اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ فَسۡـَٔلۡ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِذۡ جَآءَهُمۡ فَقَالَ لَهُۥ فِرۡعَوۡنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰمُوسَىٰ مَسۡحُورٗا} (101)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } الآيات . اعلم أنَّ المقصود من هذا الكلام هو الجواب عن قولهم : لن نؤمن لك ؛ حتى تأتينا بهذه المعجزات الباهرة ؛ فقال تعالى : ولقد آتينا موسى معجزات مساويات لهذه الأشياء التي طلبتموها ، بل أقوى ، وأعظم ، فلو حصل في علمنا أنَّ جعلها في زمانكم مصلحة ، لفعلناها ، كما فعلناها في حق موسى ؛ فدل هذا على أنَّا إنما [ لم ] نفعلها في زمانكم ؛ لعلمنا بأنها لا مصلحة في فعلها .

واعلم : أن الله تعالى ذكر في القرآن أشياء كثيرة من معجزات موسى –عليه السلام- .

منها : أنه [ أزال ]{[20735]} العقدة من لسانه .

قال المفسرون : أذهب الأعجمية منه ، وبقي فصيحاً .

ومنها : انقلاب العصا حيَّة .

ومنها : تلقُّف الحية حبالهم وعصيَّهم ، مع كثرتها .

ومنها : اليد البيضاء من غير سوء .

ومنها : الطُّوفان والجراد ، والقمَّل ، والضَّفادع ، والدَّم .

ومنها : شقُّ البحر .

ومنها : ضربه الحجر بالعصا ، فانفجر .

ومنها : إظلال الجبل .

ومنها : إنزال المنِّ والسلوى عليه وعلى قومه .

ومنها : قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات } [ الأعراف : 130 ] لأهل القرى ؛ فهذه آيتان .

ومنها : الطَّمس على أموالهم ، فجعلها حجارة من النَّخيلِ ، والدَّقيق ، والأطعمة ، والدَّراهم والدَّنانير .

روي أن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب ، عن قوله : { تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } ، فذكر محمد بن كعب في جملة التسعة ؛ حلَّ عقدة اللِّسان ، والطَّمس ، فقال عمر بن العزيز : هكذا يجبُ أن يكون الفقيهُ ، ثم قال : يا غلامُ ، أخرج ذلك الجراب ، فأخرجه ، فإذا فيه بيضٌ مكسورٌ ؛ نصفين ، وجوز مكسور ، وفول ، وحمص ، وعدس ، كلها حجارة{[20736]} .

وإذا كان كذلك ، فإنه تعالى ذكر في القرآن أنَّ هذه المعجزات لموسى صلى الله عليه وسلم وقال في هذه الآية : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } وتخصيص التسعة بالذِّكر لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليه ؛ لأنَّه ثبت في أصول الفقه أنَّ تخصيص العدد بالذكر لا يدلُّ على نفي الزائد ؛ وهذه الآية دليل على هذه المسألة .

واعلم : أن هذه التسعة قد اتَّفقوا على سبعة منها ؛ وهي : العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وبقي اثنتان اختلفت أقوال المفسرين فيهما ، ولمَّا لم تكن تلك الأقوال مستندة إلى حجَّة ظنيَّة ؛ فضلاً عن حجة يقينيَّة ، لا جرم تركت تلك الروايات .

فصل في أجود ما قيل في تفسير التسع آيات

في تفسير قوله : { تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } قول هو أجود ما قيل ، وهو ما روي عن صفوان بن عسَّالٍ المراديِّ : أن يهوديًّا قال لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع الآيات ، فقال الآخر : لا تقل : نبي ؛ فإنه لو سمع ، لصارت له أربعة أعين فأتياه ، فسألاه عن هذه الآية { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } .

