فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞وَلَكُمۡ نِصۡفُ مَا تَرَكَ أَزۡوَٰجُكُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٞ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡنَۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِينَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۚ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡتُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّكُمۡ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَكُمۡ وَلَدٞ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكۡتُمۚ مِّنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ تُوصُونَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۗ وَإِن كَانَ رَجُلٞ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ ٱمۡرَأَةٞ وَلَهُۥٓ أَخٌ أَوۡ أُخۡتٞ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُۚ فَإِن كَانُوٓاْ أَكۡثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمۡ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصَىٰ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍ غَيۡرَ مُضَآرّٖۚ وَصِيَّةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٞ} (12)

{ ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركتن إن لم يكن لكم ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم ( 12 ) } .

{ ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد } منكم أو من غيركم ، الخطاب هنا للرجال والمراد بالولد ولد الصلب أو ولد الولد ، ذكرا كان أو أنثى لما قدمنا من الإجماع { فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن } وهذا مجمع عليه لم يختلف أهل العلم في أن للزوج مع عدم الولد النصف ومع وجوده وإن سفل الربع { من بعد وصية يوصين بها أو دين } الكلام فيه كما تقدم أي حالة كونهن غير مضارات في الوصية ، وألحق بالولد في ذلك ولد الابن بالإجماع وهذا ميراث الأزواج من الزوجات .

وقال تعالى في ميراث الزوجات من الأزواج { ولهن } أي الزوجات تعددن أولا { الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد } منهن أو من غيرهن { فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم } هذا النصيب مع الولد والنصيب مع عدمه تنفرد به الواحدة من الزوجات ويشترك فيه الأكثر عن الواحدة ، لا خلاف في ذلك .

يعني أن الواحدة من النساء لها الربع أو الثمن ، وكذلك لو كان أربع زوجات فإنهن يشتركن مع الربع أو الثمن ، واسم الولد يطلق على الذكر والأنثى ولا فرق بين الولد والأنثى ولا فرق بين الولد وولد الابن ، وولد البنت في ذلك ، وسواء كان الولد للرجل من الزوجة أو من غيرها { من بعد وصية توصون بها أو دين } أي من بعد أحد هذين منفردا أو مضمونا إلى الآخر حال كونكم غير مضارين في الوصية ، والكلام في الوصية والدين كما تقدم .

{ وإن كان رجل } ميت { يورث } على البناء للمفعول من ورث لا من أورث { كلالة } مصدر من تكلله النسب أي أحاط به وبه سمي الإكليل لإحاطته بالرأس وهو الميت الذي لا ولد له ولا والد ، هذا قول أبي بكر الصديق وعمر وعلي وجمهور أهل العلم ، وبه قال صاحب كتاب العين وأبو منصور اللغوي وابن عرفة والقتيبي وأبو عبيد وابن الأنباري ، وقد قيل إنها إجماع ، وقال ابن كثير : وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف بل جميعهم ، وقد حكى الإجماع غير واحد وورد فيه حديث مرفوع انتهى . {[418]}

وقال في الجمل هذا أحسن ما قيل في تفسير الكلالة ، ويدل على صحته أن اشتقاق الكلالة من كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة بينهما فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه .

وروى أبو حاتم والأثرم عن أبي عبيدة قال : الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة ، قال أبو عمرو وبن عبد البر ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والإبن في شرط الكلالة غلط لا وجه له ولم يذكره في شرط الكلالة فقد رجعا عنه .

وقال زيد الكلالة : الحي والميت جميعا وإنما سموا القرابة كلالة لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هم منهم بخلاف الابن والأب ، فإنهما طرفان له ، فإذا ذهبا تكلله النسب .

وقيل أن الكلالة مأخوذة من الإكلال وهو الإعياء فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد وإعياء ، قال ابن الأعرابي : إن الكلالة بنو العم الأباعد .

وبالجملة من قرأ يورث كلالة بكسر الراء مشددة وهو بعض الكوفيين أو مخففة وهو الحسن أيوب جعل الكلالة القرابة . ومن قرأ يورث بفتح الراء وهم الجمهور احتمل أن يكون الكلالة الميت واحتمل أن تكون القرابة .

