{ ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين } .
هذه فريضة الميراث الذي سببه العصمة ، وقد أعطاها الله حقّها المهجور عند الجاهلية إذ كانوا لا يورّثون الزوجين : أمّا الرجل فلا يرث امرأته لأنّها إن لم يكن لها أولاد منه ، فهو قد صار بموتها بمنزلة الأجنبي عن قرابتها من آباء وإخوة وأعمام ، وإن كان لها أولاد كان أولادها أحقّ بميراثها إن كانوا كباراً ، فإن كانوا صغاراً قبض أقرباؤهم مالهم وتصرّفوا فيه ، وأمّا المرأة فلا ترث زوجها بل كانت تعدّ موروثة عنه يتصرّف فيها ورثته كما سيجيء في قوله : { يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } [ النساء : 19 ] . فنوّه الله في هذه الآيات بصلة العصمة ، وهي التي وصفها بالميثاق الغليظ في قوله : { وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً } [ النساء : 21 ] .
والجمع في { أزواجكم } وفي قوله : { مما تركتم } كالجمع في الأولاد والآباء ، مراد به تعدّد أفراد الوارثين من الأمّة ، وههنا قد اتّفقت الأمّة عى أنّ الرجل إذا كانت له زوجات أنهنّ يشتركن في الربع أو في الثمن من غير زيادة لهنّ ، لأنّ تعدّد الزوجات بيد صاحب المال فكان تعددّهنّ وسيلة لإدخال المضرّة على الورثة الآخرين بخلاف تعدّد البنات والأخوات فإنّه لا خيار فيه لربّ المال . والمعنى : ولكلّ واحد منكم نصف ما تركت كلّ زوجة من أزواجه وكذلك قوله : { فلكم الربع مما تركن } .
وقوله : { ولهن الربع مما تركتم } أي لمجموعهنّ الربع ممّا ترك زوجهنّ . وكذلك قوله : { فلهن الثمن مما تركتم } وهذا حذق يدلّ عليه إيجاز الكلام .
وأعقبت فريضة الأزواج بذكر { من بعد وصية يوصين بها أو دين } لئلا يتوهّم متوهّم أنّهنّ ممنوعات من الإيصاء ومن التداين كما كان الحال في زمان الجاهلية . وأمّا ذكر تلك الجملة عقب ذكر ميراث النساء من رجالهنّ فجريا على الأسلوب المتّبع في هذه الآيات ، وهو أن يعقب كلّ صنف من الفرائض بالتنبيه على أنّه لا يُستحقّ إلاّ بعد إخراج الوصيّة وقضاء الدين .
{ وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصي بها أو دين } .
بعد أن بيّن ميراث ذي الأولاد أو الوالدَيْن وفصّله في أحواله حتّى حالة ميراث الزوجين ، انتقل هنا إلى ميراث من ليس له ولد ولا والد ، وهو الموروث كلالة ، ولذلك قابل بها ميراث الأبوين .
والكلالةُ اسم للكلال وهو التعب والإعياء قال الأعشى :
فآليتُ لا أرثي لَها مِن كلالة *** ولا من حفى حتّى أُلاقي مُحَمَّدا
وهو اسم مصدر لا يثنيّ ولا يجمع .
ووصفت العرب بالكلالة القرابةَ غيرَ القربى ، كأنّهم جعلوا وصوله لنسب قريبه عن بُعد ، فأطلقوا عليه الكلالة على طريق الكناية واستشهدوا له بقول من لم يسمّوه :
فإنّ أبا المرءِ أحمى له *** ومَوْلى الكلالة لا يُغْضَبُ
ثم أطلقوه على إرث البعيد ، وأحسب أنّ ذلك من مصطلح القرآن إذ لم أره في كلام العرب إلاّ ما بعد نزول الآية . قال الفرزدق :
ورثتم قَنَاةَ المجد لا عن كلالة *** عن ابنَيْ مناف عبدِ شمس وهاشمِ
ومنه قولهم : ورِث المجدَ لاعن كلالة . وقد عدّ الصحابة معنى الكلالة هنا من مشكل القرآن حتّى قال عُمر بن الخطاب : « ثلاث لأن يكون رسول الله بَيّنهن أحبّ إليّ من الدنيا : الكلالةُ ، والربا ، والخلافةُ » . وقال أبو بكر : « أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنّي ومن الشيطان والله منه بريء ، الكلالة ما خلا الولدَ والوالدَ » . وهذا قول عمر ، وعلي ، وابن عباس ، وقال به الزهري ، وقتادة والشعبي ، وهو قول الجمهور ، وحكي الإجماع عليه ، وروي عن ابن عباس « الكلالة من لا ولد له » أي ولو كان له والد وينسب ذلك لأبي بكر وعمر أيضاً ثم رجعا عنه ، وقد يستدلّ له بظاهر الآية في آخر السورة : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد } [ النساء : 176 ] وسياق الآية يرجّح ما ذهب إليه الجمهور لأنّ ذكرها بعد ميراث الأولاد والأبوين مؤذن بأنّها حالة مخالفة للحالين .
وانتصب قوله : { كلالة } على الحال من الضمير في { يورث } الذي هو كلالة من وارثه أي قريب غير الأقرب لأنّ الكلالة يصحّ أن يوصف بها كلا القريبين .
وقوله : { أو امرأة } عطف على { رجل } الذي هو اسم ( كان ) فيشارك المعطوف المعطوف عليه في خبر ( كان ) إذ لا يكون لها اسم بدون خبر في حال نقصانها .
وقوله : { وله أخ أو أخت } يتعيّن على قول الجمهور في معنى الكلالة أن يكون المراد بهما الأخ والأخت للأمّ خاصّة لأنَّه إذا كان الميّت لا ولد له ولا والد وقلنا له أخ أو أخت وجعلنا لكلّ واحد منهما السدس نعلم بحكم ما يُشْبه دلالةَ الاقتضاء أنّهما الأخ والأخت للأم لأنّهما لمّا كانت نهاية حظّهما الثلث فقد بقي الثلثان فلو كان الأخ والأخت هما الشقيقين أو اللذين للأب لاقتضى أنّهما أخذا أقلّ المال وترك الباقي لغيرهما وهل يكون غيرهما أقرب منهما فتعيّن أنّ الأخ والأخت مراد بهما اللذان للأمّ خاصّة ليكون الثلثان للإخوة الأشقّاء أو الأعمام أو بني الأعمام . وقد أثبت الله بهذا فرضاً للإخوة للأمّ إبطالا لما كان عليه أهل الجاهلية من إلغاء جانب الأمومة أصلاً ، لأنّه جانب نساء ولم يحتج للتنبيه على مصير بقيّة المال لما قدّمنا بيانه آنفاً من أنّ الله تعالى أحال أمر العصابة على ما هو متعارف بين من نزل فيهم القرآن .
وعلى قول ابن عباس في تفسير الكلالة لا يتعيّن أن يكون المراد بالأخ والأخت اللذين للأمّ إذ قد يفرض للإخوة الأشقّاء نصيب هو الثلث ويبقى الثلثان لعاصب أقوى وهو الأب في بعض صور الكلالة غير أنّ ابن عباس وافق الجمهور على أنّ المراد بالأخ والأخت اللذان للأمّ وكان سبب ذلك عنده أنّ الله أطلق الكلالة وقد لا يكون فيها أب فلو كان المراد بالأخ والأخت الشقيقين أو اللذين للأب لأعطيناهما الثلث عند عدم الأب وبقي معظم المال لمن هو دون الإخوة في التعصيب فهذا فيما أرى هو الذي حدا سائر الصحابة والفقهاء إلى حمل الأخ والأخت على الذين للأمّ .
وقد ذكر الله تعالى الكلالة في آخر السورة بصورة أخرى سنتعرّض لها .
{ غير مضار وصية من الله والله عليم حليم }
{ غير مضار } حال من ضمير { يوصى } الأخير ، ولمّا كان فعل يوصي تكريراً ، كان حالا من ضمائر نظائره .
