التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ خَٰمِدُونَ} (29)

والصيحة : المرة من الصياح ، بوزن فعلَة ، فوصفها بواحدة تأكيد لمعنى الوحدة لئلا يتوهم أن المراد الجنس المفرد من بين الأجناس ، و { صَيْحَةً } منصوب على أنه خبر { كَانَتْ } بعد الاستثناء المفرّغ ، ولحاق تاء التأنيث بالفعل مع نصب { صَيْحَةً } مشير إلى أن المستثنى منه المحذوف العقوبة أو الصيحة التي دلت عليها { صيحة واحِدةً ، } أي لم تكن العقوبة أو الصيحة إلا صيحةً من صفتها أنها واحدة إلى آخره . وقرأ أبو جعفر برفع { صَيْحَةٌ } على أن « كان » تامة ، أي ما وقعت إلا صيحة واحدة .

ومجيء « إذا » الفجائية في الجملة المفرعة على { إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً واحدة } لإِفادة سرعة الخمود إليهم بتلك الصيحة . وهذه الصيحة صاعقة كما قال تعالى حكاية عن ثمود : { فأخذتهم الصيحة } [ الحجر : 73 ] .

والخمود : انطفاء النار ، استعير للموت بعد الحياة المليئة بالقوة والطغيان ، ليتضمن الكلام تشبيه حال حياتهم بشبوب النار وحال موتهم بخمود النار فحصل لذلك استعارتان إحداهما صريحة مصرحة ، وأخرى ضمنية مكنية ورمزها الأُولى ، وهما الاستعارتان اللتان تضمنهما قول لبيد :

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه *** يَحور رماداً بعد إذ هو ساطع

وتقدم قوله تعالى : { حتى جعلناهم حصيداً خامدين } في سورة الأنبياء } ( 15 ) ، فكان هذا الإِيجاز في الآية بديعاً لحصول معنى بيت لبيد في ثلاث كلمات . وهذا يشير إلى حدث عظيم حدث بأهل أنطاكية عقب دعوة المرسلين وهو كرامة لشهداءِ أتباع عيسى عليه السلام ، فإن كانت الصيحة صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود كان الذين خمدوا بها جميعَ أهل القرية فلعلهم كانوا كفاراً كلهم بعد موت الرجل الذي وعظهم وبعد مغادرة الرسل القرية . ولكن مثل هذا الحادث لم يذكر التاريخ حدوثه في أنطاكية ، فيجوز أن يهمل التاريخ بعض الحوادث وخاصة في أزمنة الاضطراب والفتنة .