اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَكَيۡفَ أَخَافُ مَآ أَشۡرَكۡتُمۡ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمۡ أَشۡرَكۡتُم بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ عَلَيۡكُمۡ سُلۡطَٰنٗاۚ فَأَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ أَحَقُّ بِٱلۡأَمۡنِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (81)

قد تقدَّم الكلامُ على " كيف " في أوَّل البقرة [ آية 28 ] ، و " ما " يجوز فيها ثلاثة أوجهٍ ، أعني كونها مَوْصُولةً اسميةً ، أو نكرة موصوفة ، أو مصدريَّة ، والعائد على الأوَّلَيْنِ محذوف ، أي : ما أشركتموه باللَّهِ ، أو إشراككم باللَّهِ غيره .

وقوله : " وَلاَ تَخَافُون " يجوز في هذه الجملة أن تكون نَسَقاً على " أخَاف " فتكون داخِلَةً في حيِّز التَّعَجُّبِ والإنكار ، وأن تكون حاليةً ، أي : وكيف أخاف الذي تشركون حال كونكم أنتم غير خائفين عاقبة إشراككم ، ولا بُدَّ من إضْمَارِ مبتدأ قبل المضارع المنفي ب " لا " لما تقدَّم غير مرَّةٍ ، أيك كيف أخاف الذي تشركون ، أو عاقبة إشراككم حال كونكم آمنين من مَكْرِ اللَّهِ الذي أشركتم به غيره ، وهذه الجملة وإن لم يكن فيها رَابِطٌ يعود على ذِي الحالِ لا يَضُرُّ ذلك ، لأن الواو بنفسها رابطة .

وانظر إلى حُسْنِ هذا النَّظْمِ السَّوِيِّ ، حيث جعل متعلّق الخَوْفِ الواقع منه الأصنام ، ومتعلق الخوف الواقع منهم إشراكهم باللَّهِ غيره تَرْكاً لأن يعادل الباري -تعالى- لأصنامهم لو أبْرَزَ التركيب على هذا ، فقال : " ولا تخافون اللَّه " مُقَابَلَةً لقوله : " وكيف أخافُ معبوداتكم " . وأتى ب " ما " في قوله : " ما أشركتم " وفي قوله : { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً } إلاَّ أنهم غير عقلاء ؛ إذ هي جماد وأحْجَارٌ وخشبٌ كانوا يَنْحِتُونَهَا ويعبدونها .

وقوله : " مَا لَمْ يُنَزِّلْ " مفعول ل " أشركتم " ، وهي موصولة اسميَّة أو نكرة ، ولا تكون مَصْدريَّةً لفساد المعنى ، و " به " و " عليكم " ، متعلقان ب " يُنَزِّلْ " ويجوز في " عَلَيْكُمْ " وجه آخر ، وهو أن يكون حالاً ، من " سُلْطَاناً " ؛ لأنَّهُ لو تَأخَّر عنه لجاز أن يكون صِفَةً .

وقرا الجمهور{[14390]} : " سُلْطَاناً " ساكن اللام حيث وقع ، وقُرِئَ{[14391]} بِضَمِّهَا ، وهل هي لغة مُسْتَقِلَّةٌ ، فيثبت فيها بناء فعل بضم الفاء والعين ، أو هي إتباع حركةٍ لأخرى .

ومعنى الآية : وكيف أخَافُ الأصنام التي لا قُدْرَةَ لها على النَّفْعِ والضُّرِّ ولا تُبْصرُ ولا تَسْمَعُ ، وأنتم لا تخافون من الشِّرْكِ الذي هو أعظم الذنوب ، وليس لكم حُجَّةٌ على ذلك .

وقوله : { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ } .

أي : ما لكم تنكرون عَلَيَّ الأمْنَ في موضع الأمن ، ولا تنكرون على أنفسكم الأمْنَ في موضع الخوفِ فقال : { فَأيُّ الفريقَيْنِ أحَقُّ } ولم يَقُل : " فأيُّنَا أحَقُّ نَحْنُ أم أنتم " إلزاماً لِخَصْمِهِ بما يدَّعيهِ عليه ، واحترازاً من تَزْكِيَة نفسه ، فعدل عنه إلى قوله : { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ } ، يعني : فريق المشركين أم الموحدين ؟ وهذا بخلاف قول الآخر : [ الكامل ]

فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعلَمَنْ *** أيِّي وأيُّكَ فَارِسُ الأحْزَابِ{[14392]}

فَلِلِّهِ فَصَاحَة القُرْآن وآدابه .

وقوله : " إنْ كُنْتُمْ " جوابه محذوف ، أي : فأخبروني ، ومتعل‍ّق العلم محذوف ، ويجوز ألاَّ يُرَادَ له مفعول ؛ أي : إن كنتم من ذوي العلم .


[14390]:ينظر: الدر المصون 3/112، البحر المحيط 4/175.
[14391]:ينظر: الدر المصون 3/112، البحر المحيط 4/175.
[14392]:تقدم.