اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ} (181)

في كيفية النظم وجهانِ :

الأول : أنه - تعالى - لما أمر المكلَّفين ببَذْلِ النفسِ والمالِ في سبيل اللَّهِ - فيما تقدم - وبالغ في تقريرِ ذلك ، قالت الكفارُ : إنه - تعالى - لما طلب الإنفاقَ في تحصيلِ مطلوبِهِ كان فقيراً عاجزاً ، والفقر على اللَّهِ مُحَالٌ ، فَطَلَبُه للمال من عبيده مُحَالٌ ، وذلك يدل على كذب مُحَمَّدٍ في إسناد هذا الطلب إلى الله .

الثاني : أن أمة موسى كانوا إذا أرادوا التقرُّبَ إلى اللَّهِ تعالى بأموالهم ، كانت تجيء نارٌ من السّماء فتحرقها ، فلما طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم بذْلَ المال في سبيل الله قالوا له : لو كنت نبياً لما طلبتَ الأموال لهذا الغرض ؛ فإنه - تعالى - ليس بفقيرٍ حَتَّى يحتاجَ - في إصلاح دينِهِ - إلى أموالنا ، فلو كان يطلب أموالَنا لجاءت نارٌ من السماء فتحرقها ، فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لستَ بنبيٍّ .

قوله : { قَالُواْ إِنَّ } العامل في " إنَّ هو " قاَلُوا " ف " إنَّ " وما في حيِّزها منصوب المحل ب " قَالُوا " لا بالقول ، وأجاز أبو البقاء أن تكون المسألة من باب التنازع ، أعني بين المصدر ، وهو " قَوْلَ " وبين الفعلِ وهو " قَالُوا " تَنَازعَا في " إنَّ " وما في حيِّزها ، قال : " ويجوز أن يكون معمولاً ل " قَوْلَ " المضاف ؛ لأنه مصدر ، وهذا يُخَرَّج على قول الكوفيين في إعمال الأول ، وهو قولٌ ضعيفٌ ، ويزداد هنا ضَعفاً بأنَّ الثاني فِعْل ، والأول مصدرٌ ، وإعمال الفعل أَقْوَى " .

وظاهر كلامه أن المسألة من التنازع ، وإنما الضعف عنده من جهة إعمالِ الأولِ ، فلو قدَّرْنا إعمال الثاني لكان ينبغي أن يجوز عنده ، لكنه يمنع من ذلك مانع آخر ، وهو أنه إذا احتاج الثاني إلى ضمير المتنازع فيه أخذه ، ولا يجوز حذفه ، وهو - هنا - غير مذكور ، فدلَّ على أنها ليستْ عنده من التنازع إلا على قول الكوفيين ، وهو ضعيفٌ كما ذكر .

وانظر كيف أكَّدوا الجملةَ المشتملة على ما أسندوه إليه - تعالى - وإلى عدم ذلك فيما أسندوه لأنفسهم كأنه عند الناس أمر معروف .

فصل

قال الحسنُ ومجاهدٌ : لما نزل قوله : { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً }{[6238]}

[ البقرة : 245 ] . قالت اليهودُ : إنَّ اللَّهَ فقيرٌ يستقرض منا ، ونحن أغنياء . وذكر الحسن أنَّ قائل هذه المقالة هو حُيَيّ بن أخْطَبَ .

" وقال عكرمةُ والسدِّيُّ ومقاتلٌ ومحمدُ بنُ إسحاقَ : كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قَيْنُقَاع ؛ يدعوهم إلى الإسلام ، وإلى أقام الصلاة ، وإيتاء الزَّكَاةِ ، وأن يُقْرِضوا الله قَرْضاً حسناً ، فدخَلَ أبو بكر - ذات يومٍ - بيت مِدْراسهم ، فوجد كثيراً من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم ، يقال له : فنحاص بن عازوراء ، وكان من علمائهم ، ومعه حَبْرٌ آخَرُ ، يقال له : أشيع ، فقال أبو بكرٍ لفنحاصٍ : اتَّقِ اللَّهَ وأَسْلِم ؛ فوالله إنك لتَعلم أن محمداً رسولُ الله ، قد جاءكم بالحق من عند الله ، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة ، فآمِنْ وصَدِّقْ ، وأَقْرِض اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُدْخِلْكَ الجَنَّةَ ، ويضاعفْ لك الثَّوابَ ، فقال فنحاص : يا أبا بكر ، تزعم أن ربنا يستقرض من أموالنا ، وما يستقرض إلا الفقيرُ من الغنيّ ، فإن كان كما تقول حقاً فإن الله - إذَنْ - فقيرٌ ونحن أغنياء ، وأنه ينهاكم عن الرِّبَا ويُعْطِينا ، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا - يعني في قوله : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] فغضب أبو بكرٍ ، وضرب وَجْه فنحاص ضربةً شديدةً ، وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عَدُوَّ الله . فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمدُ ، انظر ما صنع بي صاحبُك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ، ما حملك ما صنعتَ ؟ قال يا رسولَ اللَّهِ ، إن عدوّ الله قال قولاً عظيماً ، زعم أن الله فقير وهم أغنياء ، فغضبت لله ، وضربت وجهه ، فجحد ذلك فِنْحاصٌ ، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية رَدًّا على فنحاصٍ ، وتصديقاً لأبي بكر{[6239]} " .

واعلم أنَّ ظاهر الآية يدل على أن قائل هذا القول كانوا جماعةً ؛ لقوله تعالى : { الَّذِينَ قَالُواْ } وأما ما روي عن فِنْحاص فلا يدل على أن غيره لم يَقُلْ ذلك ، والكتاب يشهد بأن القائلين جماعة ، فيجب القطع بذلك .

