المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ} (49)

وقوله : { يغاث } جائز أن يكون من الغيث ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين ، أي يمطرون ، وجائز أن يكون من أغاثهم الله ، أذا فرج عنهم ، ومنه الغوث وهو الفرج .

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يَعصِرون » بفتح الياء وكسر الصاد ، وقرأ حمزة والكسائي ذلك بالتاء على المخاطبة ، وقال جمهور المفسرين : هي من عصر النباتات كالزيتون والعنب والقصب والسمسم والفجل وجميع ما يعصر ، ومصر بلد عصر لأشياء كثيرة ؛ وروي أنهم لم يعصروا شيئاً مدة الجدب ، والحلب منه لأنه عصر للضروع . وقال أبو عبيدة وغيره : ذلك مأخوذ من العصرة والعصر{[6718]} وهو الملجأ ومنه قول أبي زبيد في عثمان رضي الله عنه : [ الخفيف ]

صادياً يستغيث غير مغاث*** ولقد كان عصرة المنجود{[6719]}

ومنه قول عدي بن زيد : [ الرمل ]

لو بغير الماء حلقي شرق*** كنت كالغصّان بالماء اعتصاري{[6720]}

ومنه قول ابن مقبل «[ البسيط ]

وصاحبي وهوه مستوهل زعل*** يحول بين حمار الوحش والعصر{[6721]}

ومنه قول لبيد : [ الطويل ]

فبات وأسرى القوم آخر ليلهم*** وما كان وقافاً بغير معصر{[6722]}

أي بغير ملتجأ ، فالآية على معنى ينجون بالعصرة .

وقرأ الأعرج وعيسى وجعفر بن محمد » يُعصَرون «بضم الياء وفتح الصاد ، وهذا مأخوذ من العصرة ، أي يؤتون بعصرة ؛ ويحتمل أن يكون من عصرات السحاب ماءها عليهم ، قال ابن المستنير : معناها يمطرون ، وحكى النقاش أنه قرىء » يعصرون «وجعلها من عصر البلل ونحوه . ورد الطبري على من جعل اللفظة من العصرة رداً كثيراً بغير حجة{[6723]} .


[6718]:بضم العين وسكون الصاد فيهما، يقال: جاء ولكن لم يجيء لعصر، أي: لم يجيء حين المجيء.
[6719]:البيت لأبي زبيد الطائي، والصادي: الشديد العطش، والجمع: صداة. ومعنى (كان عصرة المنجود): كان ملجأ المكروب. قال في (اللسان): "العصر بالتحريك، والعصر والعصرة: الملجأ والمنجاة، وعصر الشيء واعتصر به: لجأ إليه، وقد قيل في قوله تعالى {فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}: إنه من هذا، أي: ينجون من البلاء ويعتصمون بالخصب". وقد قيل: إن أبا زبيد قال البيت في رثاء ابن أخته الذي مات عطشا في طريق مكة وليس في عثمان رضي الله عنه.
[6720]:قال عدي بن زيد هذا البيت من قصيدة أنفذها إلى النعمان يذكره بطول عهده بالسجن ويرجوه العفو عنه، والاعتصار: أن يغص الإنسان بالطعام فيعتصر بالماء، وهو أن يشربه قليلا قليلا. ويقول: لو أني شرقت بغير الماء لكان في الماء نجاتي وإليه التجائي، فكيف أفعل وقد شرقت به؟ وأنت مائي، ولو كنت سجنت بأمر غيرك للجأت إليك فكيف وأنت ساجني؟
[6721]:صاحبه هنا هو فرسه، والفرس الوهوه والوهواه هو النشيط الحديد الذي يكاد يفلت من كل شيء من شدة حرصه على السبق ومن نزقه، والوهوه أيضا الذي يردد صوته في جزع، والمستوهل: الفزع النشيط/ والزعل: النشيط، والعصر: الملجأ، يصف فرسه بالنشاط والسرعة ويقول: إذا طارد فريسة بادرها ومنعها من أن تلجأ إلى ملجئها الذي تحتمي به، أو حال بينها وبين النجاة.
[6722]:استشهد صاحب (اللسان) بالشطر الثاني من البيت، والرواية فيه: "وما كان وقافا بدار معصر"، وذكر صاحب التاج البيت كاملا، والرواية فيه كرواية (اللسان). والبيت في الديوان من قصيدة قالها لبيد يذكر من فقد من قومه ومن سادات العرب، ويتأمل في سطوة الموت وضعف الإنسان أمامه، ومطلع هذه القصيدة: أعاذل قومي فاعذلي الآن أو ذري فلست وإن أقصرت عني بمقصر والمعصر بفتح الصاد المشددة: الملجأ والحرز، وقد نقل ابن عطية البيت عن الطبري بلفظ (بغير) وإلا فرواية الديوان هي (بدار) كما رواها التاج واللسان، والضمير في (بات) يعود على قيس بن جزء كما ذكر في الأبيات السابقة.
[6723]:قال الطبري: "ذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين".
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ} (49)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ثم يأتي من بعد ذلك}، يعني: من بعد السنين المجدبات،

{عام فيه يغاث الناس}، يعني: أهل مصر بالمطر،

{وفيه يعصرون}، العنب، والزيت من الخصب، هذا من قول يوسف، وليس من رؤيا الملك، فرجع الرسول فأخبره فعجب.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وهذا خبر من يوسف عليه السلام للقوم عما لم يكن في رؤيا ملكهم، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله دلالة على نبوّته وحجة على صدقة... ويعني بقوله:"فِيهِ يُغاثُ النّاسُ" بالمطر والغيث...