و { مضارّ } الأظهر أنّه اسم فاعل بتقدير كسر الراء الأولى المدغمة أي غير مضارّ ورثته بإكثار الوصايا ، وهو نهي عن أن يقصد الموصي من وصيته الإضرارَ بالورثة . والإضرارُ منه ما حدّده الشرع ، وهو أن يتجاوز الموصي بوصيّته ثلث ماله وقد حدّده النبي بقوله لسعد بن أبي وقّاص الثلثُ والثلث كثير . ومنه ما يحصل بقصد الموصي بوصيته الاضرار بالوارث ولا يقصد القربة بوصيّته ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : { غير مضار } . ولمّا كانت نيَّة الموصي وقصدُه الإضرار لا يُطلع عليه فهو موكول لدينه وخشية ربّه ، فإن ظهر ما يدلّ على قصده الإضرار دلالة واضحة ، فالوجه أن تكون تلك الوصيّة باطلة لأنّ قوله تعالى : { غير مضار } نهي عن الإضرار ، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه .
ويتعيّن أن يكون هذا القيد مقيِّدا للمطلق في الآي الثلاث المتقدّمة من قوله { من بعد وصية } إلخ ، لأنّ هذه المطْلقات متّحدة الحكم والسبب . فيحمِل المطْلَق منها على المقيّد كما تقرّر في الأصول .
وقد أخذ الفقهاء من هذه الآية حكم مسألة قصد المعطي من عطيّته الإضرار بوارثه في الوصيّة وغيرها من العطايا ، والمسألة مفروضة في الوصيّة خاصّة . وحكى ابن عطية عن مذهب مالك وابن القاسم أنّ قصد المضارّة في الثلث لا تردّ به الوصيّة لأنّ الثلث حقّ جعله الله له فهو على الإباحة في التصرّف فيه . ونازعه ابن عرفة في التفسير بأنّ ما في الوصايا الثاني من « المدوّنة » ، صريح في أنّ قصد الإضرار يوجب ردّ الوصيّة وبحث ابن عرفة مكين . ومشهور مذهب ابن القاسم أن الوصية تردّ بقصد الإضرار إذا تبيّن القصد غير أنّ ابن عبد الحكم لا يرى تأثير الإضرار . وفي شرح ابن ناجي على تهذيب المدوّنة أنّ قصد الإضرار بالوصيّة في أقلّ من الثلث لا يوهن الوصيّة على الصحيح . وبه الفتوى .
وقوله : { وصية } منصوب على أنّه مفعول مطلق جاء بدلا من فعله ، والتقدير : يوصيكم الله بذلك وصيّة منه فهو ختم للأحكام بمثل ما بدئت بقوله : { يوصيكم الله } [ النساء : 11 ] وهذا من ردّ العجز على الصدر .
وقوله : { والله عليم حليم } تذييل ، وذكر وصف العلم والحلم هنا لمناسبة أنّ الأحكام المتقدّمة إبطال لكثير من أحكام الجاهلية ، وقد كانوا شرعوا مواريثهم تشريعاً مثاره الجهل والقساوة . فإنّ حرمان البنت والأخ للأمّ من الإرث جهل بأنّ صلة النسبة من جانب الأمّ مماثلة لصلة نسبة جانب الأب . فهذا ونحوه جهل ، وحرمانهم الصغار من الميراث قساوة منهم .
وقد بيّنت الآيات في هذه السورة الميراث وأنصباءه بين أهل أصول النسب وفروعه وأطرافه وعصمة الزوجية ، وسكتت عمّا عدا ذلك من العصبة وذوي الأرحام وموالي العتاقة وموالي الحلف ، وقد أشار قوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في سورة الأنفال ( 75 ) وقوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في سورة الأحزاب ( 6 ) إلى ما أخذ منه كثير من الفقهاء توريث ذوي الأرحام . وأشار قوله الآتي قريباً { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] إلى ما يؤخذ منه التوريث بالولاء على الإجمال كما سنبيّنه ، وبَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم توريث العصبة بما رواه رواة أهل الصحيح عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ألحِقُوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأوْلى رَجُلٍ ذَكَر » وما رواه الخمسة غير النسائي عن أبي هريرة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وترك مالا فماله لمَوالي العصبة ومن ترك كَلا أو ضَياعا فأنا وليّه » وسنفصّل القول في ذلك في مواضعه المذكورة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولكم نصف ما ترك أزواجكم} إذا متن، {إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين} عليهم. {ولهن الربع مما تركتم} بعد الموت من الميراث، {إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم} من المال، {من بعد وصية توصون بها أو دين}. {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة} فيها تقديم، {يورث كلالة}، والكلالة: الميت يموت وليس له ولد ولا والد ولا جد، {وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث}، فهم الإخوة لأم، والذكر والأنثى في الثلث سواء.
ولا يوصى لوارث، ولا يقر بحق ليس عليه مضارة للورثة، فذلك قوله سبحانه: {من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله}، يعني هذه القسمة فريضة من الله، {والله عليم} بالضرار، يعني من يضار في أمر الميراث، {حليم} حين لا يعجل عليهم بالعقوبة.
{ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين} [النساء: 12].
- يحيى: قال مالك: وميراث الرجل من امرأته، إذا لم تترك ولدا، ولا ولد ابن منه أو من غيره، النصف. فإن تركت ولدا أو ولد ابن ذكرا كان أو أنثى، فلزوجها الربع، من بعد وصية توصي بها أو دين. وميراث المرأة من زوجها، إذا لم يترك ولدا ولا ولد ابن، الربع. فإن ترك ولدا، أو ولد ابن، ذكرا كان أو أنثى، فلامرأته الثمن. من بعد وصية يوصي بها أو دين... قوله تعالى: {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث} [النساء: 12]
- يحيى: قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا، أن الإخوة للأم لا يرثون مع الولد. ولا مع ولد الأبناء، ذكرانا كانوا أو إناثا شيئا، ولا يرثون مع الأب ولا مع الجد أبي الأب، شيئا. وأنهم يرثون فيما سوى ذلك. يفرض للواحد منهم السدس ذكرا كان أو أنثى. فإن كانا اثنين. فلكل واحد منهما السدس. فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث. يقتسمونه بينهم بالسواء. وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث}: فكان الذكر والأنثى، في هذا بمنزلة واحدة.
- يحيى: قال مالك: فهذه الكلالة التي لا يرث فيها الإخوة للأم، حتى لا يكون ولد ولا والد..
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ولكم أيها الناس نصف ما ترك أزواجكم بعد وفاتهن من مال وميراث إن لم يكن لهنّ ولد يوم يحدث لهنّ الموت لا ذكر ولا أنثى.
{فإنْ كَانَ لهُنّ وَلَدٌ}: فإن كان لأزواجكم يوم يحدث لهنّ الموت ولد ذكر أو أنثى، فلكم الربع مما تركن من مال وميراث، ميراثا لكم عنهنّ، {مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِينَ بها أو دَيْنٍ}: ذلكم لكم ميراثا عنهنّ مما يبقى من تركاتهنّ وأموالهنّ من بعد قضاء ديونهنّ التي يمتن وهي عليهن، ومن بعد إنفاذ وصاياهنّ الجائزة إن كنّ أوصين بها.
{ولهُنّ الرّبُعُ مِمّا تَركْتُمْ إنْ لمْ يَكُنْ لَكُمْ ولَدٌ}: ولأزواجكم أيها الناس ربع ما تركتم بعد وفاتكم من مال وميراث إن حدث بأحدكم حدث الوفاة ولا ولد له ذكر ولا أنثى. {فإنْ كانَ لَكُمْ ولَدٌ}: فإن حدث بأحدكم حدث الموت وله ولد ذكر أو أنثى، واحدا كان الولد أو جماعة، {فَلَهُنّ الثّمُنُ مِمّا تَركْتُمْ}: فلأزواجكم حينئذ من أموالكم وتركتكم التي تخلفونها بعد وفاتكم الثمن من بعد قضاء ديونكم التي حدث بكم حدث الوفاة وهي عليكم، ومن بعد إنفاذ وصاياكم الجائزة التي توصون بها. وإنما قيل: {مِنْ بَعْدِ وِصّيةٍ تُوصُون بِها أوْ ديْنٍ} فقدّم ذكر الوصية على ذكر الدين، لأن معنى الكلام: إن الذي فرضت لمن فرضت له منكم في هذه الآيات إنما هو له من بعد إخراج أيّ هذين كان في مال الميت منكم، من وصية أو دين. فلذلك كان سواء تقديم ذكر الوصية قبل ذكر الدين، وتقديم ذكر الدين قبل ذكر الوصية، لأنه لم يرد من معنى ذلك إخراج أحد الشيئين: الدين والوصية من ماله، فيكون ذكر الدين أولى أن يبدأ به من ذكر الوصية
{وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ}: وإن كان رجل أو امرأة يورث كلالة.
