ، أي : إنك سحرت ، فمن ثمَّ ؛ اختل كلامك ، قال ذلك حين جاءه بما لا تهوى نفسه الخبيثة ، قاله الكلبي .
وقال ابن عباس : مخدوعاً ، وقال : مصروفاً عن الحقِّ .
والثاني : أنه بمعنى " فاعل " كميمون ومَشْئُوم ، أي : أنت ساحرٌ ؛ كقوله : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] . فوضع المفعول موضع الفاعل ، قاله الفراء ، وأبو عبيدة ، وقال ابن جرير : يعطى علم السِّحر ؛ فلذلك تأتي بالأعاجيب ، يشير لانقلابِ عصاه حيَّة ونحو ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.