فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَٱرۡتَقِبۡ يَوۡمَ تَأۡتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٖ مُّبِينٖ} (10)

{ فَارْتَقِبْ } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لأن كونهم في شك ولعب ، يقتضي ذلك والمعنى فانتظر لهم يا محمد .

{ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } وقيل المعنى احفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء الخ وقد اختلف في هذا الدخان المذكور في الآية متى يأتي فقيل إنه من أشراط الساعة ، وإنه يمكث في الأرض أربعين يوما .

وقد ثبت في الصحيح أنه من جملة العشر الآيات التي تكون قبل قيام الساعة وقيل إنه أمر قد مضى ، " وهو ما أصاب قريشا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان الرجل يرى بين السماء والأرض دخانا " وهذا ثابت في الصحيحين وغيرهما وبه قال الفراء والزجاج ، وقيل أنه يوم فتح مكة .

وقال ابن قنيبة : فيه وجهان ، الأول : أنه في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر ويرتفع الغبار الكثير ، ويظلم الهواء وذلك يشبه الدخان ، ويقولون كان بيننا أمر ارتفع له دخان ، ولهذا يقال للسنة المجدبة : الغبراء ( الثاني ) : أن العرب يسمون الشيء الغالب بالدخان ، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه اظلمت عيناه ، ويرى الدنيا كالمملوءة من الدخان .

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود ( أن قريشا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطأوا عن الإسلام فقال : اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام ، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع فأنزل الله هذه الآية فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل يا رسول الله استسق الله المطر فاستسقى لهم فسقوا فأنزل الله { إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ } فانتقم الله منهم يوم بدر فقد مضى البطشة والدخان واللزام ) ، وقد روي عن ابن مسعود نحو هذا من غير وجه وروي نحوه عن جماعة من التابعين كمقاتل ومجاهد وعن أبي مليكة قال دخلت على ابن عباس فقال : ( لم أنم هذه الليلة فقلت لم ؟ قال طلع الكوكب فخشيت أن يطرق الدخان ) {[1479]} قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح وكذا صححه السيوطي ولكن ليس فيه أنه سبب نزول الآية{[1480]} .

وقد عرفناك أنه لا منافاة بين كون هذه الآية نازلة في الدخان الذي كان يتراءى لقريش من الجوع ، وبين كون الدخان من آيات الساعة وعلاماتها وأشراطها ، فقد وردت أحاديث صحاح وحسان وضعاف بذلك . وليس فيها أنه سبب نزول الآية فلا حاجة بنا إلى التطويل بذكرها .

والواجب التمسك بما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن دخان قريش عند الجهد والجوع هو سبب النزول ، وبهذا تعرف اندفاع ترجيح من رجح أنه الدخان الذي من أشراط الساعة كابن كثير في تفسيره وغيره في غيره ، وهكذا يندفع قول من قال : إنه الدخان الكائن يوم فتح مكة متمسكا بما أخرجه ابن سعد عن أبي هريرة قال : ( كان يوم فتح مكة دخان ، وهو قول الله فارتقب الخ ) فإن هذا لا يعارض ما في الصحيحين على تقدير صحة إسناده مع احتمال أن يكون أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ظن من وقوع ذلك الدخان يوم الفتح أنه المراد بالآية ، ولهذا لم يصرح بأنه سبب نزولها .


[1479]:الطبري25 /113.
[1480]:ذكره البخاري بألفاظ مختلفة 394/8-420-440 ورواه مسلم أيضا.