وأما قوله: "وَفِيهِ يَعْصِرُونَ "فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛

فقال بعضهم: معناه: وفيه يعصرون العنب والسمسم وما أشبه ذلك...

وقال آخرون: معنى قوله: "وَفِيهِ يَعْصِرُونَ": وفيه يحلبون...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ) قال بعضهم: هو من الغيث وهو المطر، أي يمطرون. وقيل يغاثون بالمطر من الإغاثة والغوث.

(وفيه يعصرون) قال بعضهم: هو من عصر الأعناب والدهن والزيت وغيره، إنما هو إخبار عن الخصب والسعة...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

"فيه يغاث الناس" فالغوث: النفع الذي يأتي على شدة حاجة ينفي المضرة، والغيث: المطر الذي يجيئ في وقت الحاجة... والغيث: الكلأ الذي ينبت من ماء السماء وجمعه غيوث...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ثم زادهم على ذلك قوله: {ثم يأتي} وعبر بالجار لمثل ما مضى فقال: {من بعد ذلك} أي الجدب العظيم {عام} وهو اثنا عشر شهراً، ونظيره الحول والسنة، وهو مأخوذ من العوم -لما لأهله فيه من السبح الطويل- قاله الرماني. والتعبير به دون مرادفاته إشارة إلى أنه يكون فيه -من السعة بعموم الريّ وظهور الخصب وغزير البركة- أمر عظيم، ولذا اتبعه بقوله: {فيه}. ولما كان المتشوف إليه الإغاثة، على أنه من المعلوم أنه لا يقدر عليها إلا الله، قال بانياً للمفعول: {يغاث الناس} من الغيث وهو المطر، أو من الغوث وهو الفرج، ففي الأول يجوز بناءه من ثلاثي ومن رباعي، يقال غاث الله الأرض وأغاثها: أمطرها، وفي الثاني هو من رباعي خاصة، يقال: استغاث به فأغاثه، من الغوث وهو واوي، ومعناه النفع الذي يأتي على شدة حاجته بنفي المضرة، والغيث يائي وهو المطر الذي يأتي في وقت الحاجة {وفيه} أي ذلك العام الحسن. ولما كان العصر للأدهان وغيرها لا يكون إلا عن فضله، قال: {يعصرون} أي يخرجون عصارات الأشياء وخلاصاتها، وكأنه أخذ من انتهاء القحط ابتداء الخصب الذي دل عليه العصر في رؤيا السائل، والخضرة والسمن في رؤيا الملك فإنه ضد القحط، وكل ضدين انتهاء أحدهما ابتداء الآخر لا محالة، فجاء الرسول فأخبر الملك بذلك، فأعجبه ووقع في نفسه صدقه...

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

{عَامٌ} هو كالسنة لكن كثيراً ما يستعمل فيما فيه الرخاء والخصب، والسنة فيما فيه الشدة والجدب ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة، وكأنه تحاشياً عن ذلك وتنبيهاً من أول الأمر على اختلاف الحال بينه وبين السوابق عبر به دون السنة... وتكرير (فيه) إما كما قيل: للإشعار باختلاف [أوقات] ما يقع فيه زماناً وعنواناً، وإما لأن المقام مقام تعداد منافع ذلك العام، ولأجله قدم في الموضعين على العامل فإن المقام بيان أنه يقع في ذلك العام هذا وذاك...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{ثم يأتي من بعد ذلك} الذي ذكر وهو السبع الشداد {عام فيه يغاث الناس} أي فيه يغيثهم الله تعالى من الشدة اسم الإغاثة وأوسعها وهي تشمل جميع أنواع المعونة بعد الشدة: يقال: غاثه يغوثة غوثا وغواثا [بالفتح] وأغاثه إغاثة إذا أعانه ونجاه، وغوّث الرجل: قال "واغوثاه "واستغاث ربه استنصر وسأله الغوث، ويجوز أن يكون من الغيث وهو المطر إذ يقال غاث الله البلاد غيثا وغياثا إذا أنزل فيها المطر، والأول أعم وهو المتبادر هنا، ولا يقال إن الثاني لا يصح، لأن خصب مصر يكون بفيضان النيل لا بالمطر فإن فيضانه لا يكون إلا من المطر الذي يمده في مجاريه من بلاد السودان، فاعتراض بعض المستشرقين من الإفرنج وزعمه أن الكلمة من الغيث وأنها غير جائزة جهل زينه لهم الشيطان تلذذا بالاعتراض على لغة القرآن.

