التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَٱرۡتَقِبۡ يَوۡمَ تَأۡتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٖ مُّبِينٖ} (10)

تفريع على جملة { بل هم في شك يلعبون } [ الدخان : 9 ] قُصد منه وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بانتقام الله من مكذبيه ، ووعيد المشركين على جحودهم بدلائل الوحدانية وصدق الرسول وعكوفهم على اللعب ، أي الاستهزاء بالقرآن والرسول ، وذكر له مخوفات للمشركين لإعدادهم للإيمان وبطشةُ انتقام من أيمتهم تستأصلهم .

فالخطاب في { ارتقبْ } للنبيء صلى الله عليه وسلم والأمر مستعمل في التثبيت . والارتقاب : افتعال من رقَبَه ، إذا انتظره ، وإنما يكون الانتظار عند قرب حصول الشيء المنتظر . وفعل ( ارتقب ) يقتضي بصريحه أن إتيان السماء بدخان لم يكن حاصلاً في نزول هذه الآية ، ويقتضي كنايةً عن اقتراب وقوعه كما يُرتقب الجائي من مكان قريب .

و { يوم } اسم زمان منصوب على أنه مفعول به ل ( ارتقب ) وليس ظرفاً وذلك كقوله تعالى : { يخافون يوماً } [ النور : 37 ] ، وهو مضاف إلى الجملة بعده لتمييز اليوم المراد عن بقية الأيام بأنه الذي تأتي فيه السماء بدخان مبين فنصب { يومَ } نصب إعراب ولم ينون لأجل الإضافة .

والجملة التي يضاف إليها اسم الزمان تستغني عن الرابط لأن الإضافة مغنية عنه . ولأن الجملة في قوة المصدر . والتقدير : فارتقب يوم إتيان السماء بدخان . وأطلق اليوم على الزمان فإن ظهور الدخان كان في أياممٍ وشهور كثيرة .

والدخان : ما يتصاعد عند إيقاد الحَطب ، وهو تشبيه بليغ ، أي بمثل دخان .

والمبين : البين الظاهر ، وهو اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بَان . والمعنى : أنه ظاهر لكل أحد لا يُشك في رؤيته . وقال أبو عبيدة وابن قتيبة : الدخان في الآية هو : الغبار الذي يتصاعد من الأرض من جراء الجفاف وأن الغبار يسمّيه العرب دُخَاناً وهو الغبار الذي تثيره الرياح من الأرض الشديدة الجفاف . وعن الأعرج : أنه الغبار الذي أثارته سنابك الخيل يوم فتح مكة فقد حجبت الغبرة السماء ، وإسناد الإتيان به إلى السماء مجاز عقلي لأن السماء مكانه حين يتصاعد في جو السماء أو حين يلوح للأنظار منها . والكلام يؤذن بأن هذا الدخان المرتقب حادث قريب الحصول ، فالظاهر أنه حَدث يكون في الحياة الدنيا ، وأنه عقاب للمشركين .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَٱرۡتَقِبۡ يَوۡمَ تَأۡتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٖ مُّبِينٖ} (10)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فارتقب} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله عز وجل على كفار قريش، فقال:" اللهم أعني عليهم بسبع سنين كسني يوسف"، فأصابتهم شدة... فكان الرجل يرى بينه وبين السماء الدخان من الجوع، فذلك قوله: {فارتقب}: فانتظر يا محمد {يوم تأتي السماء بدخان مبين}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بقوله:"فارْتَقِبْ" فانتظر يا محمد بهؤلاء المشركين من قومك الذين هم في شكّ يلعبون، وإنما هو افتعل، من رقبته: إذا انتظرته وحرسته... وقوله: "يَوْمَ تَأْتِي السمّاءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ "اختلف أهل التأويل في هذا الذي أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرتقبه، وأخبره أن السماء تأتي فيه بدخان مبين: أي يوم هو، ومتى هو؟ وفي معنى الدخان الذي ذُكر في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش ربه تبارك وتعالى أن يأخذهم بسنين كسني يوسف، فأخذوا بالمجاعة، قالوا: وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذٍ في أبصارهم من شدة الجوع من الظلمة كهيئة الدخان...

