مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَطَوَّعَتۡ لَهُۥ نَفۡسُهُۥ قَتۡلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُۥ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (30)

ثم قال تعالى { فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين }

قال المفسرون : سهلت له نفسه قتل أخيه . ومنهم من قال شجعته ، وتحقيق الكلام أن الإنسان إذا تصور من القتل العمد العدوان كونه من أعظم الكبائر ، فهذا الاعتقاد يصير صارفا له عن فعله ، فيكون هذا الفعل كالشيء العاصي المتمرد عليه الذي لا يعطيه بوجه البتة ، فإذا أوردت النفس أنواع وساوسها صار هذا الفعل سهلا عليه ، فكأن النفس جعلت بوساوسها العجيبة هذا الفعل كالمطيع له بعد أن كان كالعاصي المتمرد عليه . فهذا هو المراد بقوله { فطوعت له نفسه قتل أخيه } قالت المعتزلة : لو كان خالق الكل هو الله تعالى لكان ذلك التزيين والتطويع مضافا إلى الله تعالى لا إلى النفس .

وجوابه : أنه لما أسندت الأفعال إلى الدواعي ، وكان فاعل تلك الدواعي هو الله تعالى فكان فاعل الأفعال كلها هو الله تعالى .

ثم قال تعالى : { فقتله } قيل : لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل ، فظهر له إبليس وأخذ طيرا وضرب رأسه بحجر ، فتعلم قابيل ذلك منه ، ثم إنه وجد هابيل نائما يوما فضرب رأسه بحجر فمات . وعن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها » وذلك أنه أول من سن القتل .

ثم قال تعالى : { فأصبح من الخاسرين } قال ابن عباس : خسر دنياه وآخرته ، أما الدنيا فهو أنه أسخط والديه وبقي مذموما إلى يوم القيامة ، وأما الآخرة فهو العقاب العظيم . قيل : إن قابيل لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن ، فأتاه إبليس وقال : إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها ، فإن عبدت النار أيضا حصل مقصودك ، فبنى بيت نار وهو أول من عبد النار . وروي أن هابيل قتل وهو ابن عشرين سنة ، وكان قتله عند عقبة حراء ، وقيل بالبصرة في موضع المسجد الأعظم ، وروي أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض ، فسأله آدم عن أخيه ، فقال ما كنت عليه وكيلا ، فقال بل قتلته ، ولذلك اسود جسدك ، ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك قط . قال صاحب الكشاف : يروى أنه رثاه بشعر . قال وهو كذب بحت ، وما الشعر إلا منحول ملحون ، والأنبياء معصومون عن الشعر ، وصدق صاحب الكشاف فيما قال . فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق بالحمقى من المعلمين ، فكيف ينسب إلى من جعل الله علمه حجة على الملائكة .