غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ} (181)

176

ثم شرع في حكاية شبه الطاعنين في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . وذلك أنه لما أمر بالإنفاق في سبيل الله قالوا : لو كان محمد صادقاً في أن الله تعالى يطلب منا المال فهو إذن فقير ونحن أغنياء ، لكن الفقر على الله محال فمحمد غير صادق . وأيضاً لو كان نبياً لكان إنما يطلب المال لأجل أن تجيء نار من السماء فتحرقه كما كان في الأزمنة السالفة ، فلما لم يفعل ذلك عرفنا أنه ليس بنبي . فهذا بيان النظم وليس في الآية تعيين القائلين إلا أن العلماء نسبوا هذا القول إلى اليهود لعنهم الله لقولهم في موضع آخر { يد الله مغلولة }[ المائدة :64 ] عنوا أنه بخيل . وذلك الجهل يناسب هذا الجهل ، ولأن التشبيه غالب عليهم ، والقائل بالتشبيه لا يمكنه إثبات كونه تعالى قادراً على كل المقدورات ، وإذا عجز عن إثبات هذا الأصل عجز عن بيان أنه غني ، ولما روي عكرمة ومحمد بن إسحق والسدي ومقاتل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً .

فقال فنحاص عن عازوراء وهو من علمائهم - أتزعم أن ربنا يستقرضنا أموالنا فهو إذن فقير ونحن أغنياء ، فغضب أبو بكر ولطمه في وجهه وقال : لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك . فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك . فقال رسول الله صلى الله لأبي بكر " ما الذي حملك على ما صنعت " فقال : يا رسول الله إن عدوّ الله قال هكذا . فجحد ذلك فنحاص فنزلت هذه الآية تصديقاً لأبي بكر . وأيضاً إن موسى لما طلب منهم الجهاد ببذل النفوس قالوا له : اذهب أنت وربك فقاتلا . فلا يبعد أن محمداً صلى الله عليه وسلم لما طلب منهم الأموال قالوا له : لو كان الإله غنياً فأعي حاجة إلى أموالنا . ثم إن القائل لو كان فنحاصاً وحده فإنما يستقيم قوله : { لقد سمع الله قول الذين قالوا } لأن أتباع الرجل والمقتدين به حكمهم حكمه . ثم إنه تعالى لم يجبهم عن شبهتهم . أما على قواعد أهل السنة فبأن يقول يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ، فلا يبعد أن يأمر عبيدة ببذل الأموال مع كونه أغنى الأغنياء . وأما على قوانين المعتزلة فبأن في هذا التكليف فوائد منها : إزالة حب المال عن القلب ، ومنها التوسل إلى الثواب المخلد ، ومنها تسخير البعض للبعض فبذلك ترتبط أمور التمدن وتنتظم أحوال صلاح المعاش والمعاد وإنما لم يجب لكثرة ورودها في القرآن { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون }[ آل عمران :92 ]{ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافا كثيرة }

[ البقرة :245 ]{ وما تنفقوا من خير فلأنفسكم }[ البقرة :272 ] ولأن وجوب الوجود عبارة عن الغنى المطلق حتى لا يحتاج في ذاته ولا في شيء من صفاته ولا بجهة من جهاته إلى ما سوى ذاته . فمن اعترف بوجوب وجوده ثم شك في كمال غناه في وجوده فقد عاد بالنقض على موضوعه فلا يستحق الجواب عند أولي الألباب ، وإنما يستأهل صنوفاً من العتاب وضروباً من العذاب . فلهذا قال على جهة الوعيد { سنكتب ما قالوا } في صحائف الحفظة ، أو نستحفظه ونثبته في علمنا لا ننساه كما يثبت المكتوب فلا ينسى . وفي التفسير الكبير : سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يبقى على لسان الأمة إلى يوم القيامة . ثم عطف عليه قتلهم الأنبياء ليدل على أنهم كما لو يقدروا الله حق قدره حتى نسبوا إليه ما نسبوه ، فكذلك لم يقضوا حقوق الأنبياء ففعلوا بهم ما فعلوا .

{ ونقول ذوقوا عذاب الحريق } وهو من أسماء جهنم . " فعيل " بمعنى " مفعول " كالأليم بمعنى المؤلم . أو سميت باسم صاحبها أي ذات حرقة . والمعنى : ينتقم منهم فيقول لهم ذوقوا عذاب النار كما أذقتم المسلمين جرع الغصص . وهذا القول يحتمل أن يقال عند الموت ، أو عند الحشر ، أو عند قراءة الكتب . ويحتمل أن يكون كناية عن الوعيد وإن لم يكن ثمة قول .

/خ189