قوله : { سَنَكْتُبُ } قرأ حمزة بالياء ، مبنياً لما لم يُسَمَّ فاعله{[6240]} ، و " ما " وصلتها قائم مقام الفاعل ، و " قَتْلُهم " - بالرفع - عَطْفاً على الموصول ، و " يَقُولُ " - بياء الغيبة - والمعنى : سيحفظ عليهم . والباقون بالنون للمتكلم العظيم ، ف " ما " منصوبة المحل ، و " قَتْلَهُمْ " بالنصب عَطْفاً عليها ، و " نَقُولُ " بالنون - أيضاً - والمعنى : سنأمر الحفظةَ بالكتابةِ .

وقرأ طلحة بن مُصَرَِّف " سَتُكْتَبُ " - بتاء التأنيث{[6241]} - على تأويل " مَا قَالُوا " ب " مَقَالَتُهُمْ " . وقرأ ابن مسعود - وكذلك هي في مصحفه - سنكتب ما يقولون{[6242]} ويقال . والحسنُ والأعرج " سَيَكْتُب " - بالغيبة -{[6243]} مبنياً للفاعل ، أي : الله تعالى : أو الملك .

و " ما " - في جميع ذلك - يجوز أن تكون موصولة اسمية - وهو الظاهر - وحذف العائدُ لاستكمال شروطِ الْحَذْفِ ، تقديره : سنكتب الذي يقولونه - ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : قولهم - ويراد به - إذ ذاك - المفعول به ، أي : مقولهم ، كقولهم : ضَرْب الأمير .

قوله : { وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } أي : ونكتب قتلهم ، أي : رضاهم بالقتل ، والمراد قتل أسلافهم الأنبياء ، ولكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم ، حسّنَ رجل عند الشعبي قتلَ عثمانَ ، فقال الشعبي : قد شركت في دمه ، فجعل الرضا بالقتل قتلاً ، قال القرطبيُّ : وهذه مسألة عظمى ، حيثُ يكون الرضا بالمعصية معصية ، وقد روى أبو داود عن العُرس بن عُمَيْرة الكِنديّ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الأرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا - أو فَأنْكَرَهَا - كَمَنْ غَابَ عَنْهَا ، ومَنْ غَابَ فَرَضِيَها كَانَ كَمَن شَهِدَها " {[6244]} وتقدم الكلام على إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء الحاضرين .

والفائدةُ في ضَمِّ أنهم قتلوا الأنبياء إلى وصفهم الله تعالى بالفقر بيان أن جَهْلهم ليس مخصوصاً بهذا الوقت ، بل هم - منذ كانوا - مُصِرُّون على الجهالات والحماقات .

ثم قال : { وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } أي : النار ، وهو بمعنى المُحْرِق - كالأليم بمعنى المُؤلم - وهذا القول يحتمل أن يقال لهم عند الموت ، أو عند الحشر ، وإن لم يكن هناك قَوْلٌ .

فإن قيل : إنهم أوردوا سؤالاً ، وهو أن من طلب المالَ من غيره كان فقيراً ، فلو طلب اللَّهُ المالَ من عبيده لكان فقيراً ، وذلك مُحَالٌ ، فوجب أن يقال : إنه لم يَطْلبِ المال من عبيده ، وذلك قادحٌ في كونه صلى الله عليه وسلم صادقاً في ادِّعاء النُّبوةِ ، فهذا هو شُبْهَتُهم ، فأين الجوابُ ؟ وكيف يحسن ذِكر الوعيد قبل ذلك الجوابِ عَنْهَا ؟ .

فالجوابُ : إن فرَّعْنا على قول أهل السُّنَّةِ والجماعة قلنا : يفعل الله ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فلا يبعد أن يأمر اللَّهُ عبيده ببذل الأموال ، مع كونه تعالى أغنى الأغنياء . وأما على قول المعتزلة - فإنه تعالى يُراعي المصالح - فلا يَبْعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد ؛ فإن إنفاق المال يوجب زوال حُبِّ المالِ عن القلب ، وذلك من أعظم المنافع ، وتتفرع عليه مصالحُ كثيرةٌ :

منها : أن إنفاقه سببٌ للبقاء المخلد في دار الثَّوابِ .

ومنها : أن يصير القلبُ - بذلك الإنفاقِ - فارغاً من حُبِّ ما سوى اللَّهِ تَعَالَى .

ومنها : أنه لو ترك الإنفاق لبقي حُبُّ المالِ في قلبه ، فتتألم روحه لمفارقته .


[6238]:تقدم.
[6239]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/441 ـ 442) عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/186) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم. والخبر في "السيرة النبوية" لابن هشام (2/207 ـ 208).
[6240]:انظر: السبعة 220 ـ 221، والحجة 3/115، وحجة القراءات 184، والعنوان 82، وإعراب القراءات 1/124، وشرح الطيبة 4/180، وشرح شعلة 328، وإتحاف 1/496.
[6241]:انظر: المحرر الوجيز 1/548، والبحر المحيط 3/136، والدر المصون 2/273.
[6242]:انظر: السابق.
[6243]:انظر البحر المحيط 3/136، والدر المصون 2/273، وإتحاف 1/496.
[6244]:أخرجه أبو داود (2/528) كتاب الملاحم باب الأمر والنهي رقم (4345) والطبراني في "الكبير" (17/139) عن العرس بن عبيدة وذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" (5537) وعزاه أيضا لليهقي عن أبي هريرة.