الأول : أنه - تعالى - لما أمر المكلَّفين ببَذْلِ النفسِ والمالِ في سبيل اللَّهِ - فيما تقدم - وبالغ في تقريرِ ذلك ، قالت الكفارُ : إنه - تعالى - لما طلب الإنفاقَ في تحصيلِ مطلوبِهِ كان فقيراً عاجزاً ، والفقر على اللَّهِ مُحَالٌ ، فَطَلَبُه للمال من عبيده مُحَالٌ ، وذلك يدل على كذب مُحَمَّدٍ في إسناد هذا الطلب إلى الله .
الثاني : أن أمة موسى كانوا إذا أرادوا التقرُّبَ إلى اللَّهِ تعالى بأموالهم ، كانت تجيء نارٌ من السّماء فتحرقها ، فلما طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم بذْلَ المال في سبيل الله قالوا له : لو كنت نبياً لما طلبتَ الأموال لهذا الغرض ؛ فإنه - تعالى - ليس بفقيرٍ حَتَّى يحتاجَ - في إصلاح دينِهِ - إلى أموالنا ، فلو كان يطلب أموالَنا لجاءت نارٌ من السماء فتحرقها ، فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لستَ بنبيٍّ .
قوله : { قَالُواْ إِنَّ } العامل في " إنَّ هو " قاَلُوا " ف " إنَّ " وما في حيِّزها منصوب المحل ب " قَالُوا " لا بالقول ، وأجاز أبو البقاء أن تكون المسألة من باب التنازع ، أعني بين المصدر ، وهو " قَوْلَ " وبين الفعلِ وهو " قَالُوا " تَنَازعَا في " إنَّ " وما في حيِّزها ، قال : " ويجوز أن يكون معمولاً ل " قَوْلَ " المضاف ؛ لأنه مصدر ، وهذا يُخَرَّج على قول الكوفيين في إعمال الأول ، وهو قولٌ ضعيفٌ ، ويزداد هنا ضَعفاً بأنَّ الثاني فِعْل ، والأول مصدرٌ ، وإعمال الفعل أَقْوَى " .
وظاهر كلامه أن المسألة من التنازع ، وإنما الضعف عنده من جهة إعمالِ الأولِ ، فلو قدَّرْنا إعمال الثاني لكان ينبغي أن يجوز عنده ، لكنه يمنع من ذلك مانع آخر ، وهو أنه إذا احتاج الثاني إلى ضمير المتنازع فيه أخذه ، ولا يجوز حذفه ، وهو - هنا - غير مذكور ، فدلَّ على أنها ليستْ عنده من التنازع إلا على قول الكوفيين ، وهو ضعيفٌ كما ذكر .
وانظر كيف أكَّدوا الجملةَ المشتملة على ما أسندوه إليه - تعالى - وإلى عدم ذلك فيما أسندوه لأنفسهم كأنه عند الناس أمر معروف .
قال الحسنُ ومجاهدٌ : لما نزل قوله : { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً }{[6238]}
[ البقرة : 245 ] . قالت اليهودُ : إنَّ اللَّهَ فقيرٌ يستقرض منا ، ونحن أغنياء . وذكر الحسن أنَّ قائل هذه المقالة هو حُيَيّ بن أخْطَبَ .
" وقال عكرمةُ والسدِّيُّ ومقاتلٌ ومحمدُ بنُ إسحاقَ : كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قَيْنُقَاع ؛ يدعوهم إلى الإسلام ، وإلى أقام الصلاة ، وإيتاء الزَّكَاةِ ، وأن يُقْرِضوا الله قَرْضاً حسناً ، فدخَلَ أبو بكر - ذات يومٍ - بيت مِدْراسهم ، فوجد كثيراً من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم ، يقال له : فنحاص بن عازوراء ، وكان من علمائهم ، ومعه حَبْرٌ آخَرُ ، يقال له : أشيع ، فقال أبو بكرٍ لفنحاصٍ : اتَّقِ اللَّهَ وأَسْلِم ؛ فوالله إنك لتَعلم أن محمداً رسولُ الله ، قد جاءكم بالحق من عند الله ، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة ، فآمِنْ وصَدِّقْ ، وأَقْرِض اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُدْخِلْكَ الجَنَّةَ ، ويضاعفْ لك الثَّوابَ ، فقال فنحاص : يا أبا بكر ، تزعم أن ربنا يستقرض من أموالنا ، وما يستقرض إلا الفقيرُ من الغنيّ ، فإن كان كما تقول حقاً فإن الله - إذَنْ - فقيرٌ ونحن أغنياء ، وأنه ينهاكم عن الرِّبَا ويُعْطِينا ، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا - يعني في قوله : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] فغضب أبو بكرٍ ، وضرب وَجْه فنحاص ضربةً شديدةً ، وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عَدُوَّ الله . فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمدُ ، انظر ما صنع بي صاحبُك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ، ما حملك ما صنعتَ ؟ قال يا رسولَ اللَّهِ ، إن عدوّ الله قال قولاً عظيماً ، زعم أن الله فقير وهم أغنياء ، فغضبت لله ، وضربت وجهه ، فجحد ذلك فِنْحاصٌ ، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية رَدًّا على فنحاصٍ ، وتصديقاً لأبي بكر{[6239]} " .