فقال : هِيَ ألاَّ تشركوا بالله شيئاً ، ولا تقتلوا النَّفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحقِّ ، ولا تَزنُوا ، ولا تَأكلُوا الرِّبا ، ولا تَسْحرُوا ، ولا تمشُوا بالبريءِ للسلطان ؛ ليقتله ، ولا تسرقوا ، ولا تقذفوا المحصنة ، ولا تَفرُّوا من الزَّحف ، وعليكم - خاصة اليهود - ألاَّ تعذوا في السَّبت ، فقام اليهوديَّان يقبِّلان يده ، ويقولون : نشهدُ أنَّك نبيٌّ ، قال : فما يمنعكم أن تتبعوني ؟ قال اليهودي : إنَّ داود دعا ربَّهُ ألاَّ يزال في ذُريَّته نبيٌّ ، وإنَّا نخافُ إن اتَّبعنَاكَ أن تقْتُلنَا يهُودُ{[20737]} .

قوله تعالى : { تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } : [ يجوز في " بَيِّنات " ] النصب صفة للعدد ، والجر صفة للمعدود .

قوله : " إذْ جَاءهُمْ " فيه أوجهٌ :

أحدها : أن يكون معمولاً ل " آتيْنا " ويكون قوله " فاسْألْ بَنِي إسْرائيلَ " اعتراضاً ، وتقديره : ولقد آتينا موسى تسع آياتٍ بيِّناتٍ ؛ إذ جاء بني إسرائيل ، فسألهم ، وعلى هذا التقدير : فليس المطلوبُ من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم ، بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود بقول علمائهم صدق ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد .

والثاني : أنه منصوب بإضمار اذكر .

والثالث : أنه منصوبٌ ب " يُخْبرُونكَ " مقدراً .

الرابع : أنه منصوب بقولٍ مضمرٍ ؛ إذ التقدير : فقلنا له : سل بني إسرائيل حين جاءهم ، ذكر هذه الأوجه الزمخشري مرتبة على مقدمة ذكرها قبلُ [ قال : ] فاسْأَلْ بنِي إسْرائيلَ ، أي : فقلنا له : اسأل بني إسرائيل ، أي : اسْألهُم عن فرعون ، وقل له : أرسل معي بني إسرائيل ، أو اسألهم عن إيمانهم ، وحال دينهم ، أو اسألهم أن يعاضدوك . ويدل عليه قراءة{[20738]} رسول الله " فَسَألَ " على لفظ الماضي ، بغير همزٍ ، وهي لغة قريشٍ .

وقيل : فَسلْ ، يا رسول الله ، المُؤمنَ من بني إسرائيل ؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات ؛ ليزدادوا يقيناً وطمأنينة ؛ كقوله : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] [ ثم قال : ] فإن قيل بم تعلق " إذْ جَاءهُمْ " ؟ فالجواب :

أمَّا على الوجه الأول : فبالقول المحذوف ، [ أي ] : فقلنا له ، سلهم حين جاءهم ، أو ب " سَالَ " في القراءة الثانية ، وأمَّا على الآخر فب " آتَيْنَا " أو بإضمار " اذكر " أو ب " يُخْبرونَكَ " ومعنى " إذْ جَاءهُمْ " " إذ جاء آباءهم " ، انتهى .

قال أبو حيان : " لا يتأتَّى تعلقه ب " اذْكُر " ولا ب " يُخْبرُونَكَ " ؛ لأنه ظرف ماضٍ " .

قال شهاب الدين : إذا جعله معمولاً ل " اذْكُر " ، أو ل " يُخْبرُونكَ " لم يجعله ظرفاً ، بل مفعولاً به ، كما تقرَّر مراراً .

الوجه الخامس : أنه مفعول به ، والعامل فيه " فَسلْ " .

قال أبو البقاء{[20739]} : " فيه وجهان :

أحدهما : هو مفعول به ب " اسْألْ " على المعنى إذ التقدير : اذكر لبني إسرائيل ؛ إذ جاءهم ، وقيل : التقدير : اذكر إذا جاءهم وهي غير " اذكُر " الذي قدَّرت به " اسْأل " " ، يعني : أن " اذكر " المقدرة غير " اذكُر " التي فسَّرت " اسألْ " بها ؛ وهذا يؤيِّد ما تقدَّم من أنهم ، إذا قدروا " اذكُر " جعلوا " إذْ " مفعولاً به ، لا ظرفاً .

