تقدم في الآية قبلها الإعلام بتحقيق الأحكام يوم القيامة ، فحسن بعد ذلك التنبيه على الحالة التي يحضر ذلك فيها ، ويجاء فيها بالشهداء على الأمم ، ومعنى الآية : أن الله يأتي بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب ، ومعنى «الأمة » في هذه الآية : غير المعنى المتعارف في إضافة الأمم إلى الأنبياء ، فإن المتعارف أن تريد بأمة محمد عليه السلام جميع من آمن به وكذلك في كل نبي ، وهي هنا جميع من بعث إليه من آمن منهم ومن كفر ، وكذلك قال المتأولون : إن الإشارة «بهؤلاء » إلى كفار قريش وغيرهم من الكفار ، وإنما خص كفار قريش بالذكر لأن وطأة الوعيد أشد عليهم منها على غيرهم و { كيف } في موضع نصب مفعول مقدم بفعل تقديره في آخر الآية : ترى حالهم ، أو يكونون ، أو نحوه ، وقال مكي في الهداية : { جئنا } عامل في «كيف » ، وذلك خطأ ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه ، وكذلك ذرفت عيناه عليه السلام حين قرأها عليه عبد الله بن مسعود في الحديث المشهور{[4049]} ، وما ذكره الطبري من شهادة أمة محمد بتبليغ الرسل ، وما جرى في معنى ذلك من القصص الذي ذكر مكي ، كسؤال اللوح المحفوظ ، ثم إسرافيل ثم جبريل ، ثم الأنبياء ، فليست هذه آيته ، وإنما آيته { لتكونوا شهداء على الناس }{[4050]} .
الفاء يجوز أن تكون فاء فصيحة تدلّ على شرط مقدّر نشأ عن الوعيد في قوله : { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } [ النساء : 37 ] وقوله : { فساء قريناً } [ النساء : 38 ] ؛ وعن التوبيخ في قوله : { وماذا عليهم } [ النساء : 39 ] وعن الوعد في قوله : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } [ النساء : 40 ] الآية ، والتقدير : إذا أيقنت بذلك فكيفَ حال كلّ أولئك إذا جاء الشهداء وظهر موجَب الشهادة على العمل الصالِح وعلى العمل السيّىء ، وعلى هذا فليس ضميرُ ( بكَ ) إضماراً في مقام الإظهار ، ويجوز أن تكون الفاء للتفريع على قوله : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها } [ النساء : 40 ] ، أي يتفرّع عن ذلك سؤال عن حال الناس إذا جئنا من كلّ أمة بشهيد ؛ فالناسُ بين مستبشر ومتحسّر ، وعلى هذا فضمير { بك } واقع موقع الاسم الظاهر لأنّ مقتضَى هذا أن يكون الكلام مسوقاً لجميع الأمّة ، فيقتضي أن يقال : وجئنا بالرَّسُول عليهم شهيداً ، فعُدل إلى الخطاب تشريفاً للرسول صلى الله عليه وسلم بعزّ الحُضور والإقبال عليه .
والحالة التي دلّ عليها الاستفهام المستعمل في التعجيب تؤذن بحالة مهولة للمشركين وتنادي على حيرتهم ومحاولتهم التملّص من العقاب بسلوك طريق إنكار أن يكونوا أنذروا ممّا دلّ عليه مجيء شهيد عليهم ، ولذلك حذف المبتدأ المستفهم عنه ويقدّر بنحو : كيف أولئك ، أو كيف المَشْهَد ، ولا يقدّر بكيف حالهم خاصّة ، إذ هي أحوال كثيرة ما منها إلاّ يزيده حالُ ضدّه وضوحاً ، فالناجي يزداد سروراً بمشاهدة حال ضدّه ، والموبق يزداد تحسّرا بمشاهدة حال ضدّه ، والكلّ يقوى يقينه بما حصل له بشهادة الصادقين له أو عليه ، ولذلك لمّا ذكر الشهيد لم يذكر معه مُتعلِّقه بعلَى أو اللام : ليعمّ الأمرين . والاستفهام مستعمل في لازم معناه من التعجيب ، وقد تقدّم نظيره عند قوله تعالى : { فكيف إذا جمعناهم } في سورة آل عمران ( 25 ) .
