تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم خوفهم، فقال تعالى: {فكيف} بهم {إذا جئنا من كل أمة بشهيد}، يعني نبيهم، وهو شاهد عليهم بتبليغ الرسالة إليهم من ربهم، {وجئنا بك} يا محمد {على هؤلاء شهيدا}: يعني كفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: إن الله لا يظلم عباده مثقال ذرّة، فكيف بهم {إذا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بَشِهيدٍ}: بمن يشهد عليها بأعمالها، وتصديقها رسلها، أو تكذيبها. {وجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا}: وَجِئْنَا بك يا محمد على هؤلاء: أي على أمتك شهيدا، يقول: شاهدا... حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن المسعودي، عن القاسم: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: «اقْرأْ عَليّ!» قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «إنّي أُحِبّ أنْ أسَمعه مِنْ غيرِي». قال: فقرأ ابن مسعود النساء، حتى بلغ: {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا} قال: قال استعبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكفّ ابن مسعود. قال المسعودي: فحدثني جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «شَهِيدا عَلَيْهِمْ ما دُمْتُ فِيهِمْ، فإذَا تَوَفّيْتَنِي كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأنْتَ على كُلْ شَيْءٍ شَهِيدٌ».
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" فكيف "لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها ههنا التوبيخ. والتقدير فكيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة، وحذف لدلالة الكلام عليه. وإنما جاز خروج كيف عن الاستفهام إلى التوبيخ لأنه يقتضي إقرار العبد على نفسه بما كان من قبيح عمله، كما يقتضي الجواب في الاستفهام...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) معناه: فكيف الحال إذا جئنا من كل أمة بشهيد؟ وأراد بالشهيد من كل أمة نبيها، وشهيد هذه الأمة: نبينا صلى الله عليه وسلم... واختلفوا في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل يشهد على من لم يره؟ منهم من قال: إنما يشهد على من رآه، والصحيح: أنه يشهد على الكل، على من رأى، وعلى من لم ير...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
تقدم في الآية قبلها الإعلام بتحقيق الأحكام يوم القيامة، فحسن بعد ذلك التنبيه على الحالة التي يحضر ذلك فيها، ويجاء فيها بالشهداء على الأمم، ومعنى الآية: أن الله يأتي بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ومعنى «الأمة» في هذه الآية: غير المعنى المتعارف في إضافة الأمم إلى الأنبياء، فإن المتعارف أن تريد بأمة محمد عليه السلام جميع من آمن به وكذلك في كل نبي، وهي هنا جميع من بعث إليه من آمن منهم ومن كفر، وكذلك قال المتأولون: إن الإشارة «بهؤلاء» إلى كفار قريش وغيرهم من الكفار، وإنما خص كفار قريش بالذكر لأن وطأة الوعيد أشد عليهم منها على غيرهم...، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه، وكذلك ذرفت عيناه عليه السلام حين قرأها عليه عبد الله بن مسعود في الحديث المشهور...
وجه النظم هو أنه تعالى بين أن في الآخرة لا يجري على أحد ظلم، وأنه تعالى يجازي المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه، فبين تعالى في هذه الآية أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق، لتكون الحجة على المسيء أبلغ، والتبكيت له أعظم وحسرته أشد، ويكون سرور من قبل ذلك من الرسول وأظهر الطاعة أعظم، ويكون هذا وعيدا للكفار الذين قال الله فيهم: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} ووعدا للمطيعين الذين قال الله فيهم: {وإن تك حسنة يضاعفها}.
من عادة العرب أنهم يقولون في الشيء الذي يتوقعونه: كيف بك إذا كان كذا وكذا، وإذا فعل فلان كذا، وإذا جاء وقت كذا؟
فمعنى هذا الكلام: كيف ترون يوم القيامة إذا استشهد الله على كل أمة برسولها، واستشهدك على هؤلاء، يعني قومه المخاطبين بالقرآن الذين شاهدهم وعرف أحوالهم. ثم إن أهل كل عصر يشهدون على غيرهم ممن شاهدوا أحوالهم، وعلى هذا الوجه قال عيسى عليه السلام: «وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم».
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بعدما جاء بالوعد والوعيد في الآية السابقة، جاء بهذه الآية معطوفة بالفاء، فهو يقول إذا كان الله لا يضيع من عمل عامل مثقال ذرة، فكيف يكون حال الناس إذا جمعهم الله وجاء بالشهداء عليهم وهم الأنبياء فما من أمة إلا ولها بشير ونذير.
