التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{فَطَوَّعَتۡ لَهُۥ نَفۡسُهُۥ قَتۡلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُۥ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (30)

قوله : { فطوّعت له نفسه قتل أخيه } دلّت الفاء على التفريع والتعقيب ، ودلّ ( طَوّع ) على حدوث تردّد في نفس قابيل ومغالبة بين دافع الحَسد ودافع الخشية ، فعلمنا أنّ المفرّع عنه محذوف ، تقديره : فتردّد مَليّاً ، أو فترصّد فُرصاً فَطوّعت له نفسه . فقد قيل : إنّه بقي زماناً يتربّص بأخيه ، ( وطوّع ) معناه جعله طائعاً ، أي مكَّنه من المطوّع . والطوع والطواعية : ضدّ الإكراه ، والتطويع : محاولة الطوع . شُبّه قتل أخيه بشيء متعاص عن قابيل ولا يطيعه بسبب معارضة التعقّل والخشيةِ . وشبّهت داعية القتل في نفس قابيل بشخص يعينه ويذلّل له القتل المتعاصي ، فكان ( طوّعت ) استعارة تمثيلية ، والمعنى الحاصل من هذا التمثيل أنّ نفس قابيل سَوّلت له قتل أخيه بعد ممانعة .

وقد سُلك في قوله : { فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله } مسلكُ الإطناب ، وكان مقتضى الإيجاز أن يحذف { فطوّعت له نفسه قتلَ أخيه } ويقتصر على قوله { فقتَلَه } لكن عدل عن ذلك لقصد تفظيع حالة القاتل في تصوير خواطره الشرّيرة وقساوة قلبه ، إذ حدّثه بقتل من كان شأنه الرحمة به والرفق ، فلم يكن ذلك إطناباً .

ومعنى { فأصبح من الخاسرين } صار ، ويكون المراد بالخسارة هنا خسارة الآخرة ، أي صار بذلك القتل ممّن خسر الآخرة ، ويجوز إبقاء ( أصبح ) على ظاهرها ، أي غدا خاسراً في الدّنيا ، والمراد بالخسارة ما يبدو على الجاني من الاضطراب وسوء الحالة وخيبة الرجاءَ ، فتفيد أنّ القتل وقع في الصّباح .