ثم اختلفت القراء في قراءة ذلك؛ فقرأ ذلك عامة قراء أهل الإسلام: {وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً}: وإن كان رجل يورَث متكلل النسب. فالكلالة على هذا القول مصدر من قولهم: تكلله النسب تكللاً وكلالة، بمعنى: تعطف عليه النسب.
وقرأه بعضهم: «وإنْ كان رجُلٌ يُوَرِّثُ كَلالَةً» بمعنى: وإن كان رجل يورث من يتكلله، بمعنى: من يتعطف عليه بنسبه من أخ أو أخت.
واختلف أهل التأويل في الكلالة، فقال بعضهم: هي ما خلا الوالد والولد.
حدثنا الوليد بن شجاع السكوني، قال: ثني عليّ بن مسهر، عن عاصم، عن الشعبي، قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: إني قد رأيت في الكلالة رأيا، فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له، وإن يكن خطأً فمني والشيطان، والله منه بريءٌ إنّ الكلالة ما خلا الولد والوالد. فلما استخلف عمر رضي الله عنه، قال: إني لأستحيي من الله تبارك وتعالى أن أخالف أبا بكر في رأي رآه.
وقال آخرون: الكلالة: ما دون الولد. وهذا قول عن ابن عباس، وهو الخبر الذي ذكرناه قبل عنه أنه ورث الإخوة من الأم السدس مع الأبوين.
وقال آخرون: الكلالة: ما خلا الوالد.
واختلف أهل العلم في المسمى كلالة؛
فقال بعضهم: الكلالة: الموروث، وهو الميت نفسه، سمي بذلك إذا ورثه غير والده وولده.
وقال آخرون: الكلالة: هي الورثة الذين يرثون الميت إذا كانوا إخوة أو أخوات أو غيرهم إذا لم يكونوا ولدا ولا والدا على ما قد ذكرنا من اختلافهم في ذلك.
وقال آخرون: بل الكلالة: الميت والحيّ جميعا. والصواب من القول في ذلك عندي هو أن الكلالة: الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده، وذلك لصحة الخبر عن جابر بن عبد الله أنه قال: قلت يا رسول الله، إنما يرثني كلالة، فكيف بالميراث؟... فقد أنبأت هذه الأخبار عن صحة ما قلنا في معنى الكلالة وأنها ورثة الميت دون الميت ممن عدا والده وولده.
{وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وَاحِدً مِنْهُما السّدُسُ فإنْ كانُوا أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثّلُثِ}: وللرجل الذي يورث كلالة أخ أو أخت يعني أخا أو أختا من أمه. {فَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما السّدُسُ} إذا انفرد الأخ وحده أو الأخت وحدها، ولم يكن أخ غيره أو غيرها من أمه، فله السدس من ميراث أخيه لأمه، فإن اجتمع أخ وأخت، أو أخوان لا ثالث معهما لأمهما، أو أختان كذلك، أو أخ وأخت ليس معهما غيرهما من أمهما، فلكلّ واحد منهما من ميراث أخيهما لأمهما السدس. {وَإنْ كانُوا أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ}: فإن كان الإخوة والأخوات لأمّ الميت الموروث كلالة أكثر من اثنين، {فَهُمْ شُرَكاءَ فِي الثّلُثِ}: فالثلث الذي فرضت لاثنيهم إذا لم يكن غيرهما من أمهما ميراثا لهما من أخيهما الميت الموروث كلالة شركة بينهم إذا كانوا أكثر من اثنين إلى ما بلغ عددهم على عدد رءوسهم، لا يفضل ذكر منهم على أنثى في ذلك، ولكنه بينهم بالسوية.
{مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَى بِهَا أوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضارّ وَصِيّةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}: أي هذا الذي فرضت لأخي الميت الموروث كلالة وأخته أو إخوته وأخواته من ميراثه وتركته، إنما هو لهم من بعد قضاء دين الميت الذي كان عليه يوم حدث به حدث الموت من تركته، وبعد إنفاذ وصاياه الجائزة التي يوصي بها في حياته لمن أوصى له بها بعد وفاته.
{غَيْرَ مُضَارّ}: من بعد وصية يوصي بها غير مضارّ ورثته في ميراثهم عنه. إن الله تبارك وتعالى كره الضرار في الحياة وعند الموت ونهى عنه وقدم فيه، فلا تصلح مضارّة في حياة ولا موت.
عن ابن عباس قال: الضرار في الوصية من الكبائر.
عن أبي الضحى، قال: دخلت مع مسروق على مريض، فإذا هو يوصي، قال: فقال له مسروق: اعدل لا تضلل!
{وَصِيّةً مِنَ اللّهِ}: عهدا من الله إليكم فيما يجب لكم من ميراث من مات منكم. {وَاللّهُ عَلِيمٌ}: ذو علم بمصالح خلقه ومضارّهم، ومن يستحق أن يعطى من أقرباء من مات منكم وأنسبائه من ميراثه، ومن يحرم ذلك منهم، ومبلغ ما يستحقّ به كلّ من استحقّ منهم قسما، وغير ذلك من أمور عباده ومصالحهم. {حَلِيمٌ}: ذو حلم على خلقه، وذو أناة في تركه معاجلتهم بالعقوبة على ظلم بعضهم بعضا في إعطائهم الميراث لأهل الجلد والقوّة من ولد الميت وأهل الغناء والبأس منهم، دون أهل الضعف والعجز من صغار ولده وإناثهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما الكلالة؟ قلت: ينطلق على ثلاثة: على من لم يخلف ولداً ولا والداً، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد. ومنه قولهم: ما ورث المجد عن كلالة، كما تقول: ما صمت عن عيّ، وما كف عن جبن. والكلالة في الأصل: مصدر بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوّة من الإعياء...
فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد، لأنها بالإضافة إلى قرابتهما كالة ضعيفة، وإذا جعل صفة للموروث أو الوارث فبمعنى ذي كلالة. كما تقول: فلان من قرابتي، تريد من ذوي قرابتي. ويجوز أن تكون صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق...
{غَيْرَ مُضَارٍّ} حال، أي يوصي بها وهو غير مضارّ لورثته وذلك أن يوصي بزيادة على الثلث، أو يوصي بالثلث فما دونه، ونيته مضارّة ورثته ومغاضبتهم لا وجه الله تعالى.
{وَصِيَّةً مّنَ الله} مصدر مؤكد، أي يوصيكم بذلك وصية، كقوله: {فَرِيضَةً مّنَ الله} [النساء: 11] ويجوز أن تكون منصوبة بغير مضار، أي لا يضار وصية من الله وهو الثلث فما دونه بزيادته على الثلث أو وصية من الله بالأولاد وأن لا يدعهم عالة بإسرافه في الوصية. وينصر هذا الوجه قراءة الحسن: «غير مضارّ وصية من الله» بالإضافة.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي لُغَتِهَا:
اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ:
قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ: الْكَلَالَةُ: الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ.
الثَّانِي: قَالَ أَبُو عَمْرٍو: مَا لَمْ يَكُنْ لَحًّا مِنْ الْقَرَابَةِ فَهُوَ كَلَالَةٌ، يُقَالُ: هُوَ ابْنُ عَمِّي لَحًّا، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي كَلَالَةً.
الثَّالِثُ: وَهُوَ فِي مَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ بَعُدَ، يُقَالُ: كَلَّتِ الرَّحِمُ إذَا بَعُدَ مَنْ خَرَجَ مِنْهَا.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ وَلَا أَخٌ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْكَلَالَةَ هُوَ الْمَيِّتُ بِعَيْنِهِ، كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ عَقِيمٌ وَرَجُلٌ أُمِّيٌّ.
