الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَطَوَّعَتۡ لَهُۥ نَفۡسُهُۥ قَتۡلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُۥ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (30)

فيه أربع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " فطوعت له نفسه " . أي سولت وسهلت نفسه عليه الأمر وشجعته وصورت له أن قتل أخيه طوع سهل له{[5475]} يقال : طاع الشيء أي سهل وانقاد . وطوعه فلان له أي سهله . قال الهروي : طوعت وأطاعت{[5476]} واحد ؛ يقال : طاع له كذا إذا أتاه طوعا . وقيل : طاوعته نفسه في قتل أخيه ، فنزع الخافض فانتصب . وروي أنه جهل كيف يقتله فجاء إبليس بطائر - أو حيوان غيره - فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل ، قاله ابن جريج ومجاهد وغيرهما . وقال ابن عباس وابن مسعود : وجده نائما فشد رأسه بحجر وكان ذلك في ثور - جبل بمكة - قاله ابن عباس . وقيل : عند عقبة حراء ، حكاه محمد بن جرير الطبري . وقال جعفر الصادق : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم . وكان لهابيل يوم قتله قابيل عشرون سنة . ويقال : إن قابيل كان يعرف القتل بطبعه ؛ لأن الإنسان وإن لم ير القتل فإنه يعلم بطبعه أن النفس فانية لحكن إتلافها ، فأخذ حجرا فقتله بأرض الهند . والله أعلم . ولما قتله ندم فقعد يبكي عند رأسه إذ أقبل غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ثم حفر له حفرة فدفنه ، ففعل القاتل بأخيه كذا . والسوءة يراد بها العورة ، وقيل : يراد بها جيفة المقتول ، ثم إنه هرب إلى أرض عدن من اليمن ، فأتاه إبليس وقال : إنما أكلت النار قربان أخيك لأنه كان يعبد النار ، فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك ، فبنى بيت نار ، فهو أول من عبد النار فيما قيل . والله أعلم . وروي عن ابن عباس أنه لما قتله وآدم بمكة اشتاك الشجر ، وتغيرت الأطعمة ، وحمضت الفواكه ، وملحت المياه ، واغبرت الأرض ، فقال آدم عليه السلام : قد حدث في الأرض حدث ، فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل . وقيل : إن قابيل هو الذي انصرف إلى آدم ، فلما وصل إليه قال له : أين هابيل ؟ فقال : لا أدري كأنك وكلتني بحفظه . فقال له آدم : أفعلتها ؟ ! والله إن دمه لينادي ، اللهم العن أرضا شربت دم هابيل . فروي أنه من حينئذ ما شربت أرض دما . ثم إن آدم بقي مائة سنة لم يضحك ، حتى جاءه ملك فقال له : حياك الله يا آدم وبياك . فقال : ما بياك ؟ قال : أضحكك . قاله مجاهد{[5477]} وسالم بن أبي الجعد . ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة - وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له شيثا ، وتفسيره هبة الله ، أي خلفا من هابيل . وقال مقاتل : كان قبل قتل قابيل هابيل السباع والطيور تستأنس بآدم{[5478]} ، فلما قتل قابيل هابيل هربوا{[5479]} ، فلحقت الطيور بالهواء ، والوحوش بالبرية ، ولحقت{[5480]} السباع بالغياض . وروي أن آدم لما تغيرت الحال قال :

تغيرت البلاد ومن عليها *** فوجه الأرض مُغْبَرٌّ قَبيحُ

تغيَّر كل ذي طعم ولون *** وقلَّ بشاشةَ الوجهُ المليحُ

في أبيات كثيرة ذكرها الثعلبي وغيره . قال ابن عطية : هكذا هو الشعر بنصب " بشاشة " وكف التنوين . قال القشيري وغيره قال ابن عباس : ما قال آدم الشعر ، وإن محمدا والأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء ، لكن لما قتل هابيل رثاه آدم وهو سرياني ، فهي مرثية بلسان السريانية أوصى بها إلى ابنه شيث وقال : إنك وصيي فاحفظ مني هذا الكلام ليتوارث ، فحفظت منه إلى زمان يعرب بن قحطان ، فترجم عنه يعرب بالعربية{[5481]} وجعله شعرا{[5482]} .

الثانية : روي من حديث أنس قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال : ( يوم الدم فيه حاضت حواء وفيه قتل ابن آدم أخاه ) . وثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل ) . وهذا نص على التعليل ، وبهذا الاعتبار يكون على إبليس كفل من معصية كل من عصى بالسجود ، لأنه أول من عصى به ، وكذلك كل من أحدث في دين الله ما لا يجوز من البدع والأهواء ، قال صلى الله عليه وسلم : ( من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) . وهذا نص في الخير والشر . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون ) . وهذا كله صريح ، ونص صحيح في معنى الآية ، وهذا ما لم يتب الفاعل من تلك المعصية ؛ لأن آدم عليه السلام كان أول من خالف في أكل ما نهي عنه ، ولا يكون عليه شيء من أوزار من عصى بأكل ما نهي عنه ولا شربه من بعده بالإجماع ؛ لأن آدم تاب من ذلك وتاب الله عليه ، فصار كمن لم يجن . ووجه آخر : فإنه أكل ناسيا على الصحيح من الأقوال ، كما بيناه في " البقرة " {[5483]} والناسي غير آثم ولا مؤاخذ .

الثالثة : تضمنت هذه الآية البيان عن حال الحاسد ، حتى أنه قد يحمله حسده على إهلاك نفسه بقتل أقرب الناس إليه قرابة ، وأمسه به رحما ، وأولاهم بالحنو عليه ودفع الأذية عنه .

الرابعة : قوله تعالى : " فأصبح من الخاسرين " أي ممن خسر حسناته . وقال مجاهد : علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه إلى الشمس حيثما دارت ، عليه في الصيف حظيرة من نار ، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج . قال ابن عطية : فإن صح هذا فهو من خسرانه الذي تضمنه قوله تعالى : " فأصبح من الخاسرين " وإلا فالخسران يعم خسران الدنيا والآخرة .

قلت : ولعل هذا يكون عقوبته على القول بأنه عاص لا كافر ، فيكون المعنى " فأصبح من الخاسرين " أي في الدنيا . والله أعلم .


[5475]:من ج، و، ز، هـ.
[5476]:في ك: وطاوعت ، وفي ز،و، هـ: وطاعت.
[5477]:مجاهد ساقط من ج، ز، و.
[5478]:في ك: بابن آدم.
[5479]:كذا في الأصول.
[5480]:من ك.
[5481]:في ج،ز، و، هـ: بالعبرانية وهو خطأ.
[5482]:قال الألوسي: ذكر بعض علماء العربية أن في ذلك الشعر لحنا، أو إقواء، أو ارتكاب ضرورة، والأولى عدم نسبته إلى يعرب أيضا لما فيه من الركاكة الظاهرة. وقال أبو حيان في البحر: ويروى بنصب "بشاشة" من غير تنوين على التمييز ورفع " الوجه المليح" وليس بلحن.
[5483]:راجع ج 1 ص 306، وهذا هو اللائق بالعصمة النبوية.