التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{عَٰلِيَهُمۡ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضۡرٞ وَإِسۡتَبۡرَقٞۖ وَحُلُّوٓاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٖ وَسَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ شَرَابٗا طَهُورًا} (21)

{ عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة }

هذه الأشياء من شعار الملوك في عرف الناس زَمانَئِذ ، فهذا مرتبط بقوله { ومُلكاً كبيراً } [ الإنسان : 20 ] .

وقرأ نافع وحمزة وأبو جعفر { عَاليهم } بسكون الياء على أن الكلام جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لجملة { رأيْتَ نعيماً ومُلْكاً كبيراً } [ الإنسان : 20 ] ، ف { عاليهم } مبتدأ و { ثياب سندس } فاعلُه سادٌّ مسدّ الخبر وقد عمل في فاعله وإن لم يكن معتمداً على نفي أو استفهام أو وصف ، وهي لغة خَبير بنو لهب وتكون الجملة في موضع البيان لجملة : { رأيت نعيماً } [ الإنسان : 20 ] .

وقرأ بقية العشرة { عَاليَهم } بفتح التحتية على أنه حال مفرد ل { الأبرار } [ الإنسان : 5 ] ، أي تلك حالة أهل الملك الكبير .

وإضافة { ثياب } إلى { سندس } بيانية مثل : خَاتَم ذَهَببِ ، وثَوْببِ خَزَ ، أي منه .

والسندس : الديباج الرقيق .

والإستبرق : الديباج الغليظ وتقدما عند قوله تعالى : { ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق } في سورة الكهف ( 31 ) وهما معرَّبان .

فأما السندس فمعرب عن اللغة الهندية وأصله ( سندون ) بنون في آخره ، قيل : إن سبب هذه التسمية أنه جلب إلى الإِسكندر ، وقيل له : إن اسمه ( سندون ) فصيره للغة اليونان سندوس ( لأنهم يكثرون تنهية الأسماء بحرف السين ) وصيّره العرب سُندساً . وفي اللسان } : أن السندس يتخذ من المِرْعِزَّى ( كذا ضبطه مصححه ) والمعروف المِرْعِز كما في « التذكرة » و« شفاء الغليل » . وفي « التذكرة » المِرْعز : ما نَعُم وطال من الصوف اه . فلعله صوف حيوان خاص فيه طول أو هو من نوع الشعَر ، والظاهر أنه لا يكون إلاّ أخضر اللون لقول يزيد بن حذاق العبدي يصف مرعى فَرسه :

وداوَيْتُها حتى شَتَتْ حَبَشِيَّةً *** كأنَّ عليها سُندساً وسُدُوساً

أي في أرض شديدة الخضرة كلون الحَبشي . وفي « اللسان » : السدوس الطيلسان الأخضر . ولقول أبي تمَّام يرثي محمد بن حميد النبهاني الطوسي :

تَرَدَّى ثيَابَ الموتِ حُمْراً فما أتَى *** لها الليلُ إلاَّ وهْيَ من سُندس خُضْرُ

وأما الإِستبرق فنسج من نسج الفرس واسمه فارسي ، وأصله في الفارسية : استقره .

والمعنى : أن فوقهم ثياباً من الصنفين يلبسون هذا وذاك جمعاً بين محاسن كليهما ، وهي أفخر لباس الملوك وأهل الثروَة .

ولون الأخضر أمتع للعين وكان من شعار الملوك ، قال النابغة يمدح ملوك غسان :

يَصونُون أجْساداً قديما نعيمها *** بخَالصةِ الأردَان خُضْر المَنَاكِب

والظاهر أن السندس كان لا يصبغ إلاّ أخضر اللون .

وقرأ نافع وحفص { خضرٌ } بالرفع على الصفة ل { ثياب } . و { إستبرقٌ بالرفع أيضاً على أنه معطوف على ثياب } بقيد كونها من سندس فمعنى عاليهم إستبرق : أن الإِستبرق لباسُهم .

وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم { خُضْرٍ } بالجر نعتاً ل { سندس ، } و { إستبرق } بالرفع عطفاً على { ثياب } .

وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب خُضْرٌ } بالرفع و { إستبرقٍ } بالجر عطفاً على { سندس } بتقدير : وثياب إستبرق .

وقرأ حمزة والكسائي { خُضرٍ } بالجر نعتاً ل { سندسٍ } باعتبار أنه بيان للثياب فهو في معنى الجمع . وقرأ و { إستبرقٍ } بالجر عطفاً على { سندس .

والأساور : جمع سِوار وهو حَلي شكله اسطواني فارغ الوسط يلبسه النساء في معاصمهن ولا يلبسه الرجال إلاّ الملوك ، وقد ورد في الحديث ذكر سواري كسْرى .

والمعنى : أن حال رجال أهل الجنة حال الملوك ومعلوم أن النساء يتحلّيْنَ بأصناف الحلي .

ووصفت الأساور هنا بأنها من فضة . } وفي سورة الكهف ( 31 ) بأنها { من ذهب } في قوله : يُحلَّون فيها من أساور من ذهب ، أي مرة يحلَّون هذه ومرة الأخرى ، أو يحلونهما جميعاً بأن تجعل متزاوجة لأن ذلك أبْهج منظراً كما ذكرناه في تفسير قوله : { كانت قواريرا قواريرا من فضة } [ الإنسان : 15 ، 16 ] .

هذا احتراس مما يوهمه شُربهم من الكأس الممزوجة بالكافور والزنجبيل من أن يكون فيها ما في أمثالها المعروفة في الدنيا ومن الغَوْل وسوءِ القول والهذيان ، فعبر عن ذلك بكون شرابهم طَهوراً بصيغة المبالغة في الطهارة وهي النزاهة من الخبائث ، أي منزهاً عما في غيره من الخباثة والفساد .

وأسند سقيه إلى ربهم إظهاراً لكرامتهم ، أي أمر هو بسقيهم كما يقال : أطعَمهم ربُّ الدار وسقاهم .