وقد روى عن علي وابن مسعود وزيد ابن ثابت وابن عباس والشعبي أن الكلالة ما كان سوى الولد والوالد من الورثة .

قال الطبري : الصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده لصحة خبر جابر قلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة أفأوصي بمالي كله قال لا . انتهى .

وروى عن عطاء أنه قال الكلالة المال ، وقال ابن الأعرابي وهذا قول ضعيف لا وجه له .

وقال صاحب الكشاف إن الكلالة تطلق على ثلاثة : على من لا يخلف ولدا ولا والدا ، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين ، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد انتهى .

وفي السمين : هذه الآية مما ينبغي أن يطول فيها القول لإشكالها واضطراب أقوال الناس فيها ثم قال بعد ذكر الاختلاف فيها فقد تخلص مما تقدم أنها إما لميت الموروث أو الورثة أو المال المورث أو الإرث أو القرابة ، ثم تكلم في اشتقاقها وإعرابها والذي ذكرناه هو أحسن ما قيل فيها .

{ أو امرأة } معطوف على رجل مقيد بما قيد به أي كانت المرأة المورثة خالية من الوالد والولد { وله أخ أو أخت } قرأ سعد بن أبي وقاص وابن مسعود { من أم } والقراءة الشاذة كخبر الآحاد لأنها ليست من قبل الرأي ، وأطلق الشافعي الاحتجاج بها فيما حكاه البويطي عنه في باب الرضاع وباب تحريم الجمع وعليه جمهور أصحابه لأنها منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يلزم من انتفاء خصوص قرآنيتها انتفاء خصوص خبريتها ، قاله الكرخي .

قال القرطبي : أجمع العلماء على أن الأخوة ههنا هم الأخوة لأم ، قال : ولا خلاف بين أهل العلم أن الأخوة المذكورين في قوله تعالى { وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } هم الإخوة لأبوين أو لأب .

وأفراد الضمير في قوله { وله أخ وأخت } لأن المراد كل واحد منهما كما جرت بذلك عادة العرب إذا ذكروا اسمين مستويين في الحكم فإنهم قد يذكرون الضمير الراجع إليهما مفردا كما في قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة } وقوله : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } وقد يذكرونه مثنى كما في قوله { إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما } وقد قدمنا في هذا كلاما أطول من المذكور هنا .

{ فلكل واحد منها السدس } مما ترك المورث { فإن كانوا أكثر من ذلك } الأخ المفرد والأخت المفردة بواحد وذلك بأن يكون الموجود اثنين فصاعدا ذكرين أو أنثيين أو ذكرا وأنثى ، وقد استدل بذلك على أن الذكر كالأنثى من الأخوة لأم لأن الله شريك بينهم في الثلث ولم يذكر فضل الذكر على الأنثى كما ذكره في البنين والأخوة لأبوين أو لأب ، قال القرطبي : وهذا أجمل .

ودلت الآية على أن الإخوة لأم إذا استكملت بهم المسألة كانوا أقدم من الإخوة للأبوين أو لأب ، ذلك في المسألة المسماة بالحمارية ، وهي إذا تركت الميتة زوجا وأما وأخوين لأم وأخوة لأبوين ، فإن للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين لأم الثلث ولا شيء للأخوة لأبوين .

ووجه ذلك أنه قد وجه الشرط الذي يرث عنده الإخوة من الأم وهو كون الميت كلالة ويؤيد هذا حديث ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فالأول رجل ذكر وهو في الصحيحين وغيرهما ، وقد كرر الشوكاني دلالة الآية والحديث على ذلك في الرسالة التي سماها المباحث الدرية في المسائل الحمارية ، وفي هذه المسألة خلاف بين الصحابة فمن بعدهم بمعروف .