هذه الشهادة هي التي غفل عنها الناس وبكى لها النبي صلى الله عليه وسلم إذ أمر بعض الصحابة بأن يقرأ عليه شيئا من القرآن وهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالقرآن.
هذه الشهادة يوم يجمع الله الناس مع أنبيائهم هي عبارة عن مقابلة عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم بعقائد الأنبياء وأعمالهم وأخلاقهم.
تعرض أعمال كل أمة على نبيها لا فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين وسائر أتباع الأنبياء، فمن شهد لهم نبيهم بعد معرفة أعمالهم وظهورها بأنهم على ما جاء به وعمل وأمر الناس بالعمل به فهم الناجون.
إن كل أمة من أتباع الأنبياء تدعي إتباع نبيها وإن كانت قلوبهم مملوءة بالحقد والحسد والغل وأعمالهم كلها شرورا ومفاسد عليهم وعلى الناس، فهؤلاء يتبرأ الأنبياء منهم وإن ادعوا هم إتباعهم والانتماء إليهم.
وقد اختلفوا في المراد بقوله: {على هؤلاء شهيدا} قيل إن المراد به شهادة خاتم المرسلين على المرسلين قبله فهم يشهدون على أممهم وهو يشهد عليهم وقيل هي شهادته على أمته وهذا هو الموافق لقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} [البقرة:142] والخطاب للمؤمنين في عصر التنزيل وقد تقدم في تفسيره أن هذه الأمة تكون بسيرتها شهيدة على الأمم السابقة وحجة عليها في انحرافها عن هدي المرسلين، وأن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يكون بسيرته العالية وسنته المعتدلة حجة على المفرطين والمفرّطين من أمته اتباعا للبدع الطارئة المحدثة من بعده، فراجع تفصيل ذلك في أول الجزء الثاني من التفسير.
وأما الحديث الذي أشار إليه الأستاذ فهو ما روى أحمد والبخاري في صحيحه والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث ابن مسعود أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ علي) قلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: (نعم أحب أن أسمعه من غيري) فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} الخ فقال (حسبك الآن) فإذا عيناه تذرفان 79. فليت شعري هل يعتبر المسلمون بهذا وهم المشهود عليهم كما اعتبر الشهيد الأعظم فيبكون لتذكر ذلك اليوم كما بكى، ويستعدون باتباع سنته، واجتناب جميع البدع والتقاليد الدينية التي لم تكن في عهده، لأن يكونوا كأصحابه أمة وسطا لا تفريط عندها في الدين ولا إفراط لا في أمور الجسد ولا في أمور الروح أم يظلون سادرين في غلوائهم، مقلدين لآبائهم، ألا يعلمون كيف يكون حال الكافرين والعاصين في ذلك اليوم؟.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يختم الأوامر والنواهي، والتحضيض والترغيب، بمشهد من مشاهد القيامة؛ يجسم موقفهم فيه، ويرسم حركة النفوس والمشاعر كأنها شاخصة متحركة.. على طريقة القرآن في مشاهد القيامة: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا! يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، ولا يكتمون الله حديثًا..) إنه يمهد لمشهد القيامة، بأن الله لا يظلم مثقال ذرة.. وإذن فهو العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه قيد شعره.. وأنه يضاعف الحسنات ويؤتي فضلا عنها أجرا من لدنه عظيما.. فهي الرحمة إذن لمن يستحقون الرحمة؛ والفضل المطلق لمن كانوا يرجون الفضل، بالإيمان والعمل...
. فأما هؤلاء. هؤلاء الذين لم يقدموا إيمانا، ولم يقدموا عملا.. هؤلاء الذين لم يقدموا إلا الكفر وسوء العمل.. فكيف يكون حالهم يومذاك؟ كيف يكون الحال، إذا جئنا من كل أمة بشهيد -هو نبيها الذي يشهد عليها- وجئنا بك على هؤلاء شهيدا؟...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الاستفهام هنا للتنبيه، وبيان ما سيكون يوم القيامة من حساب يتبعه عقاب عادل، أو ثواب يتبعه جزاء سابغ وعطاء غير ممنون. والمعنى تنبهوا أي هؤلاء الذين يجحدون الأدلة القائمة، والرسالات الثابتة، وتصوروا حالكم، وأعمالكم تنطق بها ألسنتكم وجوارحكم، ومعكم النبيون يشهدون عليكم بالتبليغ والبيان، وأنه لم يكن لكم حجة في كفر، ولا معذرة في جحود. والشهيد هو الشاهد الناطق بالحق، المتحري المستقصي الذي لا يترك حقا لم يبينه.
