محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ خَٰمِدُونَ} (29)

{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } أي : ما كانت العقوبة إلا صيحة واحدة من السماء هلكوا بها ، { فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } :ميتون كالنار الخامدة . رمزا إلى أن الحي كالنار الساطعة في الحركة والالتهاب ، والميت كالرماد . كما قال لبيد{[6323]} :

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه*** يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

تنبيهات :

الأول- قال ابن كثير : روي عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية ، وإن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عند المسيح عيسى عليه السلام كما نص عليه قتادة وغيره . وهو الذي لم يذكر عن أحد من متأخري المفسرين غيره . وفي ذلك نظر من الوجوه :

أحدها - أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل ، لا من جهة المسيح عليه السلام ، كما قال تعالى : { إذ أرسلنا إليهم اثنين } ولو كان هؤلاء من الحواريين ، لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام والله أعلم . ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم :{ إن أنتم إلا بشر مثلنا } .

الثاني - أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم ، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح ، ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللائي فيهن بطاركة . وهن : القدس ؛لأنها بلد المسيح ، وأنطاكية ؛لأنها أول مدينة آمنت بالمسيح عن أخر أهلها ، والإسكندرية ؛لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البطارقة والمطارنة والأساقفة والشمامسة والرهابين . ثم رومية ؛ لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأطده . ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البطرك من / رومية إليها - كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم - كسعد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين - فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت ، فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله ، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم .

الثالث - أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة . وقد ذكر أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه وغير واحد من السلف ، ( أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة ، لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم ، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين ) . ذكروه عند قوله تعالى :{[6324]} { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } ، فعلى هذا يتعين أن أهل هذه القرية المذكورة في القرآن ، قرية أخرى غير أنطاكية ، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا ، أو تكون أنطاكية - إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة - مدينة أخرى غير المشهورة المعروفة ، فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ، ولا قبل ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم . انتهى كلام ابن كثير .

وأقول : إن من محاسن التنزيل الكريم وبلاغته الخارقة ، هو الإيجاز في الأنباء التي يقصها ، والإشارة منها إلى روحها وسرها ، حرصا على الثمرة من أول الأمر ، واقتصارا على موضع الفائدة ، وبعدا عن مشرب القصاص والمؤرخين ؛ لأن القصد من قصصه الاعتبار والذكرى . وما من حاجة إلى تسمية تلك المبهمات كائنة ما كانت . . ثم إن المفسرين رحمهم الله عنوا بالبحث والأخذ والتلقي . فكان من سلف منهم يرون فيما يرون أن من العلم تفصيل مجملات التنزيل وإبانة مبهماته ، حتى جعل ذلك فنا برأسه وألف فيه مؤلفات .

ولا بأس في التوسع من العلم والازدياد منه بأي طريقة كانت ، لا سيما وقد رفع عنا الحرج بالتحدث عن بني إسرائيل ، إلا أنه يؤاخذ من يجزم بتعيين مبهم ما ، إن كان جزمه من غير طريق القواطع ، فإن القاطع هو ما تواتر ، أو صح سنده إلى المعصوم ، صحة لا مغمز فيها . وهذا مفقود في الأكثر ، ومنه بحثنا المذكور . فإن تعين أن البلدة أنطاكية وتسمية الرسل ، إنما روي موقوفا ومنقطعا ، وفي بعض إسناده متهمون ؛ ولذا قد يرد على من يقطع بذلك ما لا مخرج له منه . فالمفسر أحسن أحواله أن يمشي مع التنزيل ، إجمالا فيما جمله وتفصيلا فيما فصله ، ولا يأخذ من إيضاح مبهماته إلا بما قام عليه قاطع ، أو كان لا ينبذه العلم الصحيح ، وإلا فليعرض عن تسويد وجوه الصحف بذلك ، بل عن تشويهها . والذي حمل السلف على قص ما نحن فيه ، هو تلقيهم له عن مثل كعب ووهب ، وموافقة من في طبقتهما لهما فيه ، هذا أولا . وثانيا شهرة بلدة أنطاكية في ذلك العهد ، لا سيما وقد أسس فيها معبدا أحد رسل عيسى عليه السلام . ثالثا ما جرى في أنطاكية لما قدم ملك الرومان وتهدد كل من أبى عبادة الأوثان بالقتل ، وكان في مقدمة الآبين رجل مقدم في المؤمنين ، فأراده على الشرك فأبى وجهر بالتوحيد ، فأرسله من أنطاكية موثقا و أمر بأن يطعم للوحوش ، فألقي في رومية إلى أسدين كبيرين فابتلعاه ، ولما قدم لهما استبشر وتهلل لنيل الشهادة في سبيل الله . وكذلك يؤثر عن رجل مؤمن كان يدافع عن المؤمنين في عهد الرومانيين لغيرته وصلاحه ، فطلب منه الحاكم أن يرتد فأبى وجهر بوجوب عبادة الإله الواحد ، ونبذ عبادة من لا يضر ولا ينفع ، فهدده بأن يضربه من الرأس إلى القدم ، فأجاب بأنه مستبشر بنعمة الله وكرامته الأبدية . ثم أمر به الحاكم فقتل مع رفقته . والشواهد في هذا الباب لا تحصى ، معروفة لمن أعار نظره جانبا مما كتب في تواريخ مبدأ ظهور الأديان ، وما كان يلاقيه من أعدائه ومقاوميه . فللقصة الكريمة هذه مصدقات لا تحصى . رابعا شهرة المرسلين برسل عيسى عليه السلام ، وكانوا انبثوا في البلاد لمحو الوثنية والكف عن الكبائر والشرور التي كانت عليها دولة الرومان وقتئذ . هذا وما ذكره ابن كثير من وقوف عذاب الاستئصال بعد نزول التوراة يحتاج إلى قاطع . وإلا ، فقد خربت كثير من البلاد الأثيمة بعدها ، وتدمرت بتسليط الله من شاء عليها . والصيحة / أعم من أن تكون صيحة سماوية أو صيحة أرضية . وهي صيحة من سلط عليهم للانتقام منهم ، حتى أباد ملكهم وقهر صولتهم ومحا من الوجود سلطانهم ، وإن كان عذاب الصيحة ظاهره الأول . وبالجملة فنحن يكفينا من النبإ الاعتبار به وفهمه مجملا ، وأما تعيينه بوقت ما ، وفئة ما ، فهو الذي ينشأ منه ما ينشأ . وما بنا من حاجة إلى الزيادة عن الاعتبار ، وتخصيص ما لا قاطع عليه .

الثاني- ذكر الرازي في قوله تعالى : { إذ أرسلنا } لطيفة ، إن صح أن الرسل المنوه بهم هم رسل عيسى عليه السلام ، وهي أن إرساله لهم كإرساله تعالى ؛ لأنه بإذنه وأمره ، وبذلك تتمة التسلية للنبي صلوات الله عليه ، لصيرورتهم في حكم الرسل .

ثم قال : وهذا يؤيد مسألة فقهية ، وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل ، وكيل الموكل لا وكيل الوكيل . حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه ، وينعزل إذا عزله الموكل الأول انتهى .

الثالث - في قوله تعالى : { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى } تبصرة للمؤمنين وهداية لهم ليكونوا في النصح باذلين جهدهم كما فعل .


[6323]:من قصيدته التي مطلعها: بلينا وما تبلى النجوم الطوالع*** وتبقى الجبال بعدنا والمصانع يحور: يرجع ويتغير.وكل شيء تغير من حال إلى حال، فقد حار(الشعر والشعراء ص236).
[6324]:[28/القصص/43]