{وفيه يعصرون} ما شأنه أن يعصر من الأدهان التي يأتدمون بها ويستصبحون كالزيت من الزيتون والقرطم وغيره، والشيرج من السمسم وغير ذلك، والأشربة من القصب والنخيل والعنب. والمراد أن هذا العام عظيم الخصب والإقبال، يكون للناس فيه كل ما يبغون من النعمة والإتراف، والإنباء بهذا زائد على تأويل الرؤيا لجواز أن يكون العام الأول بعد سني الشدة والجدب دون ذلك، فهذا التخصيص والتفصيل لم يعرفه يوسف إلا بوحي من الله عز وجل لا مقابل له في رؤيا الملك ولا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

إذا واظبتم على هذه الخطّة فحينئذ لا خطر يهدّدكم لأنّه (ثمّ يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس).. و (يغاث الناس) أي يدركهم الغيث فتكثر خيراتهم، وليس هذا فحسب، بل (فيه يعصرون) المحاصيل لاستخراج الدهن والفاكهة لشراب عصيرها.. الخ. ملاحظات:

ـ كم كان تعبير يوسف لهذه الرؤيا دقيقاً ومحسوباً، حيث كانت البقرة في الأساطير القديمة مظهر «السنة».. وكون البقرات سماناً دليل على كثرة النعمة، وكونها عجافاً دليل على الجفاف والقحط، وهجوم السبع العجاف على السبع السّمان كان دليلا على أن يُستفاد من ذخائر السنوات السابقة. وسبع سنبلات خضر وقد أحاطت بها سبع سنبلات يابسات تأكيد آخر على هاتين الفترتين فترة النعمة وفترة الشدّة. إضافةً إلى انّه أكّد له على هذه المسألة الدقيقة، وهي خزن المحاصيل في سنابلها لئلاّ تفسد بسرعة وليكون حفظها إلى سبع سنوات ممكناً. وكون عدد البقرات العجاف والسنابل اليابسات لم يتجاوز السبع لكلّ منهما دليل آخر على انتهاء الجفاف والشدّة مع انتهاء تلك السنوات السبع.. وبالطبع فإنّ سنةً سيأتي بعد هذه السنوات سنة مليئة بالخيرات والأمطار، فلابدّ من التفكير للبذر في تلك السنة وأن يحتفظوا بشيء ممّا يخزن لها. في الحقيقة لم يكن يوسف مفسّراً بسيطاً للأحلام، بل كان قائداً يخطّط من زاوية السجن لمستقبل البلاد، وقد قدّم مقترحاً من عدّة مواد لخمسة عشر عاماً على الأقل، وكما سنرى فإنّ هذا التعبير المقرون بالمقترح للمستقبل حرّك الملك وحاشيته وكان سبباً لإنقاذ أهل مصر من القحط القاتل من جهة، وأن ينجو يوسف من سجنه وتخرج الحكومة من أيدي الطغاة من جهة أُخرى.

مرّة أُخرى تعلِّمنا هذه القصّة هذا الدرس الكبير وهو أنّ قدرة الله أكبر ممّا نتصوّر، فهو القادر بسبب رؤيا بسيطة يراها جبابرة الزمان أنفسهم أن ينقذ اُمّة كبيرة من فاجعة عظيمة، ويخلّص عبده الخالص بعد سنين من الشدائد والمصائب أيضاً. فلابدّ أن يرى الملك هذه الرؤيا، ولابدّ أن يحضر الساقي عنده يتذكّر رؤياه في السجن، وترتبط أخيراً حوادث مهمّة بعضها ببعض، فالله تعالى هو الذي يخلق الحوادث العظيمة من توافه الأُمور. أجل، ينبغي لنا توكيد ارتباطنا القلبي مع هذا الربّ القادر.

الأحلام المتعدّدة في هذه السورة، من رؤيا يوسف نفسه إلى رؤيا السجينين إلى رؤيا فرعون مصر، والاهتمام الكبير الذي كان يوليه أهل ذلك العصر بالنسبة لتعبير الرؤيا أساساً، يدلّ على أنّ تعبير الرؤيا في ذلك العصر كان من العلوم المتقدّمة، وربّما وجب ـ لهذا السبب ـ أن يكون نبي ذلك العصر ـ أي (يوسف) ـ مطّلعاً على مثل هذا العلم إلى درجة عالية بحيث يعدّ إعجازاً منه. أليست معاجز الأنبياء يجب أن تكون من أبرز العلوم في زمانهم، ليحصل اليقين ـ عند العجز من قبل علماء العصر ـ بأنّ مصدر العلم الذي يحمله نبيّهم هو الله!...