ومعنى قوله تعالى: {وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}: أنه يؤتى لكل أمة من الأمم بشهيد منها هو نبيها الذي بعث فيها ودعاها إلى الحق، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فكل نبي يشهد على قومه بالتبليغ والبيان. وما من أمة إلا كان لها نذير، فقد قال تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24)} (فاطر)، وقال تعالى {...وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15) (الإسراء).
وقد اختلف في الإشارة في قوله تعالى: {وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}، فقال بعض المفسرين: إن الإشارة في هؤلاء إلى النبيين السابقين، فالنبي صلى الله عليه وسلم باعتباره خاتم النبيين، وأن رسالته خالدة إلى يوم القيامة، ولتكريم الله تعالى، يكون شاهدا على كل النبيين السابقين، والشهادة عليهم بمعنى أداء الشهادة بأنهم بلغوا، وكانت التعدية بعلى للإشارة إلى معنى المحافظة على أصول الشرائع السابقة لاشتمال القرآن الكريم عليها، ونشرها خالصة سائغة واضحة بينة للأجيال.
هذا هو القول الأول_ والقول الثاني أن المشار إليهم في النص الكريم هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي أكثر الأمم عددا؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا؛ إذ دينه لم يحرف ولم يبدل، فقد حفظت أصوله في القرآن الكريم، وهو نور الله تعالى الباقي إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)} (الحجر) وإن الكثيرين على الأول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم له شهادتان إحداهما شهادة للرسالات السابقة بالصدق والبيان، وقد اطلع على الشهادة المسلمون ببيان القرآن، والثانية شهادته على أمته، وقد جمع الشهادتين قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا (143)} (البقرة) وإن تلك منزلة عالية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به إيمانا صادقا الذين يذعنون للحق دائما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعظم أمر هذه الشهادة...
{فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}. وساعة تسمع كلمة "كيف "فاعرف أن هناك شيئا عجيبا، فكل شيء يتعجب منه يؤتى فيه ب "كيف "ومثال ذلك قوله الحق: {كيف تكفرون بالله} (من الآية 28 سورة البقرة). وهذا يعني تعجيبا من مصيبة وكارثة هي الكفر بالله، فقولوا لنا: كيف جاءت هذه؟ إنها مسألة عجيبة، ونقول: فكيف يكون حال هؤلاء الكافرين، كيف يكون حال هؤلاء العصاة، في يوم العرض الأخير، {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} و "الشهيد" هو: الذي يشهد ليقرر حقيقة، ونحن نعلم أن الحق أخبرنا: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} (من الآية 24 سورة فاطر)...
والحق سبحانه وتعالى يوضح: أن حال هؤلاء سيكون فظيعا حينما يأتي يوم العرض يوم القيامة، و ويقولون: إننا بلغناكم، أو الحق سبحانه وتعالى عرض هذه المسألة بالنسبة للرسل وأممهم، وبالنسبة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته أو للأمم كلها، فنحن أيضا سنكون شهداء: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} (من الآية 143 سورة البقرة). وهذه ميزة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لأن أمة محمد هي الأمة الوحيدة التي أمنها الله على أن يحملوا المنهج إلى أن تقوم الساعة، فلن يأتي أنبياء أبدا بعد رسول الله، فيقول: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} إذن فنحن بنص هذه الآية أخذنا امتداد الرسالة...
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقرأ علي القرآن فقلت يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟. قال: نعم إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا به على هؤلاء شهيدا) فقال: حسبك، فإذا عيناه تذرفان الدموع". فإذا كان الشهيد بكى من وقع الآية فكيف يكون حال المشهود عليه؟ الشهيد الذي سيشهد بكى من الآية، نعم؛ لأنك تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ملئ قلبه رحمة بأمته؛ ولذلك قلنا: إن حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته جعل ربه يعرض عليه أن يتولى أمر أمته، بعد أن علم سبحانه مدى عنايته صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين3} (سورة الشعراء). فأمر أمته صلى الله عليه وسلم كان يقلقه جدا على الرغم من أن الحق سبحانه قد أوضح له: أنت عليك البلاغ وليس عليك أن تهدي بالفعل، وهو صلى الله عليه وسلم يعرف هذا. إنما حرصه ورحمته بأمته جعله يحب أن يؤمنوا، وعليه الصلاة والسلام خاف على أمته من موقف يشهد فيه عليهم ضمن من سيشهد عليهم يوم الحشر...