إلا أنَّ أبا البقاء ذكر [ حال ] كونه ظرفاً ، ما يقتضي أن يعمل فيه فعلٌ مستقبل ، فقال{[20740]} : " والثاني : أن يكون ظرفاً ، وفي العامل وجوه :

أحدها : " آتيْنا " .

والثاني : " قلنا " مضمرة .

والثالث : [ " قُل " ] ، تقديره : قل لخصمك : سل ؛ والمراد به فرعون ، أي : قل ، يا موسى ، وكان الوجه أن يقال : إذ جئتهم بالفتح ، فخرج من الخطاب ، إلى الغيبة " .

فظاهر الوجه الثالث : أن العامل فيه " قُلْ " وهو ظرف ماض ، على أنَّ هذا المعنى الذي نحا إليه ليس بشيء ؛ إذ يرجع إلى : يا موسى ، قل لفرعون : يا فرعون سل بني إسرائيل ، فيعود فرعون هو السائل لبني إسرائيل ، وليس المراد ذلك قطعاً ، وعلى التقدير الذي تقدم عن الزمخشري- وهو أن المعنى : يا موسى ، سل بني إسرائيل ، [ أي : اطلبهم من فرعون - يكون المفعول الأول للسؤال محذوفاً ، والثاني هو " بني إسْرائيلَ " ] ، والتقدير : سَلْ فرعون بني إسرائيل ، وعلى هذا : فيجوز أن تكون المسألة من التنازع ، وأعمل الثاني ؛ إذ التقدير : سل فرعون ، فقال فرعون ، فأعمل الثاني ، فرفع به الفاعل ، وحذف المفعول من الأول ، وهو المختار من المذهبين .

والظاهر غير ذلك كلِّه ، وأن المأمور بالسؤال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو إسرائيل كانوا معاصريه .

والضمير [ في ] " إذْ جَاءَهُمْ " : إمَّا للآباء ، وإمَّا لهم على حذف مضافٍ ، أي : جاء آباءهم .

فصل في معنى " واسأل بني إسرائيل "

المعنى : فسَلْ ، يا محمد ، بني إسرائيل ؛ إذ جاءهم موسى ، يجوز أن يكون الخطاب معه ، والمراد غيره ، ويجوز أن يكون خاطبه - عليه الصلاة والسلام - وأمره بالسؤال ؛ ليتبيَّن كذبهم مع قومهم ، فقال له فرعون : { إِنِّي لأَظُنُّكَ يا موسى مَسْحُوراً } .

وقوله " مَسْحُوراً " : وفيه وجهان :

أظهرهما : أنه بمعناه الأصلي ، أي : إنك سحرت ، فمن ثمَّ ؛ اختل كلامك ، قال ذلك حين جاءه بما لا تهوى نفسه الخبيثة ، قاله الكلبي .

وقال ابن عباس : مخدوعاً ، وقال : مصروفاً عن الحقِّ .

والثاني : أنه بمعنى " فاعل " كميمون ومَشْئُوم ، أي : أنت ساحرٌ ؛ كقوله : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] . فوضع المفعول موضع الفاعل ، قاله الفراء ، وأبو عبيدة ، وقال ابن جرير : يعطى علم السِّحر ؛ فلذلك تأتي بالأعاجيب ، يشير لانقلابِ عصاه حيَّة ونحو ذلك .


[20735]:في أ: أذهب.
[20736]:ذكره الرازي في "تفسيره" (21/54).
[20737]:أخرجه الترمذي (3144) والنسائي (7/111) وأحمد (4/239) والبيهقي في "الدلائل" (6/268) والطبراني (7/43، 44) من حديث صفوان بن عسال.
[20738]:ينظر: الدر المصون 4/424، والقرطبي 10/218 وقد نسبها إلى ابن عباس وأبي نهيك.
[20739]:ينظر: الإملاء 2/97.
[20740]:ينظر: المصدر السابق.