السَّادِسُ: أَنَّ الْكَلَالَةَ هُمْ الْوَرَثَةُ، وَالْوُرَّاثُ الَّذِينَ يُحِيطُونَ بِالْمِيرَاثِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي التَّوْجِيهِ:
أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ فَيُعَضِّدُهُ الِاشْتِقَاقُ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ تَوْجِيهُ الرَّابِعِ؛ لِأَنَّ الْأَخَ قَرِيبٌ جِدًّا حِينَ جَمَعَهُ مَعَ أَخِيهِ صَلْبٌ وَاحِدٌ وَارْتَكَضَا فِي رَحِمٍ وَاحِدَةٍ، وَالْتَقَمَا مِنْ ثَدْيٍ وَاحِدَةٍ،
وَمَنْ قَالَ: إنَّهُمْ الْمُحِيطُونَ بِالْمِيرَاثِ نَزَعَ بِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: كَلَّلَهُ النَّسَبُ: أَحَاطَ بِهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ التَّاجُ إكْلِيلًا؛ لِأَنَّهُ يُحِيطُ بِجَوَانِبِ الرَّأْسِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ الَّذِي لَا وَالِدَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، مَأْخُوذٌ مِنْ تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ، أَيْ أَحَاطَ بِهِ؛ كَأَنَّهُ سَمَّاهُ بِضِدِّهِ كَالْمَفَازَةِ وَالسَّلِيمِ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْمُخْتَارِ: دَعْنَا مِنْ تَرْتَانَ، وَمَا لَنَا وَلِاخْتِلَافِ اللُّغَةِ وَتَتَبُّعُ الِاشْتِقَاقِ؟ وَلِسَانُ الْعَرَبِ وَاسِعٌ، وَمَعْنَى الْقُرْآنِ ظَاهِرٌ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ فَقَدَ أَبَاهُ وَابْنَهُ وَالزَّوْجَاتِ وَتَرَكَ الْإِخْوَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَرَكَ سِهَامَ الْفَرَائِضِ مَعَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالزَّوْجَاتِ وَتَرَكَ الْإِخْوَةَ؛ فَجَعَلَ هَذِهِ آيَتَهُمْ وَجَعَلَهُمْ كَلَالَةً اسْمًا مَوْضُوعًا لُغَةً بِأَحَدِ مَعَانِي الْكَلَالَةِ مُسْتَعْمَلًا شَرْعًا، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ فِي آيَةِ الصَّيْفِ سَمَّاهُ كَلَالَةً، وَذَكَرَ فَرِيضَةً لَا أَبَ فِيهَا وَلَا ابْنَ، فَتَحَقَّقْنَا بِذَلِكَ مُرَادَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْكَلَالَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الْكَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقْدُ الِابْنِ وَالْأَبِ؛ لِأَنَّ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ يُحْجَبُونَ بِالْجَدِّ، وَهُمْ الْمُرَادُونَ فِي الْآيَةِ بِالْإِخْوَةِ إجْمَاعًا، وَدَخَلَ فِيهَا الْجَدُّ الْخَارِجُ عَنْ الْكَلَالَةِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ النَّسَبِ كَالْأَبِ الْمُتَوَلَّدِ عَنْهُ الِابْنُ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ فَقَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا: إنَّ الْجَدَّ أَيْضًا خَارِجٌ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْأُخْتَ مَعَ الْجَدِّ لَا تَأْخُذُ نِصْفًا؛ إنَّمَا هِيَ مُقَاسِمَةٌ، وَكَذَلِكَ الْأَخُ مُقَاسِمٌ لَهَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}:
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّشْرِيكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي آخِرِهَا مَا يَقْتَضِي التَّعْصِيبَ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا -فِي مَسْأَلَةِ الزَّوْجِ وَالْأُمِّ وَالْأَخِ مِنْ الْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ: إنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسَ، وَلِلْأَخِ لِلْأُمِّ السُّدُسَ، وَلِلْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ السُّدُسَ بِحُكْمِ التَّعْصِيبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْأَخَوَاتُ عُصْبَةٌ لِلْبَنَاتِ، وَإِذَا تَرَكَ بِنْتًا وَأُخْتًا أَوْ ابْنَتَيْنِ وَأُخْتًا فَالنِّصْفُ لِلِابْنَةِ، وَلِلْأُخْتِ مَا بَقِيَ، وَهُمَا ذَوَاتَا فَرْضٍ، لَكِنْ إذَا اجْتَمَعَا سَقَطَ فَرْضُ الْأَخَوَاتِ وَعَادَ سَهْمُهُنَّ إلَى التَّعْصِيبِ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الإرث بالمصاهرة أضعف من الإرث بالقرابة ذكره بعده، وقدمه على الإرث بقرابة الأخوة تعريفاً بالاهتمام به ولأنه بلا واسطة، وقدم منه الرجل لأنه أفضل فقال: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} وبين شرط هذا بقوله: {إن لم يكن لهن ولد} أي منكم أو من غيركم، ثم بين الحكم على التقدير الآخر فقال: {فإن كان لهن ولد} أي وارث وإن سفل سواء كان ابناً أو بنتاً {فلكم الربع مما تركن} أي تركت كل واحدة منهن، ويغسلها الزوج لأن الله أضافها إليه باسم الزوجية، والأصل الحقيقة، ولا يضر حرمة جماعها بعد الموت وحلُّ نكاح أختها وأربع سواها، لأن ذلك لفقد المقتضي أو المانع وهو الحياة، وذلك لا يمنع علقة النكاح المبيح للغسل -كما لم يمنعها لأجل العدة لو كان الفراق بالطلاق، ثم كرر حكم الوصية اهتماماً بشأنها فقال: {من بعد وصية يوصين بها} أي الأزواج أو بعضهن، ولعله جمع إشارة إلى أن الوصية أمر عظيم ينبغي أن يكون مستحضراً في الذهن غير مغفول عنه عند أحد من الناس {أو دين}.
ولما بين إرث الرجل أتبعه إرثها فقال معلماً أنه على النصف مما للزوج- كما مضى في الأولاد -: {ولهن} أي عدداً كن أو لا {الربع مما تركتم} أي يشتركن فيه على السواء إن كن عدداً، وتنفرد به الواحدة إن لم يكن غيرها، ثم بين شرطه بقوله: {إن لم يكن لكم ولد} ثم بين حكم القسم الآخر بقوله: {فإن كان لكم ولد} أي وارث {فلهن الثمن مما تركتم} كما تقدم في الربع، ثم كرر الخروج عن حق الموروث فقال: {من بعد وصية توصون بها أو دين}.
ولما فرغ من قسمي ما اتصل بالميت بلا واسطة أتبعه الثالث وهو ما اتصل بواسطة، ولما كان قسمين، لأنه تارة يتصل من جهة الأم فقط وهم الأخياف، أمهم واحدة وآباؤهم شتى، وتارة من جهة الأب فقط وهم العلات، أبوهم واحد وأمهاتهم شتى، وتارة من جهة الأبوين وهم الأعيان، وكانت قرابة الأخوة أضعف من قرابة البنوة؛ أكدها بما يقتضيه حالها، فجعلها في قصتين، ذكر إحداهما هنا إدخالاً لها في حكم الوصية المفروضة، وختم بالأخرى السورة لأن الختام من مظنات الاهتمام.
ولما كانت قرابة الأم أضعف من قرابة الأب، قدمها هنا دلالة على الاهتمام بشأنها، وأن ما كانوا يفعلونه من حرمان الإناث خطأ وجور عن منهاج العدل، فقال تعالى: {وإن كان} أي وجد {رجل يورث} ي من ورث حال كونه {كلالة} أي ذا حالة لا ولد له فيها ولا والد، أو يكون يورث من: أورث -بمعنى أن إرث الوارث بواسطة من مات كذلك: لا هو ولد للميت ولا والد، ووارثه أيضاً كلالة لأنه ليس بوالد ولا ولد، فالمورث كلالة وارثه، والوارث كلالة مورثة؛ قال الأصبهاني: رجل كلالة، وامرأة كلالة، وقوم كلالة، لا يثنى ولا يجمع، لأنه مصدر كالدلالة والوكالة، وهو بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوة من الإعياء، وقد تطلق الكلالة على القرابة من غير جهة الولد والوالد، ومنه قولهم: ما ورث المجد عن كلالة {أو} وجدت {امرأة} أي تورث كذلك، ويجوز أن يكون (يورث) صفة، و (كلالة) خبر كان {وله} خبر كان {وله} أي للمذكور وهو الموروث على أي الحالتين كان.