وقال آخرون: الدخان آية من آيات الله، مرسلة على عباده قبل مجيء الساعة، فيدخل في أسماع أهل الكفر به، ويعتري أهل الإيمان به كهيئة الزكام، قالوا: ولم يأت بعد، وهو آتٍ...

وأولى القولين بالصواب في ذلك ما رُوي عن ابن مسعود من أن الدخان الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرتقبه، هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم، على ما وصفه ابن مسعود من ذلك إن لم يكن خبر حُذيفة الذي ذكرناه عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحا، وإن كان صحيحا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما أنزل الله عليه، وليس لأحد مع قوله الذي يصح عنه قول، وإنما لم أشهد له بالصحة، لأن محمد بن خلف العسقلانيّ حدثني أنه سأل روّادا عن هذا الحديث، هل سمعه من سفيان؟ فقال له: لا، فقلت له: فقرأته عليه، فقال: لا، فقلت له: فقرئ عليه وأنت حاضر فأقرّ به، فقال: لا، فقلت: فمن أين جئت به؟ قال: جاءني به قوم فعرضوه عليّ وقالوا لي: اسمعه منا فقرأوه عليّ، ثم ذهبوا، فحدّثوا به عني، أو كما قال فلما ذكرت من ذلك لم أشهد له بالصحة، وإنما قلت: القول الذي قاله عبد الله بن مسعود هو أولى بتأويل الآية، لأن الله جلّ ثناؤه توعّد بالدخان مشركي قريش وأن قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: "فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ" في سياق خطاب الله كفار قريش وتقريعه إياهم بشركهم بقوله: "لا إلَهَ إلاّ هُوَ يُحْي ويُمِيتُ ربّكُمْ وَرَبّ آبائِكُمُ الأوّلِينَ، بَلْ هُمْ فِي شَكّ يَلْعَبُونَ"، ثم أتبع ذلك قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام: "فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السّماءُ بِدُخانٍ مُبِين" أمرا منه له بالصبر إلى أن يأتيهم بأسه وتهديدا للمشركين فهو بأن يكون إذ كان وعيدا لهم قد أحله بهم أشبه من أن يكون آخره عنهم لغيرهم، وبعد، فإنه غير منكر أن يكون أحلّ بالكفار الذين توعدهم بهذا الوعيد ما توعدهم، ويكون مُحِلاً فيما يستأنف بعد بآخرين دخانا على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا كذلك، لأن الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تظاهرت بأن ذلك كائن، فإنه قد كان ما رَوَى عنه عبد الله بن مسعود، فكلا الخبرين اللذين رُويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح.

وإن كان تأويل الآية في هذا الموضع ما قلنا، فإذ كان الذي قلنا في ذلك أولى التأويلين، فبين أن معناه: فانتظر يا محمد لمشركي قومك يوم تأتيهم السماء من البلاء الذي يحل بهم على كفرهم بمثل الدخان المبين لمن تأمله أنه دخان.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن المراد بقوله {فارتقب} انتظر ويقال ذلك في المكروه، والمعنى انتظر يا محمد عذابهم فحذف مفعول الارتقاب لدلالة ما ذكر بعده عليه وهو قوله {هذا عذاب أليم}، ويجوز أيضا أن يكون {يوم تأتي السماء} مفعول الارتقاب فنقول قوله تعالى: {يوم تأتي السماء بدخان مبين} أي ظاهر الحال لا يشك أحد في أنه دخان يغشى الناس أي يشملهم وهو في محل الجر صفة لقوله {بدخان}.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان هذا موضع أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم المفهوم من السياق: فماذا صنع فيهم بعد هذا البيان، الذي لم يدع لبساً لإنسان؟ سبب عن ذلك قوله تسلية له وتهديداً لهم: {فارتقب} أي انتظر بكل جهد عالياً عليهم ناظراً لأحوالهم نظر من هو حارس لها، متحفظاً من مثلها بهمة كهمة الأسد الأرقب، والفعل متعد ولكنه قصر تهويلاً لذهاب الوهم في مفعوله كل مذهب، ولعل المراد في الأصل ما يحصل من أسباب نصرك وموجبات خذلانهم {يوم تأتي السماء}