واعلم أنَّ ظاهر الآية يدل على أن قائل هذا القول كانوا جماعةً ؛ لقوله تعالى : { الَّذِينَ قَالُواْ } وأما ما روي عن فِنْحاص فلا يدل على أن غيره لم يَقُلْ ذلك ، والكتاب يشهد بأن القائلين جماعة ، فيجب القطع بذلك .
قوله : { سَنَكْتُبُ } قرأ حمزة بالياء ، مبنياً لما لم يُسَمَّ فاعله{[6240]} ، و " ما " وصلتها قائم مقام الفاعل ، و " قَتْلُهم " - بالرفع - عَطْفاً على الموصول ، و " يَقُولُ " - بياء الغيبة - والمعنى : سيحفظ عليهم . والباقون بالنون للمتكلم العظيم ، ف " ما " منصوبة المحل ، و " قَتْلَهُمْ " بالنصب عَطْفاً عليها ، و " نَقُولُ " بالنون - أيضاً - والمعنى : سنأمر الحفظةَ بالكتابةِ .
وقرأ طلحة بن مُصَرَِّف " سَتُكْتَبُ " - بتاء التأنيث{[6241]} - على تأويل " مَا قَالُوا " ب " مَقَالَتُهُمْ " . وقرأ ابن مسعود - وكذلك هي في مصحفه - سنكتب ما يقولون{[6242]} ويقال . والحسنُ والأعرج " سَيَكْتُب " - بالغيبة -{[6243]} مبنياً للفاعل ، أي : الله تعالى : أو الملك .
و " ما " - في جميع ذلك - يجوز أن تكون موصولة اسمية - وهو الظاهر - وحذف العائدُ لاستكمال شروطِ الْحَذْفِ ، تقديره : سنكتب الذي يقولونه - ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : قولهم - ويراد به - إذ ذاك - المفعول به ، أي : مقولهم ، كقولهم : ضَرْب الأمير .
قوله : { وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } أي : ونكتب قتلهم ، أي : رضاهم بالقتل ، والمراد قتل أسلافهم الأنبياء ، ولكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم ، حسّنَ رجل عند الشعبي قتلَ عثمانَ ، فقال الشعبي : قد شركت في دمه ، فجعل الرضا بالقتل قتلاً ، قال القرطبيُّ : وهذه مسألة عظمى ، حيثُ يكون الرضا بالمعصية معصية ، وقد روى أبو داود عن العُرس بن عُمَيْرة الكِنديّ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الأرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا - أو فَأنْكَرَهَا - كَمَنْ غَابَ عَنْهَا ، ومَنْ غَابَ فَرَضِيَها كَانَ كَمَن شَهِدَها " {[6244]} وتقدم الكلام على إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء الحاضرين .
والفائدةُ في ضَمِّ أنهم قتلوا الأنبياء إلى وصفهم الله تعالى بالفقر بيان أن جَهْلهم ليس مخصوصاً بهذا الوقت ، بل هم - منذ كانوا - مُصِرُّون على الجهالات والحماقات .
ثم قال : { وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } أي : النار ، وهو بمعنى المُحْرِق - كالأليم بمعنى المُؤلم - وهذا القول يحتمل أن يقال لهم عند الموت ، أو عند الحشر ، وإن لم يكن هناك قَوْلٌ .
فإن قيل : إنهم أوردوا سؤالاً ، وهو أن من طلب المالَ من غيره كان فقيراً ، فلو طلب اللَّهُ المالَ من عبيده لكان فقيراً ، وذلك مُحَالٌ ، فوجب أن يقال : إنه لم يَطْلبِ المال من عبيده ، وذلك قادحٌ في كونه صلى الله عليه وسلم صادقاً في ادِّعاء النُّبوةِ ، فهذا هو شُبْهَتُهم ، فأين الجوابُ ؟ وكيف يحسن ذِكر الوعيد قبل ذلك الجوابِ عَنْهَا ؟ .
فالجوابُ : إن فرَّعْنا على قول أهل السُّنَّةِ والجماعة قلنا : يفعل الله ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فلا يبعد أن يأمر اللَّهُ عبيده ببذل الأموال ، مع كونه تعالى أغنى الأغنياء . وأما على قول المعتزلة - فإنه تعالى يُراعي المصالح - فلا يَبْعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد ؛ فإن إنفاق المال يوجب زوال حُبِّ المالِ عن القلب ، وذلك من أعظم المنافع ، وتتفرع عليه مصالحُ كثيرةٌ :
منها : أن إنفاقه سببٌ للبقاء المخلد في دار الثَّوابِ .
ومنها : أن يصير القلبُ - بذلك الإنفاقِ - فارغاً من حُبِّ ما سوى اللَّهِ تَعَالَى .
ومنها : أنه لو ترك الإنفاق لبقي حُبُّ المالِ في قلبه ، فتتألم روحه لمفارقته .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.