التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَكَيۡفَ أَخَافُ مَآ أَشۡرَكۡتُمۡ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمۡ أَشۡرَكۡتُم بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ عَلَيۡكُمۡ سُلۡطَٰنٗاۚ فَأَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ أَحَقُّ بِٱلۡأَمۡنِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (81)

عُطفت جملة { وكيف أخاف } على جملة : { ولا أخاف ما تشركون به } [ الأنعام : 80 ] ليبيّن لهم أنّ عدم خوفه من آلهتهم أقلّ عجباً من عدم خوفهم من الله تعالى ، وهذا يؤذن بأنّ قومه كانوا يعرفون الله وأنَّهم أشركوا معه في الإلهية غيره فلذلك احتجّ عليهم بأنّهم أشركوا بربّهم المعتَرف به دون أن يُنَزّل عليهم سلطاناً بذلك .

و { كيف } استفهام إنكاري ، لأنَّهم دعَوه إلى أن يخاف بأس الآلهة فأنكر هو عليهم ذلك وقلب عليهم الحجَّة ، فأنكر عليهم أنَّهم لم يخافوا الله حين أشركوا به غيره بدون دليل نصبه لهم فجَمَعَت ( كيف ) الإنكارَ على الأمرين .

قالوا وفي قوله : { ولا تخافون أنَّكم أشركتم } يجوز أن تكون عاطفة على جملة : { أخاف ما أشركتم } فيدخل كلتاهما في حكم الإنكار ، فخوفُه من آلهتهم مُنكر ، وعدم خوفهم من الله منكر .

ويجوز أن تكون الواو للحال فيكون محلّ الإنكار هو دعوتَهم إيّاه إلى الخوف من آلهتهم في حال إعراضهم عن الخوف ممَّن هو أعظم سلطاناً وأشدّ بطشاً ، فتفيد ( كيف ) مع الإنكار معنى التعجيب على نحو قوله تعالى : { أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم } [ البقرة : 44 ] . ولا يقتضي ذلك أنّ تخويفهم إيَّاه من أصنامهم لا ينكَر عليهم إلاّ في حال إعراضهم عن الخوف من الله لأنّ المقصود على هذا إنكار تحميق ومقابلة حال بحال ، لا بيان ما هو منكر وما ليس بمنكر ، بقرينة قوله في آخره { فأي الفريقين أحقّ بالأمن } . وهذا الوجه أبلغ .

و { ومَا أشركتُم } موصولة والعائد محذوف ، أي ما أشركتُم به . حذف لدلالة قوله : { ولا أخاف ما تشركون به } [ الأنعام : ] عليه ، والموصول في محلّ المفعول ( به ) ، ل { ما أشركتم } .

وفي قوله : { أنَّكم أشركتم } حُذفت ( من ) المتعلِّقة ب { تخافون } لاطِّراد حذف الجارّ مع ( أنّ ) ، أي من إشراككم ، ولم يقل : ولا تخافون الله ، لأنّ القوم كانوا يعرفون الله ويخافونه ولكنَّهم لم يخافوا الإشراك به . { وما لم ينزّل به عليكم سلطاناً } موصول مع صلته مفعول { أنَّكم أشركتم } .

ومعنى { لم يُنزّل به عليكم } لم يخبركم بإلهية الأصنام التي عبدتموها ولم يأمركم بعبادتها خبَراً تعلمون أنَّه من عنده فلذلك استعار لذلك الخبر التنزيل تشبيهاً لعظم قدره بالرفعة ، ولبلوغه إلى من هم دون المخبِر ، بنزول الشيء العالي إلى أسفلَ منه .

والسلطان : الحجّة لأنَّها تتسلَّط على نفس المخاصم ، أي لم يأتكم خبر منه تجعلونه حجَّة على صحَّة عبادتكم الأصنام .

والفاء في قوله : { فأي الفريقين } تفريع على الإنكار ، والتعجيب فَرع عليهما استفهاماً ملجئاً إلى الاعتراف بأنَّهم أوْلى بالخوف من الله من إبراهيم من آلهتهم . والاستفهام ب { أيّ } للتقرير بأنّ فريقه هو وحده أحقّ بالأمن .

والفريق : الطائفة الكثيرة من النّاس المتميِّزة عن غيرها بشيء يجمعها من نسب أو مكان أو غيرهما ، مشتقّ من فَرَق إذا ميّز . والفِرْقَة أقلّ من الفريق ، وأراد بالفريقين هنا قومه ونفسه ، فأطلق على نفسه الفريق تغليباً ، أو أراد نفسه ومن تبعه إن كان له أتباع ساعتئذٍ ، قال تعالى : { فآمن له لوط } [ العنكبوت : 26 ] ، أو أراد من سيوجد من أتباع ملَّته ، كما يناسب قوله { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } [ الأنعام : 82 ] .

والتعريف في { الأمن } للجنس ، وهو ضدّ الخوف ، وجملة { إن كنتم تعلمون } مستأنفة ابتدائية ، وجواب شرطها محذوف دلّ عليه الاستفهام ، تقديره : فأجيبوني ، وفيه استحثاث على الجواب .