قال الحرالي : ولما وصف تقوى قلوبهم باطناً وأدب مقالهم ظاهراً وصف لهم{[15518]} أحوال أنفسهم ليتطابق ظاهر أمرهم بمتوسطه وباطنه{[15519]} فقال : { الصابرين } فوصفهم{[15520]} بالصبر إشعاراً بما ينالهم من سجن الدنيا وشدائدها{[15521]} ، والصبر أمدح أوصاف النفس ، به تنحبس{[15522]} عن هواها وعما زين من الشهوات المذكورة بما تحقق من الإيمان بالغيب الموجب لترك{[15523]} الدنيا للآخرة فصبروا{[15524]} عن الشهوات ؛ أما النساء{[15525]} فبالاقتصار على ما ملكوه وأما البنون{[15526]} فبمراعاة أن ما تقدم خير مما تأخر ، قال صلى الله عليه وسلم - يعني فيما{[15527]} رواه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه " لسقط أقدمه بين يدي أحب إليَّ من فارس أخلفه خلفي{[15528]} " وأما الذهب والفضة فبالنظر إليها{[15529]} أصناماً يضر موجودها ، وبالحري{[15530]} أن ينال منها السلامة{[15531]} بنفقة لا يكاد يصل إنفاقها{[15532]} إلى أن يكون كفارة كسبها وجمعها ، فكان الصبر عنها{[15533]} أهون من التخلص منها ؛ وأما الخيل فلما{[15534]} يصحبها من التعزز الممد لخيلاء النفس الذي هو أشد ما على النفس أن تخرج عن زهوها وخيلائها{[15535]} إلى احتمال الضيم{[15536]} والسكون بحب{[15537]} الذل ، يقال : إنه آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرئاسة ؛ وأما الأنعام فبالاقتصار منها على قدر الكفاف ، لأن كل مستزيد{[15538]} تمولاً من الدنيا زائداً على كفاف منه من مسكن أو ملبس أو مركب أو مال فهو محجر على من سواه من عباد الله ذلك الفضل الذي هم أحق به منه ، قال صلى الله عليه وسلم : " لنا غنم{[15539]} مائة لا نريد{[15540]} أن تزيد{[15541]} " الحديث
{ وإن من شيء إلا عندنا خزائنة وما ننزله إلا بقدر معلوم{[15542]} }[ الحجر :21 ] ؛ وأما الحرث فبالاقتصار{[15543]} منه على قدر الكفاية لما يكون راتباً للإلزام ومرصداً للنوائب{[15544]} ومخرجاً للبذر{[15545]} ، فإن أعطاه الله فضلاً أخرجه بوجه من وجوه الإخراج ولو بالبيع ، ولا يمسكه متمولاً{[15546]} لقلبه إلى غيره من الأعيان فيكون محتكراً ، قال عليه الصلاة والسلام كما أخرجه أحمد وأبو يعلى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما " من احتكر أربعين يوماً فقد برىء من الله وبرىء الله منه " فبذلك يتحقق الصبر بحبس النفس عما{[15547]} زين للناس من التمولات من الدنيا الزائدة على الكفاف التي هي حظ من لا خلاق له{[15548]} في الآخرة ، ولذلك يحق أن تكون هذه الكلمات معربة بالنصب مدحاً ، لأن الصفات المتبعة للمدح حليتها{[15549]} النصب في لسان العرب ، وإنما يتبع في الإعراب ما كان لرفع لبس أو تخصيص - انتهى .
ولما كان سن{[15550]} التقوى فوق سن الإيمان عطف أمداحهم كلها بالواو إيذاناً بكمالهم في كل وصف منها وتمكنهم{[15551]} فيء بخلاف ما في آية براءة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى فقال : { والصادقين } قال الحرالي : في عطف الصفات ما يؤذن بكمال الوصف لأن العرب تعطفها{[15552]} إذا كملت وتتبع{[15553]} بعضها بعضاً إذا تركبت{[15554]} والتأمت ، يعني مثل : الرمان حلو حامض - إذا كان{[15555]} غير صادق الحلاوة{[15556]} ولا الحموضة ، ففي العطف إشعار{[15557]} بكمال صبرهم{[15558]} عن العاجلة على ما عينه حكم النظم{[15559]} ، في الآية السابقة ، ومن شأن الصابر{[15560]} عن الدنيا الصدق ، لأن أكثر المداهنة{[15561]} والمراءاة إنما ألجأ إليها التسبب{[15562]} إلى كسب الدنيا ، فإذا رغب عنها لم يحمله على ترك الصدق حامل{[15563]} ، قيتحقق به فيصدق{[15564]} في جميع أموره ، والصدق مطابقة أقواله وأفعاله لباطن حاله في نفسه وعرفان قلبه - انتهى .
{ والقانتين } أي المخلصين لله في جميع أمورهم الدائمين عليه .
ولما ذكر سبحانه وتعالى العمل الحامل عليه خوف الحق ورجاؤه{[15565]} أتبعه ما الحامل عليه ذلك مع الشفقة على الخلق ، لأن من أكرم المنتمي{[15566]} إليك فقد بالغ في إكرامك فقال : { والمنفقين } أي ما رزقهم الله سبحانه وتعالى في كل ما يرضيه ، فإنه لا قوام لشيء من الطاعات إلا بالنفقة . قال الحرالي : فيه إشعار بأن من صبر نوّل{[15567]} ، ومن صدق أعلى ، ومن قنت جل وعظم قدره ، فنوله{[15568]} الله ما يكون له منفقاً ، والمنفق أعلى حالاً من المزكي ، لأن المزكي يخرج ما وجب عليه فرضاً ، والمنفق يجود بما في يده فضلاً - انتهى .
ولما ذكر هذه الأعمال الزاكية الجامعة العالية أتبعها الإشارة إلى أن الاعتراف بالعجز عن الوفاء بالواجب هو العمدة في الخلاص : { والمستغفرين } أي من نقائصهم{[15569]} مع هذه الأفعال والأحوال التي هي نهاية ما يصل إليه الخلق من الكمال { بالأسحار * } التي هي أشق الأوقات استيقاظاً عليهم ، وأحبها راحة{[15570]} لديهم ، وأولاها بصفاء القلوب ، وأقربها إلى الإجابة المعبر عنها في الأحاديث بالنزول كما يأتي بيانه في آية التهجد في سورة الإسراء . قال الحرالي : وهو جمع سحر ، وأصل معناه التعلل عن الشيء بما يقاربه ويدانيه ويكون منه بوجه{[15571]} ما ، فالوقت من الليل الذي يتعلل فيه بدنو الصباح هو السحر ، ومنه السحور{[15572]} ، تعلل{[15573]} عن الغداء{[15574]} ؛ ثم قال : وفي إفهامه تهجدهم في الليل كما قال سبحانه وتعالى :{ كانوا قليلاً من الّيل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون{[15575]} }
[ الذاريات : 17 ، 18 ] فهم يستغفرون من حسناتهم كما يستغفر{[15576]} أهل السيئات من سيئاتهم تبرؤاً{[15577]} من دعوى الأفعال ورؤية الأعمال التئاماً{[15578]} بصدق{[15579]} قولهم في الابتداء : { ربنا إننا{[15580]} آمنا } وكمال{[15581]} الإيمان بالقدر خيره وشره ، فباجتماع{[15582]} هذه الأوصاف السبعة{[15583]} من التقوى والإيمان والصبر والصدق{[15584]} والقنوت والإنفاق والاستغفار كانت الآخرة خيراً لهم من الدنيا{[15585]} وما فيها{[15586]} ، وقد بان{[15587]} بهذا محكم آيات الخلق{[15588]} من متشابهها بعد الإعلام بمحكم آيات الأمر ومتشابهها ، فتم{[15589]} بذلك منزل الفرقان{[15590]} في آيات الوحي المسموع والكون المشهود - انتهى .
ولعله سبحانه وتعالى أشار بهذه الصفات الخمس المتعاطفة إلى دعائم الإسلام الخمس ، فأشار بالصبر إلى الإيمان ، وبالصدق إلى الزكاة المصدقة لدعواه ، وبالقنوت الذي مدار مادته على الإخلاص إلى الصلاة التي هي محل{[15591]} المراقبة ، وبالإنفاق إلى الحج الذي أعظم مقوماته المال ، وبالاستغفار إلى الصيام الذي مبناه التخلي من أحوال البشر والتحلي{[15592]} بحلية الملك لا سيما في القيام ولا سيما في السحر ؛ وسر ترتيبها أنه لما ذكر ما{[15593]} بين العبد والخالق في التوحيد الذي{[15594]} هو العدول أتبعه ما بينه وبين الخلائق في الإحسان ، ولما ذكر عبادة القلب والمال ذكر عبادة البدن الدالة على الإخلاص في الإيمان ، ولما ذكر عبادة البدن مجرداً بعد عبادة{[15595]} المال مجرداً{[15596]} ذكر عبادة ظاهرة مركبة{[15597]} منهما ، شعارها{[15598]} تعرية{[15599]} الظاهر ، ثم أتبعه{[15600]} عبادة بدنية خفية ، عمادها تعرية الباطن ، فختم بمثل ما بدأ به ، وهو ما لا يطلع {[15601]}عليه حق الاطلاع إلا الله سبحانه وتعالى .