{بدخان مبين} أي واضح لا لبس فيه عند رائيه ومبين لما سواه من الآيات للفطن.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ونحن نختار قول ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير الدخان بأنه عند يوم القيامة ، وقول ابن كثير في تفسيره . فهو تهديد له نظائره الكثيرة في القرآن الكريم ، في مثل هذه المناسبة . ومعناه : إنهم يشكون ويلعبون . فدعهم وارتقب ذلك اليوم المرهوب . يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس . ووصف هذا بأنه عذاب أليم . وصور استغاثتهم : ( ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ) . . ورده عليهم باستحالة الاستجابة ، فقد مضى وقتها : ( أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين . ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون ) . . يعلمه ذلك الغلام الأعجمي ! وهو - كما زعموا - مجنون..

في ظل هذا المشهد الذي يرجون فيه كشف العذاب فلا يجابون يقول لهم: إن أمامكم فرصة بعد لم تضع، فهذا العذاب مؤخر عنكم قليلاً وأنتم الآن في الدنيا. وهو مكشوف عنكم الآن فآمنوا كما تعدون أن تؤمنوا في الآخرة فلا تجابون. وأنتم الآن في عافية لن تدوم. فإنكم عائدون إلينا (يوم نبطش البطشة الكبرى).. يوم يكون ذلك الدخان الذي شهدتم مشهده في تصوير القرآن له.

(إنا منتقمون) من هذا اللعب الذي تلعبون، وذلك البهت الذي تبهتون به الرسول [صلى الله عليه وسلم] إذ تقولون عنه: (معلم مجنون).. وهو الصادق الأمين..

بهذا يستقيم تفسير هذه الآيات ، كما يبدو لنا ، والله أعلم بما يريد.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

تفريع على جملة {بل هم في شك يلعبون} قُصد منه وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بانتقام الله من مكذبيه، ووعيد المشركين على جحودهم بدلائل الوحدانية وصدق الرسول وعكوفهم على اللعب، أي الاستهزاء بالقرآن والرسول، وذكر له مخوفات للمشركين لإعدادهم للإيمان وبطشةُ انتقام من أيمتهم تستأصلهم.

فالخطاب في {ارتقبْ} للنبيء صلى الله عليه وسلم والأمر مستعمل في التثبيت.

والارتقاب: افتعال من رقَبَه، إذا انتظره، وإنما يكون الانتظار عند قرب حصول الشيء المنتظر. وفعل (ارتقب) يقتضي بصريحه أن إتيان السماء بدخان لم يكن حاصلاً في نزول هذه الآية، ويقتضي كنايةً عن اقتراب وقوعه كما يُرتقب الجائي من مكان قريب.

و {يوم} اسم زمان منصوب على أنه مفعول به ل (ارتقب) وليس ظرفاً وذلك كقوله تعالى:

{يخافون يوماً} [النور: 37]، وهو مضاف إلى الجملة بعده لتمييز اليوم المراد عن بقية الأيام بأنه الذي تأتي فيه السماء بدخان مبين فنصب {يومَ} نصب إعراب ولم ينون لأجل الإضافة.

والجملة التي يضاف إليها اسم الزمان تستغني عن الرابط لأن الإضافة مغنية عنه. ولأن الجملة في قوة المصدر، والتقدير: فارتقب يوم إتيان السماء بدخان، وأطلق اليوم على الزمان فإن ظهور الدخان كان في أيامٍ وشهور كثيرة.

والدخان: ما يتصاعد عند إيقاد الحَطب، وهو تشبيه بليغ، أي بمثل دخان.

والكلام يؤذن بأن هذا الدخان المرتقب حادث قريب الحصول، فالظاهر أنه حَدث يكون في الحياة الدنيا، وأنه عقاب للمشركين.