ولما كان الإدلاء بمحض الأنوثة يستوي بين الذكر والأنثى لضعفها قال: {أخ أو أخت} أي من الأم بإجماع المفسرين، وهي قراءة أبي وسعد بن مالك رضي الله عنهما {فلكل واحد منهما السدس} أي من تركته، من غير فضل للذكر على الأنثى.
ولما أفهم ذلك أي بتحويل العبارة المذكورة من أن يقال: فله السدس أنهما إن كانا معا كان لهما الثلث، وكان ذلك قد يفهم أنه إن زاد وارثه زاد الإرث عن الثلث نفاه بقوله: {فإن كانوا} أي ما أفهمه "أخ أو أخت "من الوارث منهم {أكثر من ذلك} أي واحد، كيف كانوا {فهم شركاء} أي بالسوية {في الثلث} أي المجتمع من السدسين اللذين تقدم أنهما بينهما، لا يزادون على ذلك شيئا، ثم كرر الحث على مصلحة الميت بيانا للاهتمام بها فقال: {من بعد وصية يوصي بها أو دين}.
ولما كان الميت قد يضار ورثته، أو بعضهم بشيء يخرجه عنهم ظاهرا أو باطنا كأن يقر بماله لأجنبي، أو بدين لا حقيقة له، أو بدين كان له بأنه استوفاه، ختم الآية بالزجر عن ذلك بقوله: {لا يدرون أيهم أقرب لكم نفعا}؛ قال الأصبهاني: والإضرار في الوصية من الكبار. ثم أكد ذلك بقوله مصدرا ليوصيكم: {وصية من الله} أي الذي له الوصية بأولها وأخرها، وهو دون الفريضة في حق الأولاد، لأن حقهم آكد.
ولما بين سبحانه الأصول وفصل النزاع، وكان ذلك خلاف مألوفهم وكان الفطام عن المألوف في الذروة من المشقة؛ اقتضى الحال الوعظ بالترغيب والترهيب، فختم القصة بقوله: {والله} أي الجامع لصفات الكمال من الجلال والجمال، وللإشارة إلى عظيم الوصية كرر هذا [الاسم] الأعظم في جميع القصة، ثم قال: {عليم} أي فلا يخفى عليه أمر من خالف بقول أو فعل، نية أو غيرها {حليم} فهو من شأنه أن لا يعاجل بالعقوبة فلا يغتر بإمهاله، فإنه إذا أخذ بعد طول الأناة لم يفلت فاحذروا غضب الحليم! وفي الوصفين مع التهديد استجلاب للتوبة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال عز وجل: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) اللواتي تحققت بهن الزوجية بأكمل معناها (إن لم يكن لهن ولد) ما منكم، أو من غيركم ذكرا كان أو أنثى، واحدا كان أو أكثر من بطنها مباشرة أو من صلب بنيها أو بنى بنيها فنازلا والباقي لأولادها ووالديها على ما بينه الله في الآية السابقة، هذا ما ذهب إليه الجمهور وجرى عليه العمل. وروي عن ابن عباس أن ولد الولد لا يحجب (فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن) والباقي من التركة للأقرب إليها من أصحاب الفروض والعصبات وذوي الأرحام يعلم كل ذلك من موضعه في الكتاب والسنة (من بعد وصية يوصين بها أو دين) أي إنما يكون لكم ذلك في تركتهن في كل من الحالتين، بعد إنفاذ الوصية ووفاء الدين، إذ ليس لوارث شيء إلا مما يفضل عنهما إن كانا كما تقدم.
(ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد) ما على التفصيل السابق في أولادهن فإن كان للميت منكم زوج واحدة كان لها وحدها وإن كان له زوجان فأكثر اشتركتا أو اشتركن فيه للمساواة والباقي يكون لمستحقه شرعا من ذوي القربى وأولي الأرحام لكم (فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم) والباقي لولدكم علا أو نزل ولمن عساه يوجد معه من والديه على التفصيل الذي بينه الله تعالى وذلك (من بعد وصية يوصي بها أو دين) وبهذا كان للذكر من الزوجين مثل حظ الأنثيين.
فإن قيل إن من ترك زوجين أو ثلاثا أو أربعا كان لهن نصيب الزوج الواحدة فلا تطرد فيهن قاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين لأن الرجل لا ينقص نصيبه من إرث امرأته بحال من الأحوال. فما هي الحكمة في ذلك ولماذا لم يكن نصيب الزوجين أو الثلاث أو الأربع أكثر من نصيب الزوج الواحدة؟ أقول: الحكمة الظاهرة لنا من ذلك هي إرشاد الله إيانا إلى أن يكون الأصل الذي تجري عليه في الزوجية هي أن يكون للرجل منا امرأة واحدة. وإنما أباح للرجل أن يتزوج اثنتين إلى أربع بشرطه المضيق لأن التعدد من الأمور التي تسوق إليها الضرورة أحيانا، وقد تكون لخير النساء أنفسهن، كما شرحنا ذلك في آية إباحة التعدد وما هي ببعيد، ونذكر ما قلناه في حكمة جعل حظ الذكر من الأولاد مثل حظ الأنثيين وهو: أن الأصل فيه أن ينفق على نفسه وعلى امرأة يتزوجها، فما هنا يلاقي ما هناك ويتفق معه، والنصوص يؤيد بعضها بعضا فلو كان من مقاصد الشريعة أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة لجعل الذكر من الأولاد أكثر من حظ الانثيين وللزوجين والزوجات أكثر من حظ الزوج الواحدة. ولكن التعدد في نظر الشرع من الأمور النادرة غير المقصودة فلم يراعه في أحكامه والأحكام إنما توضع لما هو الأصل الذي عليه العمل في الغالب والنادر لا حكم له.
ولما بين جلت حكمته أحكام الأولاد والوالدين والأزواج وكل منهم يتصل بالميت مباشرة بلا واسطة شرع في بيان ما يتصل بالميت بالواسطة وهو الكلالة فقال:
(وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة) أي أو كانت امرأة تورث كلالة أي حال كونه كل منهما كلالة، أي ذا كلالة، أو المعنى وإن كان رجل موروث كلالة أي ذا كلالة، وهو من ليس له ولد ولا والد، وعليه أكثر الصحابة. واللفظ مصدر كل يكل بمعنى الكلال وهو الإعياء، ثم استعمل للقرابة البعيدة غير قرابة الولد والوالد لضعفها بالنسبة إلى قرابة الأصول والفروع، وقال بعضهم: كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة، وحمل فلان على فلان ثم كلّ عنه إذا تباعد ومنه سميت القرابة البعيدة كلالة، ذكره الرازي وجها ثانيا. وذكر وجها ثالثا هو أن الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الإحاطة ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس والكل لإحاطته بما يدخل فيه، ويقال: تكلل السحاب إذا صار محيطا بالجوانب قال: إذا عرفت هذا فنقول من عدا الوالد والولد إنما سموا بالكلالة لأنهم كالدائرة المحيطة بالإنسان وكالإكليل المحيط برأسه، أما قرابة الولادة فليست كذلك فإن فيها يتفرع البعض عن البعض ويتولد البعض من البعض كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد.
فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة وهي كالإخوة والأخوات والأعمام والعمات فإنما يحصل لنسبهم اتصال وإحاطة بالمنسوب إليه اه ثم بين أن الكلالة يوصف بها الميت الموروث ويراد بها من يرثه غير أولاده ووالديه، ويوصف بها الوارث ويراد به سوى الأولاد والوالدين ورجح هذا بحديث يدل عليه وذكر كغيره أن لفظ الكلالة مصدر يستوي فيه القليل والكثير ولا يجمع ولا يثنى.
