المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

واختلف المتأولون في معنى قوله : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } فقال عمر بن الخطاب : هذه لأولنا ، ولا تكون لآخرنا وقال عكرمة : نزلت في ابن مسعود وسالم ومولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل .

قال القاضي أبو محمد : يريد من شاكلهم ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .

قال القاضي : فهذا كله قول واحد ، مقتضاه أن الآية نزلت في الصحابة ، قيل لهم { كنتم خير أمة } ، فالإشارة بقوله { أمة } إلى أمة محمد معينة ، فإن هؤلاء هم خيرها ، وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم : معنى الآية ، خطاب الأمة بأنهم { خير أمة أخرجت للناس } ، فلفظ { أمة } ، على هذا التأويل اسم جنس كأنه قيل لهم كنتم خير الأمم ، ويؤيد هذا التأويل كونهم شهداء على الناس ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم :

«نحن الآخرون السابقون »{[3415]} الحديث . وروى بهز بن حكيم{[3416]} عن أبيه عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً وهو مسند ظهره إلى الكعبة ، «نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها »{[3417]} قال مجاهد : معنى الآية «كنتم خير الناس » - وقال الحسن : نحن آخرها وأكرمها على الله تعالى{[3418]} ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه : معنى الآية كنتم للناس خير الناس{[3419]} .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : { فأمة } على هذا التأويل ، اسم جنس ، قال أبو هريرة : يجيئون بالكفار في السلاسل فيدخلونهم في الإسلام .

قال القاضي : ولم يبعث نبي إلى الأمم كافة إلا محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو وأمته يدعون إلى الإيمان ويقاتلون العالم عليه ، فهم خير الناس للناس ، وليس يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس لفظ الآية ، لكن يعلم هذا من لفظ آخر ، وهي كقوله صلى الله عليه وسلم : ( أرأف أمتي بأمتي أبو بكر ){[3420]} ، فليس يقتضي هذا اللفظ أن أبا بكر أرأف الناس على الإطلاق ، في مؤمن وكافر .

قال القاضي : والرأفة على الإطلاق ليست بجارية مع الشرع كما يجب ، وأما قوله ، { كنتم } على صيغة الماضي ، فإنها التي بمعنى الدوام ، كما قال : { وكان الله غفوراً رحيماً } [ النساء : 96- 99- 100- 152- الفرقان : 70 ، الأحزاب : 5- 50- 59- 73 ، الفتح : 14 ] ، إلى غير هذا من الأمثلة ، وقال قوم : المعنى كنتم في علم الله ، وقيل : في اللوح المحفوظ ، وقيل فيما أخبر به الأمم قديماً عنكم و { خير } على هذه الأقوال كلها خبر كان ، ويحتمل أن تكون كان التامة ، ويكون { خير أمة } نصباً على الحال ، وهذا يتجه على بعض التأويلات التي ذكرناها دون بعض .

قال القاضي : وهذه الخيرية التي فرضها الله لهذه الأمة إنما يأخذ بحظه منها من عمل هذه الشروط من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله ، وقوله : { تأمرون بالمعروف } وما بعده ، أحوال في موضع نصب ، ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب على جهة التوبيخ المقرون بالنصح ، أنهم لو آمنوا لنحّوا أنفسهم من عذاب الله ، وجاءت لفظة { خير } في هذه الآية وهي صيغة تفضيل ، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير ، وإنما جاز ذلك لما في لفظة { خير } من الشياع وتشعب الوجوه ، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها ، وقد بيّن هذا المعنى في غير هذا الموضع بأوعب من هذا ، وقوله تعالى : { منهم المؤمنون } تنبيه على حال عبد الله بن سلام{[3421]} وأخيه{[3422]} وثعلبه بن سعية{[3423]} وغيرهم ممن آمن ، ثم حكم الله على أكثرهم بالفسق في كفره لأنهم حرفوا وبدلوا وعاندوا بعد معرفتهم بحقيقة أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فهم كفار فسقة في الكفر قد جمعوا المذمتين .


[3415]:- أخرجه البخاري، ومسلم- عن أبي هريرة. "البخاري 2/2 من كتاب الجمعة".
[3416]:- هو أبو مالك بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري البصري، روى عن أبيه، وروى عنه الزهري وابن عون، وخلائق من الأئمة، توفي بعد الأربعين ومائة، وقيل: قبل الستين. "تهذيب الأسماء"، و"الخلاصة". وحكيم والد بهز: هو أبو بهز القشيري البصري التابعي، ثقة معروف. ومعاوية بن حيدة. جد بهز صحابي غزا خراسان ومات بها، له أحاديث صحاح. "تهذيب الأسماء" و"تهذيب التهذيب"، و"الخلاصة"، و"الإصابة"
[3417]:- أخرجه ابن جرير في تفسيره عن قتادة 4/45.
[3418]:- أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم- عن معاوية بن حيدة. "الجامع الصغير" 1/341. و"فتح القدير" للشوكاني 1/340.
[3419]:- أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: (خير الناس للناس يأتون بهم في السلاسل) الحديث. "فتح القدير للشوكاني" 1/340.
[3420]:- أخرجه أبو يعلى في مسنده عن ابن عمر، وهو ضعيف، والحديث بطوله في الجامع الصغير 1/118.
[3421]:- عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي ثم الأنصاري، أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعامين، وكان اسمه الحصين فغيره النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله. قال الطبري: مات في قول جميعهم بالمدينة سنة ثلاث وأربعين. عن ابن عباس قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسد بن عبيد، وأسد أو أسيد بن سعية قالت يهود: ما أتى محمدا إلا شرارنا فأنزل الله تعالى: [ليسوا سواء، من أهل الكتاب- إلى قوله: صالحين]: "الإصابة".
[3422]:- هو ثعلبة بن سلام، روى الطبراني من قول ابن جريج مقطوعا أنه أحد من نزل فيه قوله تعالى: [من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله]. "الإصابة 1/199"
[3423]:- هو ثعلبة بن سعية هو أحد من أسلم من اليهود يوم قريظة فمنعوا دماءهم وأموالهم، لهم خبر في السير يخرج في أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، قال البخاري: توفي ثعلبة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. "الإصابة" و"الاستيعاب 1/211".