المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{ٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡمُنفِقِينَ وَٱلۡمُسۡتَغۡفِرِينَ بِٱلۡأَسۡحَارِ} (17)

والصبر في هذه الآية معناه على الطاعات وعلى المعاصي والشهوات ، والصدق معناه في الأقوال والأفعال ، والقنوت ، الطاعة والدعاء أيضاً ، وبكل يتصف المتقي . والإنفاق معناه في سبيل الله ومظان الأجر كالصلة للرحم وغيرها ، ولا يختص هذا الإنفاق بالزكاة المفروضة . والاستغفار طلب المغفرة من الله تعالى ، وخص تعالى السحر لما فسر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ، ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول ، من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر{[3020]} .

وروي في تفسير قول يعقوب عليه السلام : سوف أستغفر لكم ربي ، أنه أخر الأمر إلى السحر{[3021]} ، وروى إبراهيم بن حاطب{[3022]} عن أبيه قال : سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد يقول : رب أمرتني فأطعتك ، وهذا سحر فاغفر لي ، فنظرت فإذا ابن مسعود{[3023]} ، وقال أنس بن مالك : أمرنا أن نستغفر بالسحر سبعين استغفارة{[3024]} ، وقال نافع : كان ابن عمر يحيي الليل صلاة ثم يقول : يا نافع آسحرنا ؟ فأقول : لا ، فيعاود الصلاة ثم يسأل ، فإذا قلت نعم قعد يستغفر{[3025]} ، فلفظ الآية إنما يعطي طلب المغفرة ، وهكذا تأوله من ذكرناه من الصحابة ، وقال قتادة : المراد بالآية المصلون بالسحر ، وقال زيد بن أسلم : المراد بها الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة وهذا كله يقترن به الاستغفار ، والسحر ، بفتح الحاء وسكونها آخر الليل ، قال الزجاج وغيره : هو قبل طلوع الفجر ، وهذا صحيح لأن ما بعده الفجر هو من اليوم لا من الليلة ، وقال بعض اللغوين : السحر من ثلث الليل الآخر إلى الفجر .

قال الفقيه الإمام : والحديث في التنزل و هذه الآية في الاستغفار يؤيدان هذا ، وقد يجيء في أشعار العرب ما يقتضي أن حكم السحر يستمر فيما بعد الفجر نحو قول إمرىء القيس : [ المتقارب ]

يَعُلُّ بهِ بَرْدَ أنْيابِها . . . إذا غَرَّدَ الطَّائِرُ المُسْتَحِرْ{[3026]}

يقال : أسحر واستحر إذا دخل في السحر ، وكذلك قولهم : نسيم السحر ، يقع لما بعد الفجر ، وكذلك قول الشاعر : [ ربيع بن زياد ] {[3027]}

تجد النساء حواسراً يندبنه . . . قد قمن قبل تبلج الأسحار

فقد قضى أن السحر يتبلج بطلوع الفجر ، ولكن حقيقة السحر في هذه الأحكام الشرعية من الاستغفار المحمود ، ومن سحور الصائم ، ومن يمين لو وقعت إنما هي من ثلث الليل الباقي إلى السحر .


[3020]:- أخرجه الصحيحان وغيرهما من أصحاب المسانيد والسنن بروايات مختلفة، (فتح القدير، وابن كثير، ومجمع الزوائد. 1/153).
[3021]:- أخرجه أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود. (فتح القدير 3/52). والآية هي رقم (98) من سورة يوسف.
[3022]:- لعله إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن حاطب الجمحي، روى عن عبد الله بن دينار وعطاء بن أبي رباح والثقات، وقال ابن القطان: لا يعرف حاله. (تهذيب التهذيب 1/133).
[3023]:- انظر تفسير الطبري 3/ 208، وابن كثير 2/20.
[3024]:- أخرجه عنه ابن جرير وابن مردويه. (فتح القدير 1/294)
[3025]:- رواه ابن أبي حاتم وفيه: هل جاء السحر؟ بدل "أسحرنا" (تفسير ابن كثير 2/20).
[3026]:- العلّ: السقي أو الشرب ثانية، والبرد: الرقيق، واستحر الطائر: غرّد بسحر، والطائر المستحر هو الديك هنا؛ والضمير في "به" يعود إلى الشراب.
[3027]:- هو الربيع بن زياد العبسي يقوله في رثاء مالك بن زهير، (الأغاني 17/130 ط. دار الثقافة، بيروت)، وقد روى صاحب الأغاني بيتا آخر في القصيدة نفسها مشبها لهذا المثبت هنا، وهو: من مثله تمسي النساء حواسرا وتقوم معولة مع الأسحار وقبل البيت الذي ذكره ابن عطية بيت آخر هو: من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار