اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ} (49)

قوله [ تعالى ] : { يُغَاثُ الناس } يجوز أن تكون الألف عن واوٍ ، وأن تكون عن ياءٍ : إما من الغوث ، وهو الفرج ، وفعله رباعي ، يقال : أغَاثَنا اللهُ إذَا أنْقذنَا من كرْبٍ أو غمٍّ ، ومعناه : يغاثُ الناسُ من كَرْبِ الجَدبِ .

وإما من الغيثِن وهو المطرُ ، يقال : أغْيَثَت الأرض ، أي : أمطرتْ ، وفعله ثلاثي ، يقال : أغَاثَنَا الله من الغَيْثِ ، وقالت اعرابيةٌ : غِثْنَا ما شِئْنَا ، اي : أمْطِرنا ما أردْنَا .

فصل

يقال : أسْنَتُوا ، أي : دخلوا في سنةٍ مجدبة : " وقال المفسِّرون : السبعة المتقدمةُ : هي الخصبُ وكثرةُ النِّعم ، والسَّبعة الثانية : هي القَحْطُ ، وهي معلومةٌ من الرؤيا ، وأمَّا حالُ هذه السنةِن فما حصل في ذلك المنام ما يدلُّ عليه ، بل حصل ذلك مِنَ الوَحْيِ " .

قال قتادةُ رحمه الله : زادهُ الله علمَ سنةٍ .

فإن قيل : لما كانت العِجافُ سَبْعاً ، دلَّ على أنَّ السنين المجدبة لا تزيدْ على هذا العدد ، ومن المعلوم أنَّ الحاصل بعد انقضاء القحطِ ، هو الخصبُ ، فكان هذا أيضاً من مدلُولاتِ المنامِ ، فلم قلتم : إنَّه حصل بالوحي والإلهام ؟ .

فالجواب : هَبْ أنَّ تبدل القحْطِ بالخصب معلومٌ ، وأما تفصيلُ الحال فيه ، وهو قوله : { فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } لا يعلمُ إلا بالوحي .

قوله يَعْصِرونَ قرأ الأخوان : " تَعْصِرُونَ " بالخطاب ، والباقون بياء الغيبة ، وهما واضحتان ؛ لتقدم مخاطبٍ أو غائبٍن فكلُّ قراءةٍ ترجعُ إلى ما يليقُ بها .

و " يَعْصِرُونَ " يحتمل أوجهاً :

أظهرها : أنه من عصر العِنبِ ، والزيتونِ ، والسمسمِ ، ونحو ذلك .

والثاني : أنَّه من عصر الضَّرع ، إذا حلبه .

والثالث : أنه من العصرةِ ، وهي النجاةٌ ، والعُصْر : المنجي . وقال أبو زيد في عثمان رضي الله ع نه : [ الخفيف ]

3113 صَادِياً يَسْتغِيثُ غَيْرَ مُغاثٍ *** ولقَدْ كَان عُصْرةَ المَنجُودِ

[ ويعضدُ ] هذا الوجه مطابقة قوله : { فِيهِ يُغَاثُ الناس } يقال : عَصَرَه يَعْصِرهُ ، أي : أنجاه . وقرأ جعفر بن محمدٍ ، والأعرجك " يُعْصَرُونَ " بالياء من تحت ، وعيسَى بالتاءِ من فوقُ ، وهو في كلتا القراءتين مبني للمفعولِ ، وفي هاتين القراءتين تأويلان :

أحدهما : أنها من عصره ، إذا أنجاه : قال الزمخشريُّ : " وهو مطابق للإغاثةِ " .

والثاني : قاله قُطربٌ أنَّهما من الإعْصارِ ، وهو إمطار السحابةِ الماء ؛ كقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً } [ النبأ : 14 ] ، وقال الزمخشريُّ : وقُرىء : " يُعْصَرُون ، تُمْطرُونَ " ، من أعصرتِ السَّحابةُ ، وفيه وجهان :

إمَّا أن يضمَّن أعصرت معنى مُطِرَت ، فيعدّى تعْدِيتَه ، وإما أن يقال : الأصلُ : أعْصِرَتْ عليهم ، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى ضميرهم أو يسندُ الإعصارُ إليهم ؛ مجازاً ، فجعلوا معصرين .

وقرأ زيد بن عليّ : " تِعِصّرُون " بكسر التاء ، والعين ، والصاد مشددة ، وأصلها يعْتَصِرُون ، فأدغم التاء في الصاد ، وأتبع العين للصادِ ، ثمَّ أتبعَ التاء للعين وتقدم [ تقريره ] في قوله { إِلاَّ أَن يهدى } [ يونس : 35 ] .

ونقل النقاشُ قراءة " يُعَصِّرُونَ " بضمِّ الياء ، وفتح العين ، وكسر الصّاد مشددة ؛ من " عَصَّر " للتكثير ، وهذه القراءة ، وقراءة زيدٍ المقتدمة ، تحتملان أن يكونا من العصرِ للنبات ، أو الضَّرع ، أو النَّجاة ؛ كقول الشاعر : [ الرمل ]

3114 لَوْ بِغيْرِ الماءِ حَلقِي شَرقٌ *** كُنْتُ كالغَصَّانِ بالمضاءِ اعتِصَارِي