إن الله تعالى أنزل آيتين في الكلالة الآية التي نفسرها والآية التي في آخر هذه السورة، فبين في هذه الآية ما يرثه الإخوة للأم من الكلالة فقط للحاجة إلى ذلك وعدم الحاجة عند نزول الآية إلى بيان ما يأخذه إخوة العصب، وكأنه وقع بعد ذلك إرث كلالة فيه إخوة عصب وسُئِل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك فنزلت الآية الأخرى التي في آخر السورة التي جعلت للأخت الواحدة النصف إذا انفردت للأختين فأكثر الثلثين وللأخ فأكثر كل التركة (فإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) فأجمع الصحابة على قوله تعالى هنا: (وله أخ أو أخت) يعني به الأخ أو الأخت من الأم فقط لأن الأخوين من العصب قد بيّن حكمهما في الآية الأخرى ولأن قوله: (فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) يدل على أنهم إنما يأخذون فرض الأم فإنه إما السدس وإما الثلث. واستدل المفسرون على ذلك بقراءة أبي بزيادة "من الأم "وسعد ابن أبي وقاص بزيادة "من أم" وقالوا إن القراءة الشاذة أي غير المتواترة تخصص لأن حكمها حكم أحاديث الآحاد. وعندي أن هذا ليس قراءة وإنما هو تفسير سمعه بعض الناس منهما فظنوا أن كلمة "من الأم" قراءة وأنهما يعدانها من القرآن. وأرى أن كل ما روي من الزيادة على القرآن المتواتر في قراءة بعض الصحابة قد ذكر على أنه تفسير، فإن لم يكن الصحابي هو الذي قصد التفسير بذلك كان النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي تلقى ذلك الصحابي عنه هو الذي قصد التفسير فظن الصحابي أنه يريد القرآن. والدليل على ذلك القراءة المتواترة عنه (صلى الله عليه وسلم) الخالية من هذه الزيادة. ولا دخل ههنا للفظ الراوي في الترجيح لأنهم يروون الأحاديث بالمعنى.
والحاصل أن الأخ من الأم يأخذ في الكلالة السدس وكذلك الأخت لا فرق فيه بين الذكر والأنثى لأن كل منهما حل محل أمة فأخذ نصيبها. وإذا كانوا متعددين أخذوا الثلث وكانوا فيه سواء لا فرق بين ذكرهم وأنثاهم لما ذكرنا من العلة وذلك (من بعد وصية يوصى بها أو دين) كما تقدم في نظيره، وفيه قراءة يوصى بفتح الصاد وكسرها كما تقدم.
وأما الباقي بعد فروض هؤلاء كغيرهم فهو على القاعدة التي بيّنها النبي (صلى الله عليه وسلم) بقوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأول رجل ذكر" أي من عصبة الميت رواه أحمد والشيخان وغيرهم من حديث ابن عباس. وإنما لم يذكر هذا في القرآن لأن المخاطبين به في عصر التنزيل به كانوا يعطون جميع التركة للرجال من عصبتهم دون النساء والصغار ففرض سبحانه للنساء ما فرضه فكن شريكات للرجال، وجعل الصغار والكبار في الإرث سواء، وما سكت عنه فلم يبينه بالنص ولا بالفحوى فهو مفوض إليهم يجرون فيه على عرفهم في تقدم الأقرب من العصبات إذ لا ضرر فيه إلا أن يسن النبي (صلى الله عليه وسلم) فيه سنة فيكون اتباعها مقدما على عرفهم كما هو بديهي.
ثم قال: (غير مضار) أي ذلك الحق في الوراثة يكون من بعد وصية صحيحة يوصي بها الميت في حياته غير مضار بها ورثته، وحدد النبي (صلى الله عليه وسلم) الوصية الجائزة بثلث التركة وقال: "والثلث كثير" كما في حديث سعد المتفق عليه، فما زاد على الثلث فهو ضرار لا يصح ولا ينفذ وعن ابن عباس (رضي الله عنه) أن الضرر في الوصية من الكبائر أي إذا قصده الموصي، وأيضا من بعد دين صحيح لم يعقده الميت في حياته أو يقر به في حال صحته لأجل مضارة الورثة والحال أنه لم يأخذ ممن أقر له به شيئا فهذا معصية أيضا، وكثيرا ما يجترحها المبغضون للوارثين لهم لا سيما إذا كانوا كلالة، ولذلك جاء هذا القيد في وصية إرث الكلالة دون ما قبله لأن القصد إلى مضارة الوالدين أو الأولاد وكذا الأزواج نادر جدا، فكأنه غير موجود.
(وصية من الله) أي يوصيكم بذلك وصية منه عز وجل فهي جديرة بالإذعان لها والعمل بموجبها (والله عليم) بمصالحكم ومنافعكم وبنيات الموصين منكم (حليم) لا يسمح لكم بأن تعجلوا بعقوبة من تستاؤون منه مضارته بالوصية كما أنه لم يسمح لكم بحرمان النساء والأطفال من الإرث، وهو لا يعجل بالعقاب في أحكامه ولا في الجزاء على مخالفتها عسى أن يتوب المخالف.
بعد كتابة ما تقدم رأيت في كراسة لبعض تلاميذ الأستاذ الإمام كلاما نقله من درسه في تفسيره "والله عليم حليم" هذا مثاله بتصرف في المعنى واختلاف في الأسلوب. هذا تحريض على أخذ وصية الله تعالى وأحكامه بقوة، وتنبيه إلى أنه تعالى فرضها وهو يعلم ما فيها من الخير والمصلحة لنا (وهو بكل شيء عليم) وإذا كنا نعلم أنه تعالى شأنه أعلم منا بمصالحنا ومنافعنا فما علينا إلا أن نذعن لوصاياه وفرائضه، ونعمل بما ينزله علينا من هدايته. وكما يشير اسم العليم هنا إلى وضع تلك الأحكام على قواعد العلم بمصلحة العباد ومنفعتهم يشير أيضا إلى وجوب مراقبة الوارثين القوام على التركات لله تعالى في عملهم بتلك الأحكام لأنه عليم لا يخفى عليه حال من يلتزم الحق في ذلك ويقف عند حدود الله عز وجل وحال من يتعدى تلك الحدود بأكل شيء من الوصايا أو الدين أو حق صغار الوارثين أو النساء الذي فرضه الله لهم كما كانت تفعل الجاهلية، ولذلك قال في الآية السابقة: (إن الله كان عليما حكيما) فللتذكير بعلمه تعالى هنا فائدتان، فائدة تتعلق بحكمة التشريع وفائدة تتعلق بكيفية التنفيذ.
