المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّيٓ أَعۡلَمُ بِمَن جَآءَ بِٱلۡهُدَىٰ مِنۡ عِندِهِۦ وَمَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (37)

ولما كذبوه ورموه بالسحر قارب موسى عليه السلام في احتجاجه وراعه تكذيبهم فرد الأمر إلى الله عز وجل وعول على ما سيظهره في شأنهم وتوعدهم بنقمة الله تعالى منهم ، وقرأ ابن كثير «قال موسى » بغير واو ، وقرأ غيره وجميع السبعة «وقال » بواو ، وقرأ الجمهور «تكون » بالتاء ، وقرأ حمزة والكسائي «يكون » بالياء على التذكير إذ هي بمنزلة العاقب فهي كالصوت والصيحة والوعظ والموعظة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّيٓ أَعۡلَمُ بِمَن جَآءَ بِٱلۡهُدَىٰ مِنۡ عِندِهِۦ وَمَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (37)

لما قالوا قولاً صريحاً في تكذيبه واستظهروا على قولهم بأن ما جاء به موسى شيء من علمه آباؤهم أجاب موسى كلامهم بمثله في تأييد صدقه فإنه يعلمه الله ، فما عِلْمُ آبائهم في جانب عِلْم الله بشيء ، فلما تمسكوا بعلم آبائهم تمسك موسى بعلم الله تعالى ، فقد احتج موسى بنفسه ولم يكل ذلك إلى هارون .

وكان مقتضى الاستعمال أن يُحكى كلام موسى بفعل القول غير معطوف بالواو شأن حكاية المحاورات كما قدمناه غير مرة ، فخولف ذلك هنا بمجيء حرف العطف في قراءة الجمهور غير ابن كثير لأنه قصد هنا التوازن بين حجة ملأ فرعون وحجة موسى ، ليظهر للسامع التفاوت بينهما في مصادفة الحق ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر ، وبضدها تتبين الأشياء ، فلهذا عطفت الجملة جرياً على الأصل غير الغالب للتنبيه على أن فيه خصوصية غير المعهودة في مثله فتكون معرفة التفاوت بين المحتجين مُحالة على النظر في معناهما . وقرأ ابن كثير { قال موسى } بدون واو وهي مرسومة في مصحف أهل مكة بدون واو على أصل حكاية المحاورات وقد حصل من مجموع القراءتين الوفاء بحق الخصوصيتين من مقتضى حالي الحكاية . وعبر عن الله بوصف الربوبية مضافاً إلى ضميره للتنصيص على أن الذي يعلم الحق هو الإله الحق لا آلهتهم المزعومة .

ويظهر أن القبط لم يكن في لغتهم اسم على الرب واجب الوجود الحق ولكن أسماء آلهة مزعومة .

وعبر في جانب { من جاء بالهدى } بفعل المضي وفي جانب { من تكون له عاقبة الدار } بالمضارع لأن المجيء بالهُدى المحقق والمزعوم أمر قد تحقق ومضى سواء كان الجائي به موسى أم آباؤهم الأولون وعلماؤهم . وأما كيان عاقبة الدار لمن فمرجو لما يظهر بعد . ففي قوله { ربي أعلم بمن جاء بالهدى } إشهادٌ لله تعالى وكلام منصف ، أي ربي أعلم بتعيين الجائي بالهدى أنحن أم أنتم على نحو قوله تعالى { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] .

وفي قوله : { ومن تكون له عاقبة الدار } تفويض إلى ما سيظهر من نصر أحد الفريقين على الآخر وهو تعريض بالوعيد بسوء عاقبتهم .

و { عاقبة الدار } كلمة جرت مجرى المثل في خاتمة الخير بعد المشقة تشبيهاً لعامل العمل بالسائر المنتجع إذا صادف دار خصب واستقرّ بها وقال الحمد لله الذي أحلّنا دار المُقامة من فضله . فأصل عاقبة الدار : الدار العاقبة . فأضيفت الصفة إلى موصوفها .

والعاقبة : هي الحالة العاقبة ، أي التي تعقب ، أي تجيء عقب غيرها ، فيؤذن هذا اللفظ بتبدل حال إلى ما هو خير ، فلذلك لا تطلق إلا على العاقبة المحمودة . وقد تقدم في سورة [ الأنعام : 135 ] قوله { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } وفي سورة [ الرعد : 22 ] قوله { أولئك لهم عقبى الدار } وقوله { وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار } [ الرعد : 42 ] .

وقرأ الجمهور { تكون } بالمثناة الفوقية على أصل تأنيث لفظ { عاقبة الدار } وقرأ حمزة والكسائي بالتحتية على الخيار في فعل الفاعل المجازيّ التأنيث .

وأيد ذلك كله بجملة { إنه لا يفلح الظالمون } ، دلالة على ثقته بأنه على الحق وذلك يفُتّ من أعضادهم ، ويلقي رعب الشك في النجاة في قلوبهم . وضمير { إنه } ضمير الشأن لأن الجملة بعده ذات معنى له شأن وخطر .