البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَطَوَّعَتۡ لَهُۥ نَفۡسُهُۥ قَتۡلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُۥ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (30)

{ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله } قال ابن عباس : بعثته على قتله .

وقال أيضاً هو ومجاهد : شجعته .

وقال قتادة : زينت له .

وقال الأخفش : رخصت .

وقال المبرد : من الطوع ، والعرب تقول : طاع له كذا أي أتاه طوعاً .

وقال ابن قتيبة : تابعته وانقادت له .

وقال الزمخشري : وسعته له ويسرته ، من طاع له المرتع إذا اتسع .

وهذه أقوال متقاربة في المعنى ، وهو فعل من الطوع وهو الانقياد ، كأن القتل كان ممتنعاً عليه متعاصياً .

وأصله : طاع له قتل أخيه أي انقاد له وسهل ، ثم عدى بالتضعيف فصار الفاعل مفعولاً والمعنى : أنّ القتل في نفسه مستصعب عظيم على النفوس ، فردّته هذه النفس اللحوح الأمارة بالسوء طائعاً منقاداً حتى أوقعه صاحب هذه النفس .

وقرأ الحسن وزيد بن علي والجراح ، والحسن بن عمران ، وأبو واقد : فطاوعته ، فيكون فاعل فيه الاشتراك نحو : ضاربت زيداً ، كان القتل يدعوه بسبب الحسد إصابة قابيل ، أو كان النفس تأبى ذلك ويصعب عليها ، وكل منهما يريد أن يطيعه الآخر ، إلى أن تفاقم الأمر وطاوعت النفس القتل فوافقته .

وقال الزمخشري : فيه وجهان : أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل ، وأن يراد أن قتل أخيه ، كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع ، وله لزيادة الربط كقولك : حفظت لزيد ماله انتهى .

فأما الوجه الثاني فهو موافق لما ذكرناه ، وأما الوجه الأول فقد ذكر سيبويه : ضاعفت وضعفت مثل : ناعمت ونعمت .

وقال : فجاءوا به على مثال عاقبته ، وقال : وقد يجيء فاعلت لا يريد بها عمل اثنين ، ولكنهم بنوا عليه الفعل كما بنوه على أفعلت ، وذكر أمثلة منها عافاه الله .

وهذا المعنى وهو أنّ فاعل بمعنى فعل ، أغفله بعض المصنفين من أصحابنا في التصريف : كابن عصفور ، وابن مالك ، وناهيك بهما جمعاً واطلاعاً ، فلم يذكر أنّ فاعل يجيء بمعنى فعل ، ولا فعل بمعنى فاعل .

وقوله : وله لزيادة الربط ، يعني : في قوله فطوعت له نفسه ، يعني : أنه لو جاء فطوعت نفسه قتل أخيه لكان كلاماً تاماً جارياً على كلام العرب ، وإنما جيء به على سبيل زيادة الربط للكلام ، إذ الربط يحصل بدونه .

كما إنك لو قلت : حفظت مال زيد كان كلاماً تاماً فقتله ، أخبر تعالى أنه قتله وتكلم المفسرون في أشياء من كيفيته ، ومكان قتله ، وعمره حين قتل ، ولهم في ذلك اختلاف ، ولم تتعرض الآية لشيء من ذلك .

{ فأصبح من الخاسرين } أصبح : بمعنى صار .

وقال ابن عطية : أقيم بعض الزمان مقام كله ، وخص الصباح بذلك لأنه بدء النهار والانبعاث إلى الأمور ومظنة النشاط ، ومنه قول الربيع : أصبحت لا أحمل السلاح ولا .

وقول سعد : ثم أصبحت بنو سعد تعززني على الإسلام ، إلى غير ذلك من استعمال العرب لما ذكرناه انتهى .

وهذا الذي ذكره من تعليل كون أصبح عبارة عن جميع أوقاته ، وأقيم بعض الزمان مقام كله بكون الصباح خص بذلك لأنه بدء النهار ، ليس بجيد .

ألا ترى أنهم جعلوا أضحى وظل وأمسى وبات بمعنى صار ، وليس منها شيء بدء النهار ؟ فكما جرت هذه مجرى صار كذلك أصبح لا للعلة التي ذكرها ابن عطية .

قال ابن عباس : خسر في الدنيا بإسخاط والديه وبقائه بغير أخ ، وفي الآخرة بإسخاط ربه وصيرويته إلى النار .

وقال الزجاج : من الخاسرين للحسنات .

وقال القاضي أبو يعلى : من الخاسرين أنفسهم بإهلاكهم إياها .

وقال مجاهد : خسرانه أن علقت إحدى رجلي القاتل لساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت عليه في الصيف حظيرة من نار وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج .

قال القرطبي : ولعلّ هذا يكون عقوبته على القول بأنه عاص لا كافر ، فيكون خسرانه في الدنيا .

وقيل : من الخاسرين باسوداد وجهه ، وكفره باستحلاله ما حرم من قتل أخيه ، وفي الآخرة بعذاب النار .

وثبت في الحديث : « ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ، وذلك لأنه أول من سن القتل » .

وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال : إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة في العذاب عليه شطر عذابهم .