اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَطَوَّعَتۡ لَهُۥ نَفۡسُهُۥ قَتۡلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُۥ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (30)

قوله " فَطَوَّعَتْ " الجمهورُ على " طَوَّعَتْ " بتشديد الواو من غير ألف بمعنى " سَهلت وبعثت " أي : جَعَلْته سهلاً ، تقديره : بعثت له نفسه أنَّ قتل أخيه طَوْعاً سهل عليه{[11512]} .

قال الزَّمَخْشَرِي{[11513]} : " وسَّعَتْه ويسَّرَتْه من طاعَ له المرْتَعُ إذ اتَّسع " انتهى .

وقال مجاهد : شجّعْتُه .

وقال قتادة : زيَّنْتُ له نفسه ، والتَّضْعيف فيه للتَّعْدِية ؛ لأنَّ الأصل : طَاعَ له قَتْلُ أخيه ، أي : انْقَادَ من الطَّواعِية ، فعُدّي بالتَّضعيف ، فصار الفاعلُ مَفْعُولاً كحاله مع الهَمْزَة .

وقرأ الحسن ، وزَيْد بن علي وجماعة{[11514]} كثيرة " فَطَاوعتْ " ، وأبدى الزَّمَخْشَرِيُّ{[11515]} فيها احتِمَالَيْن :

أحدهما : أن يكُون ممَّا جاء فيه " فَاعَلَ " لغير مُشاركة بين شَيْئيْن ، بل بمعنى " فَعَّل " نحو : ضَاعَفْتُه وضَعَّفْته ، وناعَمْتُهُ ونَعَّمْتُه ، وهذان المثالان من أمثلة سِيبويه{[11516]} .

قال : " فجاءوا به على مثال عاقَبْتُه " .

قال : وقد تجيء : " فاعَلْتُ " لا تريدُ بها عمل اثْنَيْن ، ولكنَّهم بَنَوْا عليه الفِعْل كما بَنَوْه على " أفْعَلْتُ " ، وذكر أمْثِلَة منها : " عَافَاهُ اللَّه " ، وقَلَّ مَنْ ذكر أن " فَاعَل " يجيءُ بمعنى " فعّلْتُ " .

والاحتمال الثاني : أن تكون على بَابِهَا من المُشَاركة ، وهو أنَّ قَتْل أخيه كأنه دَعَا نَفْسَه إلى الإقْدَام عليه فَطَاوعته انتهى .

وإيضاحُ{[11517]} العبارة في ذلك أنْ يُقَال : جعَل القَتْل يدعو إلى نفسه لأجل الحسد الذي لَحِقَ قَابِيل ، وجعلت النَّفسُ تَأبى ذلك وتَشْمَئِزُّ منه ، فكُلٌّ منهما - أعني القَتْلَ والنَّفْسَ - كأنه يريد من صاحِبِه أن يُطِيعَه إلى أن غَلَبَ القَتْلُ النَّفسَ فطاوعته ، و " له " مُتعلِّق ب " طوَّعت " على القِرَاءتَيْن .

قال الزَّمَخْشَرِيُّ{[11518]} : و " له " لزيادة الرَّبْط ، كقولك : حَفِظْتُ لزيْد ماله . يعني أنَّ الكلام تامٌّ بِنَفْسه .

ولو قيل : فَطَوَّعَتْ نفسُه قَتْل أخيه ، كما كان كَذَلك في قولك " حَفِظْتُ مالَ زَيْد " فأتى بهذه " اللاَّم " لقوة رَبْط الكلام .

قال أبو البقاء{[11519]} : وقال قوم : طاوَعَتْ تتعدَّى بغير " لاَم " ، وهذا خَطَأٌ ؛ لأنَّ التي تتعدى بغير اللاَّم تتعدى لِمَفْعُول واحد ، وقد عَدَّاهُ هنا إلى قَتْلِ أخِيه .

وقيل : التَّقْدِير : طاوَعَتْه نفسه قَتْل أخيه ، فزاد " اللاَّم " وحذف " عَلَى " ، أي : زاد اللاَّم في المفعول به وهو " الهَاء " ، وحذف [ " على " الجارَّة ل " قَتْل أخِيه " ] .

قالت المُعْتَزِلَةُ{[11520]} : لو كان خالق الكلِّ هو الله لكان ذلك التَّزيين والتَّطْويع مُضافاً إلى الله - تعالى - لا إلى النَّفْس .

والجواب : أنَّ الأفعال لما استَنَدَت إلى الدَّوَاعي ، وكان فاعل تِلْك الدواعي هو الله فكان فاعل الأفْعَال كلها هو الله - تعالى - ثم قال تعالى " فَقَتَلَهُ " ، قيل : لم يَدْر قابيل كيف يَقْتُل هَابِيل .