( وإذا ) ظرف للمستقبل مضاف إلى جملة { جئنا } أي زمان إتياننا بشهيد . ومضمون الجملة معلوم من آيات أخرى تقدّم نزولها مثلُ آية سورة النحل ( 89 ) { ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء } فلذلك صلحت لأن يتعرّف اسم الزَّمان بإضافته إلى تلك الجملة ، والظرف معمول ل ( كيف ) لما فيها من معنى الفعل وهو معنى التعجيب ، كما انتصب بمعنى التلهّف في قول أبي الطمْحان :
وقبْل غدٍ يَا لهفَ قلبي من غَدٍ *** إذا رَاح أصحابي ولستُ برائح
والمجروران في قوله : { من كل أمة } وقوله : { بشهيد } يتعلّقان ب ( جئنا ) . وقد تقدّم الكلام مختصراً على نظيره في قوله تعالى : { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } [ آل عمران : 25 ] .
وشهيد كلّ أمّة هو رسولها ، بقرينة قوله : { وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } .
و { هؤلاء } إشارة إلى الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لحضورهم في ذهن السامع عند سماعه اسم الإشارة ، وأصل الإشارة يكون إلى مشاهد في الوجود أو منزّل منزلتَه ، وقد اصطلح القرآن على إطلاق إشارة ( هؤلاء ) مراداً بها المشركون ، وهذا معنى ألهمنا إليه ، استقريْناه فكان مطابقاً .
ويجوز أن تكون الإشارة إلى { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } [ النساء : 37 ] وهم المشركون والمنافقون ، لأنّ تقدّم ذكرهم يجعلهم كالحاضرين فيشار إليهم ، لأنّهم لكثرة توبيخهم ومجادلتهم صاروا كالمعيّنين عند المسلمين . ومن أضعف الاحتمالات أن يكون { هؤلاء } إشارة إلى الشهداء ، الدالّ عليهم قوله : { كل أمةٍ بشهيد } وأن ورد في « الصحيح » حديث يناسبه في شهادة نوح على قومه وأنّهم يكذّبونه فَيشهد محمّد صلى الله عليه وسلم بصِدقه ، إذ ليس يلزم أن يكون ذلك المقصودَ من هذه الآية .
وذُكر متعلّق ( شهيدا ) الثاني مجروراً بعلى لتهديد الكافرين بأنّ الشهادة تكون عليهم ، لأنّهم المقصود من اسم الإشارة .
وفي « صحيح البخاري » : أنّ عبد الله بن مسعود قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " اقرأ عليّ القرآن ، قلت : أقْرَأهُ عليك وعليكَ أنْزِل ، قال : إني أحِبّ أنْ أسْمَعه من غيري " فقرأت عليه سورة النساء ، حتّى إذا بلغتُ { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } ، قال : { أمسِك } فإذا عينَاه تذرفان . وكما قلت : إنه أوجز في التعبير عن تلك الحال في لفظ كيف فكذلك أقول هنا : لا فِعل أجمع دلالة على مجموع الشعور عند هذه الحالة من بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّه دلالة على شعور مجتمععٍ فيه دلائلُ عظيمة : وهي المسرّة بتشريف الله إيّاه في ذلك المشهد العظيم ، وتصديقِ المؤمنين إيّاه في التبليغ ، ورؤيةِ الخيرات التي أنجزت لهم بواسطته ، والأسفِ على ما لحق بقية أمّته من العذاب على تكذيبه ، ومشاهدةِ ندمهم على معصيته ، والبكاء ترجمانُ رحمةٍ ومسرّة وأسف وبهجة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.