التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ} (181)

استئناف جملة { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } لمناسبة ذكر البخل لأنّهم قالوه في معرض دفع الترغيب في الصدقات ، والذين قالوا ذلك هم اليهود ، كما هو صريح آخر الآية في قوله : { وقتلهم الأنبياء بغير حق } ، وقائل ذلك : قيل هو حُيَيُّ بنُ أخْطَبَ اليهودي ، حَبر اليهود ، لمّا سمع قوله تعالى : { من ذا الذي يقرض اللَّه قرضاً حسناً } [ البقرة : 245 ] فقال حُيَيّ : إنّما يستقرض الفقيرُ الغنيَّ ، وقيل : قاله فِنحَاص بن عَازورَاء لأبي بكر الصديق بسبب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر إلى يهود قَيْنُقاع يدعوهم ، فأتى بيت المِدْرَاس فوجد جماعة منهم قد اجتمعوا على فنحاص حَبْرِهم ، فدعاه أبو بكر ، فقال فنحاص : ما بنا إلى الله من حاجة ، وإنّه إلينا لفقير ولو كان غنيّاً لما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم ، فغضب أبو بكر ولطم فنحاص وهمّ بقتله ، فنزلت الآية . وشاع قولهما في اليهود .

وقوله : { لقد سمع الله } تهديد ، وهو يؤذن بأنّ هذا القول جراءة عظيمة ، وإن كان القصد منها التعريض ببطلان كلام القرآن ، لأنهم أتوا بهاته العبارة بدون محاشاة ، ولأنّ الاستخفاف بالرسول وقرآنه إثم عظيم وكفر على كفر ، ولذلك قال تعالى : { لقد سمع } المستعمل في لازم معناه ، وهو التهديد على كلام فاحش ، إذ قد علم أهل الأديان أنّ الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فليس المقصود إعلامهم بأنّ الله علم ذلك بل لازمه وهو مقتضى قوله : { سنكتب ما قالوا } . والمراد بالكتابة إمّا كتابته في صحائف آثامهم إذ لا يخطر ببال أحد أن يكتب في صحائف الحسنات ، وهذا بعيد ، لأنّ وجود علامة الاستقبال يؤذّن بأنّ الكتابة أمر يحصل فيما بعد . فالظاهر أنّه أريد من الكتابة عدم الصفح عنه ولا العفو بل سيثبت لهم ويجازون عنه فتكون الكتابة كناية عن المحاسبة . فعلى الأول يكون وعيداً وعلى الثاني يكون تهديداً .

وقرأ الجمهور { سنكتب ما قالوا وقتلَهم } بنون العظمة من ( سنكتب ) وبنصب اللام من ( قتلهم ) على أنّه مفعول ( نكتب ) و ( نقول ) بنون . وقرأه حمزة : سيُكْتب بياء الغائب مضمومة وفتح المثناة الفوقية مبنيّاً للنائب لأنّ فاعل الكتابة معلوم وهو الله تعالى ، وبرفع اللام من ( قتلُهم ) على أنه نائب الفاعل . ( ويقول ) بياء الغائب ، والضمير عائد الى اسم الجلالة في قوله : { إن الله } .

وعطف قوله : { وقتلهم الأنبياء بغير حق } زيادة في مذمّتهم بذكر مساوي أسلافهم ، لأنّ الذين قتلوا الأنبياء هم غير الذين قالوا : { إن الله فقير ونحن أغنياء } بل هم من أسلافهم ، فذكر هنا ليدلّ على أنّ هذه شنشنة قديمة فيهم ، وهي الاجتراء على الله ورسله ، واتّحاد الضمائر مع اختلاف المعاد طريقة عربية في المحامد والمذامّ التي تناط بالقبائل .

قال الحجّاج في خطبته بعد يوم دَيْر الجَماجم يخاطب أهل العراق : ألستم أصحابي بالأهواز حين أضمَرْتُم الشرّ واستبطنتم الكفر إلى أن قال : ثمّ يوم الزاوية وما يوم الزاوية . . إلخ ، مع أنّ فيهم من مات ومن طرأ بعد .

وقوله : { ونقول ذوقوا عذاب الحريق } عُطف أثرُ الكتب عَلى الكتب أي سيجازون عن ذلك بدون صفح ، { ونقول ذوقوا } وهْو أمر الله بأن يَدخلوا النار .

والذوق حقيقته إدراك الطُّعوم ، واستعمل هنا مجازاً مرسلاً في الإحساس بالعذاب فعلاقته الإطلاق ، ونكتته أنّ الذوق في العرف يستتبع تكرّر ذلك الإحساس لأنّ الذوق يتبعه الأكل ، وبهذا الاعتبار يصحّ أن يكون « ذوقوا » استعارة .

وقد شاع في كلام العرب إطلاق الذوق على الإحساس بالخير أو بالشرّ ، وورد في القرآن كثيراً .