قال ابن جُرَيْج{[11521]} : فتمثَّل له إبليس ، فأخذ طَائِراً ووضَع رأسَه على حَجَرٍ ، ثم شَدَخَ له حجراً آخر ، وقَابيل يَنْظُر إلَيْه فعلَّمه القتل ، فرضَخَ قابيل رَأسَ هَابِيل بين حَجَرَيْن ، قيل : قتله وهو مُسْتَسْلِمٌ ، وقيل : اغْتَالَه وهو نَائِمٌ{[11522]} .

وكان لهابيل يوم قُتل عشرون سنة ، واخْتَلَفُوا في موضع قَتْله :

قال ابن عبَّاس{[11523]} - رضي الله عنهما - على جبل ثَوْر{[11524]} ، وقيل : عند عقبة حراء ، وقيل : بالبَصْرَة عند موضع المَسْجد الأعْظَم{[11525]} ، فلمَّا قتله تركه بالعَرَاء ولم يدر ما يصنع به ؛ لأنَّه كان أول ميِّت على وَجْهِ الأرْض من بَنِي آدم ، وقصده السِّباع فَحَمَلَه في جراب على ظَهْرِه أرْبَعِين يَوْماً{[11526]} .

وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : سَنَة حتى أروح{[11527]} ، وعَكَفَت عليه الطَّيْر والسِّبَاع تَنْظُر متى يرمي به فَتَأكله ثم قال : { فَأصْبَح مِن الخَاسِرِين } : الحائرين .

قال ابن عبَّاسٍ{[11528]} - رضي الله عنهما - خسر دُنْيَاه وآخِرته أما الدُّنْيَا : فإنه أسْخَطَ والديه ، وَبقِي مذمُوماً إلى يوم القِيَامة ، وأما الآخِرة : فهي العِقَابُ الدَّائِم العَظِيم .

قيل : إنَّ قابيل لما قتل أخاه [ هابيل ]{[11529]} ، هرب إلى عدن من أرْضِ اليمن ، فأتاه إبْليس فقال له : إنَّما أكلت النَّارُ قُرْبَان هَابِيل ؛ لأنَّه كان يَخْدُم النَّار ويعبُدُها ، فإن عَبدت أنت أيضاً النَّار حصل مَقْصُودك ، فبنى بيت نَارٍ وهو أوَّل من عبد النَّار{[11530]} ، ورُوِي أنَّه لما قَتَلَهُ اسْوَدَّ جَسَدُهُ وكان أبْيَض ، فَسَألَهُ آدم عن أخِيه ، فقال : ما كُنْت عليه وَكِيلاً ، فقال : بل قَتَلْته ، ولذلك اسوَدَّ جَسَدُك ، ومكث آدَمُ بَعْدَه مائة سنة لم يضَحْكَ قطّ .

قال الزمخشري{[11531]} : روي أنَّه رَثَاهُ بِشِعْر ، وهو كَذِب بحت والأنبياء معْصُومون عن الشِّعر{[11532]} روى أنس - رضي الله عنه - قال : " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال : " يوم الدَّم فيه حاضَت حَوَّاء ، وفيه قتل ابنُ آدم أخَاه{[11533]} " .


[11512]:يقال: طاع الشيء يطوع سهل وانقاد. وطوعه فلان له أي سهله. قال الهروي: طوعت وأطاعت واحد؛ يقال: طاع له كذا إذا أتاه طوعا. وقيل: طاوعته نفسه في قتل أخيه؛ فنزع الخافض فانتصب. ينظر: القرطبي 6/91.
[11513]:ينظر: الكشاف (1/626).
[11514]:وقرأ بها الحسن بن عمران وأبو واقد كما في المحور الوجيز 20/180، والبحر المحيط 3/479، والدر المصون 2/512، والكشاف 1/626.
[11515]:ينظر: الكشاف 1/626.
[11516]:ينظر: الكتاب 2/239.
[11517]:في ب: إفصاح.
[11518]:ينظر: الكشاف (1/626).
[11519]:ينظر: الإملاء 1/214.
[11520]:ينظر: تفسير الرازي 11/164.
[11521]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/536) عن ابن جريج وعن مجاهد بنحوه وعزاه القرطبي لمجاهد وابن جريج ونسبه للأكثر 6/91.
[11522]:ذكره الطبري في "تفسيره"(4/536) فقال: وقال بعضهم. فذكره.
[11523]:ينظر: تفسير القرطبي 6/91.
[11524]:ينظر: تفسير البغوي 2/30.
[11525]:قاله جعفر الصادق. ينظر: القرطبي 6/92.
[11526]:ينظر: تفسير البغوي 2/30.
[11527]:أخرجه الطبري في "تفسيره"(4/538) عن عطية العوفي.
[11528]:ينظر: تفسير الرازي 11/164.
[11529]:سقط في أ.
[11530]:ينظر: تفسير القرطبي 6/92، والرازي 11/164.
[11531]:ينظر: الكشاف 1/626.
[11532]:وصدق صاحب الكشاف فيما قال، فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق بالحمقى من المعلمين، فكيف ينسب إلى من جعل الله علمه حجة على الملائكة. ينظر: الرازي 11/164.
[11533]:أخرجه ابن مردويه عن أنس كما في "كشف الخفاء" (2/556).