{ فهم شركاء في الثلث } يستوي فيهم ذكرهم وأنثاهم لإدلائهم بمحض الأنوثة { من بعد وصية يوصي بها أو دين } الكلام فيه كما تقدم ، وظاهر الآية يدل على جواز الوصية بكل المال وببعضه ، ولكن ورد في السنة ما يدل على تقييد هذا المطلق وتخصيصه وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد ابن أبي وقاص قال ( الثلث والثلث كثير ) أخرجه البخاري ومسلم ، {[419]} ففي هذا دليل على أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث وأن النقصان عن الثلث جائز .

{ غير مضار } أي حال كونه غير مضار لورثته بوجه من وجوه الإضرار كأن يقر بالشيء ليس عليه أن يوصي لوارث مطلقا أو لغيره بزيادة على الثلث ولم يجزه الورثة ، وهذا القيد راجع إلى الوصية والدين المذكورين فهو قيد لهما فما صدر من الإقرارات بالديون أو الوصايا المنهي عنها أو التي لا مقصد لصاحبها إلا المضارة لورثته فهو باطل مردود لا ينفذ منه شيء لا الثلث ولا دونه .

قال القرطبي : وأجمع على أن الوصية للوارث لا تجوز انتهى .

قال أبو السعود في تفسيره وتخصيص القيد بهذا المقام لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم .

أخرج أحمد وعبد ابن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه ابن ماجة واللفظ له والبيقهي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة ، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة ) ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم { تلك حدود الله إلى قوله عذاب مهين } وفي إسناده شهر بن حوشب وفيه مقال معروف . {[420]}

وأخرج ابن ماجة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من قطع ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة ) .

وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه أتاه يعوده في مرضه فقال : إن لي مالا كثيرا وليس يرثني إلا ابنة لي أفتأصدق بالثلثين ، قال لا قال فالشطر ، قال لا ، قال فالثلث ، قال : الثلث والثلث كثير ، إنك إن تذر ورثك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس . {[421]}

وأخرج ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل قال إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم ، يعني الوصية .

وفي الصحيحين عن ابن عباس قال وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلث ، كبير ، وقال عمر بن الخطاب الثلث وسط لا بخس ولا شطط .

وعن علي قال : لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أوصي بالربع ، ولأن أوصي بالربع أحب إلي أن أوصي بالثلث ومن أوصى بالثلث لم يترك .

{ وصية من الله } نصب على المصدر المؤكد أي يوصيكم بذلك وصية كائنة من الله ، قال ابن عطية : ويصح أن يعمل فيها مضار ، والمعنى أن يقع الضرر بها أو بسببها فأوقع عليها تجوزا فيكون وصية على هذا وفعولا به لأن اسم الفاعل قد اعتمد على ذي الحال أو لكونه منفيا معنى .

وفي كون هذه الوصية من الله سبحانه دليل على أنه قد أوصى عباده بهذه التفاصيل المذكورة في الفرائض ، وإن كل وصية من عباده يخالفها فهي مسبوقة بوصية الله وذلك كالوصايا المتضمنة لتفضيل بعض الورثة على بعض أو المشتملة على الضرار بوجه من الوجوه { والله عليم حليم } قال الخطابي : الحليم ذو الصفح والأناة الذي لا يستفزه غضب ، ولا يستخفه جهل جاهل . {[422]}


[418]:ابن كثير1/460.
[419]:مسلم1629- البخاري1318.
[420]:صحيح الجامع الصغير1619. وفي راية "إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار" وقرأ أبو هريرة ها هنا: {من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار حتى بلغ الفوز العظيم}
[421]:مسلم1629- البخاري1318.
[422]:جاء في كتاب الكبائر للإمام الذهبي/234. قال بن عباس: يريد ما أحل الله من الميراث (ومن يطع الله ورسوله) في شأن المواريث (يدخل جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم. ومن يعص الله ورسوله) قال مجاهد فيما فرض الله من المواريث. وقال عكرمة وابن عباس من لم يرض يقسم الله ويتعد ما قال الله (يدخله نارا). وقال الكلبي يعني يكفر بقسمة الله المواريث ويتعدى حدوده استحلالا {يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين}. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من فر بميراث وارث قطع الله ميراثه من الجنة). وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" صححه الترمذي.