وقد يخطر في البال أن المناسب الظاهر في هذه الآية أن يقرن وصف العلم بوصف الحكمة كالآية الأخرى فيقال: (والله عليم حكيم) فما هي النكتة في إيثار الوصف بالحلم على الوصف بالحكمة والمقام مقام تشريع وحث على اتباع الشريعة، لا مقام حث على التوبة فيؤتى فيه بالحلم الذي يناسب العفو والرحمة؟ والجواب عن ذلك: أن التذكير بعلم الله تعالى لما كان متضمنا لإنذار من يتعدى حدوده تعالى فيما تقدم من الوصية والدين والفرائض ووعيده، وكان تحقق الإنذار والوعيد بعقاب معتدي الحدود وهاضم الحقوق قد يتأخر عن الذنب، وكان ذلك مدعاة غرور الغافل، ذكرنا تعالى هنا بحلمه لنعلم أن تأخر نزول العقاب لا ينافي ذلك الوعيد والإنذار، ولا يصح أن يكون سببا للجراءة والاغترار؛ فإن الحليم هو الذي لا تستفزه المعصية إلى التعجيل بالعقوبة، وليس في الحلم شيء من معنى العفو والرحمة، فكأنه يقول: لا يغرن الطامع في الاعتداء وأكل الحقوق تمتع بعض المعتدين بما أكلوا بالباطل، فينسى علم الله تعالى بحقيقة حالهم، ووعيده لأمثالهم فيظن أنهم بمفازة من العذاب فيتجرأ على مثل ما تجرؤوا عليه من الاعتداء، ولا يغرن المعتدي نفسه، تأخر نزول الوعيد به، فيتمادى في المعصية، بدلا من المبادرة إلى التوبة، لا يغرن هذا ولا ذاك تأخير العقوبة فإنه إمهال يقتضيه الحلم، لا إهمال من العجز أو عدم العلم، وفائدة المذنب من حلم الحليم القادر أنه يترك له وقتا للتوبة والإنابة بالتأمل في بشاعة الذنب وسوء عاقبته، فإذا أصر المذنب على ذنبه، ولم يبق للحلم فائدة في إصلاح شأنه، يوشك أن يكون عقاب الحليم له أشد من عقاب السفيه على البادرة عند حدوثها، ومن الأمثال في ذلك: (اتقوا غيظ الحليم) ذلك بأن غيظه لا يكون إلا عند آخر درجات الحلم إذا لم تبق الذنوب منه شيئا، وعند ذلك يكون انتقامه عظيما. نعم إن حلم الله تعالى لا يزول ولكنه يعامل به كل أحد بقدر معلوم (وكل شيء عنده بمقدار) [الرعد: 8] فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بحلمه تعالى كما أنه لا ينبغي له أن يغتر بكرمه (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك؟ كلا) [الانفطار: 6-9].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وإن كان رجل يورث كلالة -أو امرأة- وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس. فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث).. وله أخ أو أخت -أي من الأم- فلو كانا من الأبوين أو من الأب وحده لورثا وفق ما ورد في الآية الأخيرة من السورة للذكر مثل حظ الأنثيين: لا السدس لكل منهما سواء كان ذكرا أم أنثى. فهذا الحكم خاص بالأخوة من الأم. إذ أنهم يرثون بالفرض -السدس لكل من الذكر أو الأنثى- لا بالتعصيب، وهو أخذ التركة كلها أو ما يفضل منها بعد الفرائض: (فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث).. مهما بلغ عددهم ونوعهم. والقول المعمول به هو أنهم يرثون في الثلث على التساوي. وإن كان هناك قول بأنهم -حينئذ- يرثون في الثلث: للذكر مثل حظ الأنثيين. ولكن الأول أظهر لأنه يتفق مع المبدأ الذي قررته الآية نفسها في تسوية الذكر بالأنثى: (فلكل واحد منهما السدس).. والإخوة لأم يخالفون -من ثم- بقية الورثة من وجوه: أحدها: أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء. والثاني: أنهم لا يرثون إلا أن يكون ميتهم يورث كلالة. فلا يرثون مع أب ولا جد ولا ولد ولا ولد ابن. والثالث: أنهم لا يزادون على الثلث وإن كثر ذكورهم وإناثهم. (من بعد وصية يوصى بها أو دين -غير مضار).. تحذيرا من أن تكون الوصية للإضرار بالورثة. لتقام على العدل والمصلحة. مع تقديم الدين على الوصية. وتقديمهما معا على الورثة كما أسلفنا.. ثم يجيء التعقيب في الآية الثانية- كما جاء في الآية الأولى -: (وصية من الله. والله عليم حليم).. وهكذا يتكرر مدلول هذا التعقيب لتوكيده وتقريره.. فهذه الفرائض (وصية من الله) صادرة منه؛ ومردها إليه. لا تنبع من هوى، ولا تتبع الهوى. صادرة عن علم.. فهي واجبة الطاعة لأنها صادرة من المصدر الوحيد الذي له حق التشريع والتوزيع. وهي واجبة القبول لأنها صادرة من المصدر الوحيد الذي عنده العلم الأكيد.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{من بعد وصية توصون بها أو دين}.
وهنا أمران تجب الإشارة إليهما:
أولهما: أنه كرر في كل حال حق الدائنين والموصى لهم، تبرئة لذمة المتوفى وتأكيدا لحقهم. وهو دليل على أن حق الدائنين والوصايا هو حق للميت نفسه، فهو أولى من غيره. وقدم الوصايا في الذكر، مع أنها مؤخرة عن الدين في السداد، وذلك للتشديد في تنفيذها؛ لأنها مظنة الإهمال أو مظنة الإخفاء، فكان من الأسلوب الحكيم العناية بتنفيذها، وكان من العناية تقديمها في الذكر.
الأمر الثاني: أنه ذكر عند ميراث أولاد الأم التحريض على الأداء، فقال تعالى: {غير مضار وصية من الله} فكان التحريض مرتين، مرة بمنع المضارة، ومرة أخرى بتأكيد أن هذه وصية الله، فمن خالفها فقد تمرد على وصية الله العليم الحليم الذي يعلم كل شيء وإن لم ينزل العقاب فور الجريمة. وكان ذلك في أولاد الأم؛ لأن حقوقهم مظنة الضياع والإهمال، ولا يزال الناس إلى الآن يكادون يهملون نصيب أولاد الأم، وإذا ذكروا به، كان ذلك بمنزلة التذكير بأمر غريب، فكان التأكيد لهذا.
والآيات تسير في إيضاح حق الذكر مثل حظ الأنثيين؛ وهذه عدالة؛ لأن الرجل حين تموت امرأته قد يتزوج حتى يبني حياته، والمرأة حين يموت زوجها فإنها تأخذ ميراثها منه وهي عرضة أن تتزوج وتكون مسئولة من الزوج الجديد.
إن المسألة كما أرادها الله تحقق العدالة الكاملة. والكلالة كما قلنا أنه ليس للمتوفى والد أو ولد، أي لا أصل له ولا فصل متفرع منه.
فإذا كان للرجل الكلالة أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث، وذلك أيضا من بعد وصية يوصى بها أو دين. ولماذا يتم تقرير هذا الأمر؟ لنرجع مرة أخرى إلى آية الكلالة التي جاءت في آخر سورة النساء.
{فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم} (من الآية 176 سورة النساء).
في الآية الأولى التي نحن بصددها يكون للواحد من الإخوة سدس ما ترك إذا انفرد، فإذا كان معه غيره فهم شركاء في الثلث. هذا إذا كانوا إخوة من الأم. أما الآية التي يختص بها الحق الأختين بالثلثين من التركة إذا لم يكن معهما ما يعصبهما من الذكور فهي في الإخوة الأشقاء أو الأب، هكذا يفصل القرآن ويوضح بدقة مطلقة.
وماذا يعني قوله الحق:"غير مضار وصية من الله والله عليم حليم" ؟.
إنه سبحانه يريد إقامة العدل، فلا ضرر لأحد على الإطلاق في تطبيق شرع الله؛ لأن الضرر إنما يأتي من الأهواء التي تفسد قسمة الله. فقد يكون هناك من يرغب ألا يرث العم من بنات أخيه الشقيق، أو لأب، أو يريد آخر ألا يدخل أولاد الإخوة الذكور أشقاء أو لأب في ميراث العمة أو بنات العم الشقيق أو لأب، لمثل هؤلاء من أصحاب الهوى نقول: إن الغرم على قدر الغنم، بالله لو أنك مت وتركت بنات ولهن عم، أليس مطلوبا من العم أن يربي البنات؟ فلماذا يجبر الحق العم على رعاية بنات أخيه إن توفى الأخ ولم يترك شيئا؟ لذلك يجب أن تلتفت إلى حقيقة الأمر عندما يأتي نصيب للعم في الميراث. وعلينا أن نعرف أن الغرم أمامه الغنم.
وقلنا: إن القرآن الكريم يجب ان يؤخذ جميعه فيما يتعلق بالأحكام، فإذا كان في سورة النساء هذه يقول الحق سبحانه وتعالى في آخر آية منها:
{يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تصلوا والله بكل شيء عليم 176} (سورة النساء).
فما الفرق بين الكلالة حين يجعل الله للمنفردة النصف وللاثنتين الثلثين، وبين الكلالة التي يجعل الله فيها للمنفرد السدس، ويجعل للأكثر من فرد الاشتراك في الثلث دون تمييز للذكر على الأنثى؟.
لا بد أن نفرق بين كلالة وكلالة..
هما متحدتان في أنه لا أصل ولا فرع للمتوفى. والمسألة هنا تتعلق بالإخوة.
ونقول: إن الإخوة لها مصادر متعددة. هذه المصادر إما إخوة من أب وأم، وإما إخوة لأب، وإما إخوة لأم. فإذا كان أخ شقيق أو لأب فهو من العصبة الأصيلة، وهما المعنيان في الآية 176 من السورة نفسها.
وبذلك تكون آية السدس والثلث التي نحن بصددها الآن متعلقة بالإخوة لأم. إذن فالكلالة إما أن يكون الوارث أخا لام فقط، وإما أن يكون أخا لأب، او أخا لأب وأم. فالحكمان لذلك مختلفان؛ لأن موضع كل منهما مختلف عن الآخر. وإلا لو أن مستشرقا قرأ هذه الآية وقرا الاية الأخرى وكلتاهما متعلقتان بميراث الكلالة، وأراد هذا المستشرق أن يبحث عن شيء يطعن به ديننا ويطعن به القرآن لقال والعياذ بالله: القرآن متضارب، فهو مرة يقول: للكلالة السدس، ومرة يقول: الثلث، ومرة أخرى النصف، ومرة أخرى الثلثان، ومرة للذكر مثل حظ الأنثيين! ونرد على من يقول ذلك: أنت لم تلاحظ المقصود الفعلي والواقعي للكلالة؛ لذلك فأنت تفهم شيئا وتغيب عنك أشياء.
والحق قال: "من بعد وصية يوصي بها أو دين "ولنا أن نلاحظ أن في كل توريث هذه "البعدية "أي أن التوريث لا يتأتى إلا من بعد الوصية الواجبة النفاذ والدين.
ولنا ان نسأل: أيهما ينفذ أولا، الوصية أم الدين؟.
والإجابة: لا شك أنه الدين؛ لأن الدين إلزام بحق في الذمة، والوصية تطوع، فكيف تقدم الوصية وهي التطوع على الدين، وهو للإلزام في الذمة.
وعندما يقول:"غير مضار "لا بد أن نعرف جيدا أن شرع الله لن يضر أحدا، وما المقصود بذلك؟ المقصود به الموصى، ففي بعض الأحيان يكون المورث كارها لبعض المستحقين لحقهم في ميراثه، فيأتي ليوصي بمنع توريثهم أو تقليل الأنصباء، أو يأتي لواحد بعيد يريد أن يعطيه شيئا من الميراث ولا يعطي لمن يكرهه من أهله وأقاربه المستحقين في ميراثه، فيقر لذلك الإنسان بدين، فإذا ما أقر له بدين حتى وإن كان مستغرقا للتركة كلها، فهو يأخذ الدين وبذبك يترك الورثة بلا ميراث.
وهذا يحدث في الحياة ونراه، فبعض من الناس أعطاهم الله البنات ولم يعطهم الله ولدا ذكرا يعصبهم، فيقول الواحد من هؤلاء لنفسه: إن الأعمام ستدخل، وأبناء الأعمام سيدخلون في ميراثي، فيريد أن يوزع التركة على بناته فقط، فيكتب دينا على نفسه للبنات. ونقول لهذا الإنسان: لا تجحف، أنت نظرت إلى أن هؤلاء يرثون منك، ولكن يجب ان تنظر إلى الطرف المقابل وهو أنك إذا مت ولم تترك لبناتك شيئا وهن لا عصبة لهن، فمن المسئول عنهن؟ إنهم الأعمام، فالغرم هنا مقابل الغنم.. ولماذا تطلب البنات الأعمام أمام القضاة ليأخذن النفقة منهم في حالة وفاة الأب دون ان تكون له ثروة. فكيف تمنع عن إخوتك ما قرره الله لهم؟.
وهناك بعض من الناس يرغب الواحد منهم ألا يعطى عمومته أو إخوته لأي سبب من الأسباب، فماذا يفعل؟ إنه يضع الوصية؛ لذلك حدد الإسلام الوصية بمقدار الثلث، حتى لا تحدث مضارة للورثة.
وقد حاول البعض من هؤلاء الناس أن يدعوا كذبا، أن هناك دينا عليهم، والدين مستغرق للتركة حتى لا يأخذ الأقارب شيئا.
والإنسان في هذا الموقف عليه أن يعرف أنه واقف في كل لحظة في الحياة أو الممات أمام الله، وكل إنسان أمين على نفسه.
{آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما} (من الآية 11 سورة النساء).
والحق يلفتنا ألا نضر أحدا بأي تصرف؛ لأنها توصية من الله لكل ما يتعلق بالحكم توريثا ووصية وأداء دين، كل ذلك توصية من الله، والتوصية ليست من مخلوق لمخلوق، ولكنها من الله؛ لذلك ففيها إلزام وفرض، فسبحانه القائل: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} (من الآية 13 سورة الشورى).
والوصية هنا افتراض، ومثل ذلك يقول الحق:
{ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} (من الآية 151 سورة الأنعام).
ومادامت التوصية تأتي من المالك الأعلى، فمعنى ذلك انها افتراض، ويذيل الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد تناولها بالخواطر الإيمانية:"والله عليم حليم "أي إياكم أن تتصرفوا تصرفا قد يقره ويمضيه القضاء، ولكنه لا يبرئكم أمام الله؛ لأنه قد قام على باطل.
مثال ذلك: هناك إنسان يموت وعليه دين، عندئذ يجب تسديد الدين، لكن أن يكتب الرجل دينا على نفسه غير حقيقي ليحرم بعضا من أقاربه من الميراث فعليه أن يعرف أن الله عليم بالنوايا التي وراء التصرفات. فإن عميتم أيها البشر على قضاء الأرض، فلن تعموا على قضاء السماء.
وهذه مسألة تحتاج إلى علم يتغلغل في النوايا، إذن فمسألة القضاء هذه هي خلاف بين البشر والبشر، ولكن مسألة الديانة وما يفترضه الحق، فهو موضوع بين الرب وبين عبيده، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث شريف:"إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها او ليتركها".
إن الرسول يعلمنا أنه بشر، أي أنه لا يملك علم الغيب ومداخل المسائل، وعندما يرفع المسلمون إليه قضاياهم فقد يكون أحدهم أكثر قدرة على الفصاحة وذلاقة اللسان، ويستطيع أن يقلب الباطل حقا، والآخر قليل الحيلة، فيحكم النبي بمقتضى البينة القضائية، ولكن الأمر الواقع يتنافى مع تسلسل الحق؛ لذلك يعلمنا أنه بشر، وأننا حين نختصم إليه يجب ألا يستخدم واحد منا ذلاقة اللسان في أخذ ما ليس له؛ لأنه حتى لو أخذ شيئا ليس له بحكم من الرسول صلى اله عليه وسلم، فليعلم أنه يأخذ قطعة من الجحيم.
إذن فمعنى ذلك أنه يجب علينا أن نحذر في الأمور، فلا نعمي ولا نأخذ شيئا بسلطان القضاء ونهمل مسألة الديانة. فالأمور التي تتعلق بالدين لا يجوز للمؤمن المساس بها، إياكم ان تظنوا أن حكم أي حاكم يحلل حراما أو يحرم حلالا، لا. فالحلال بين، والحرام بين، والقاضي عليه أن يحكم بالبينات الواضحة. ومثال على ذلك: هب أنك اقترضت من واحد ألفا من الجنيهات، وأخذ عليك صكا، ثم جاء المقترض وسدد ما عليه من قرض وقال لمن اقترض منه: "عندما تذهب إلى منزلك أرجو أن ترسل لي الصك" ثم سبق قضاء الله، وقال أهل الميت: "إن الصك عندنا" واحتكموا إلى القضاء ليأخذوا الدين. هنا يحكم القضاء بضرورة تسديد الدين مرة أخرى، لكن حكم الدين في ذلك يختلف، فالرجل قد سدد الدين ولا يصح أبدا أن يأخذ الورثة الدين مرة أخرى إذا عملوا أن مورثهم حصل على دينه.
ولذلك يقول لنا الحق: "والله عليم حليم" حتى نفرق بين الديانة وبين القضاء. والحق يقول لنا: إنه "حليم" فإياك أن تغتر بأن واحدا حدث منه ذلك، ولم ينتقم الله منه في الدنيا، فعدم انتقام الله منه في الدنيا لا يدل على أنه تصرف حلالا، لكن هذا حلم من الله وإمهال وإرجاء ولكن هناك عقابا في الآخرة.