قوله تعالى : { الصَّابِرِينَ } إن قدرت { الَّذِينَ يَقُولُونَ } منصوبَ المحل ، أو مجروره - على ما تقدم - كان " الصَّابِرِينَ " نعتاً له - على كلا التقديرين ، فيجوز أن يكون في محل نصب ، وأن يكون في محل جر ، وإن قدرته مرفوعَ المحل تعين نَصْب " الصَّابِرِينَ " بإضمار " أعني " .
المراد بالصابرين في أداء المأمورات ، وترك المحظورات ، وعلى البأساء ، والضراء وحين البأس ، والصادقين في إيمانهم .
قال قتادة : " هم قوم صدقت نِيَّاتُهم ، واستقامت قلوبُهم وألسنتُهم ، فصدقوا في السر والعلانية " .
فالصدق يجري على القول والفعل والنية ، فالصدق في القول مشهور - وهو تجنُّب الكذب - والصدق في الفعل الإتيان به تاماً ، يقال : صدق فلان في القتال ، وصدق في الحكمة ، والصدق في النية العزم الجازم حتى يبلغَ الفعلَ .
" القانِتِينَ " المطيعين ، المُصَلِّين ، والقنوت : عبارة عن الدوام على الطاعة والمواظبة عليها ، " والمنفقين " أموالهم في طاعة الله ، ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه ، وأهله ، وأقاربه ، وصلة رحمه ، وفي الزكاة ، والجهاد ، وسائر وجوه البر .
{ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَار } .
قال مجاهدٌ وقتادة والكلبيُّ : يعني المصلين بالأسحار . {[12]}
وعن زيد بن أسلم : هم الذين يصلون الصبحَ في جماعةٍ . {[13]}
وقال الحسنُ : مدوا الصلاة إلى السَّحَر ، ثم استغفروا . {[14]}
وقال نافع : كان ابن عمر يُحْيِي الليل ، ثم يقول : يا نافِعُ ، أسْحَرْنَا ؟ فيقول : لا ، فيعاوِدُ الصلاةَ ، فإذا قلتُ : نَعَمْ ، قعد يستغفر اللهَ ، ويدعو حتى يُصْبحَ . {[15]}
وعن أبي هريرةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يَنْزِلُ اللهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةِ - حِينَ يبقى ثُلُثُ اللَّيْلِ - فَيَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ ، أنا الْملِكُ ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَن ذَا الَّذِي يَسْالُنِي فَأُعْطِيهُ ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ{[16]} ؟ " رواه مسلم .
قال القرطبيُّ : وقد اختلف في تأويله ، وأوْلى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي - مفسَّراً - عن أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما - قالا : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إن الله - عز وجل - يُمْهلُ حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأوَّلُ ، ثُمَّ يَأمرُ مُنَادِياً ، يَقُولُ : هَلْ مِن دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى{[17]} ؟ " ، صححه أبو محمد عبدُ الحق ، وهو يرفع الإشكال ، ويوضِّح كلَّ احتمال ، وأن الأول من باب حذف المضاف ، أي : ينزل مَلَكُ رَبِّنَا ، فيقول . وقد رُوِيَ " يُنْزَلُ " - بضمِّ الياءِ - وهو يُبَيِّن ما ذكرنا .
وحكي عن الحسن أن لُقْمانَ قال لابنه : " لاَ تَكُونَنَّ أعْجَزَ مِنْ هَذَا الدِّيكِ ؛ يُصَوِّتُ بالأسْحَارِ وَأنْتَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِكَ " . واعلم أن وقت السَّحَر أطيبُ أوقاتِ النومِ ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة ، وأقبل على العبوديةِ ، كانت الطاعة أكملَ ، وأشقَّ ، فيكثر ثوابُها ، وأيضاً فإن النوم هو الموت الأصغر ، وعند السحر كأنّ الأموات تصير أحياءً ، فيكون وقتاً للوجود العام .
و " الأسْحَار " جمع سَحَرٍ - بفتح العين وسكونها - واختلف أهلُ اللغة في السَّحَرِ ، ايُّ وقت هو ؟
فقال الزّجّاج{[18]} وجماعة : إنه وقتٌ قبلَ طلوعِ الفجر ، ومنه تسحر ، أي : أكل في ذلك الوقت واسْتَحَرَ- إذا سافر فيه .
بَكَرْنَ بُكُوراً ، وَاسْتَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ *** فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفمِ{[19]}
وقال الرَّاغب{[20]} : " السَّحَر : اختلاط ظلام آخرِ الليل بضياءِ النهارِ ، وجُعِل اسماً لذلك الوقت ، ويقال : لَقِيتُه بأعلى السحرين ، والْمُسْحِر : الخارج سَحَراً ، والسّحور : اسم للطعام المأكول سَحَراً ، والتَّسَحُّر : أكلُه " .
والمُسْتَحِر : الطائر الصيَّاح في السَّحَر .
يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أنْيَابِهَا *** إذَا غَرَّدَ الطَّائِرُ الْمُسْتَجِرْ{[21]}
وقال بعضهم : أسْحَر الطائرُ ، أي : صاح ، وتحرك في صياحه ، وأنشد البيت ، وهذا وإن كان مطلقاً فإنما يريد ما ذكر بالصياح في السَّحر ، ويقال : أسْحَر الرجلُ إذا دَخَل في وقت السحر كأظهر - أي : دخل في وقت الظهر .
وَأدْلجَ مِن طَيْبَة مُسْرِعاً *** فَجَاءَ إلَيْنَا وَقَدْ أسْحَرَا{[22]}
وقال بعضهم : السَّحَرُ من ثُلُث الليل الأخير إلى طلوع الفجر .
وقال بعضهم - أيضاً - : السحر - عند العرب - من آخر الليل ، ثم يستمر حكمه إلى الإسفار كلِّه ، يقال له سحر قيل : وسمي السحر سحراً ؛ لخفائه ، ومنه قيل للسِّحْرِ سِحْرٌ ؛ للُطْفِهِ وخفائه .
والسَّحْر - بسكون الحاء - منتهى قصبة الرّكبة ، ومنه قول عائشة - رضي الله عنها - : " مَاتَ بَيْنَ سَحْري وَنَحْري{[23]} " سُمِّي بذلك لخفائه .
و " سَحَر " فيه كلام كثير بالنسبة إلى الصرْف وعدمه ، والتصرف وعدمه ، والإعراب وعدمه ، يأتي تفصيله - إن شاء الله تعالى - .
فإن قيل : كيف دخلت الواوُ على هذه الصفاتِ ، وكلُّها لقبيل واحد ؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أن الصفاتِ إذا تكرَّرَت جاز أن يُعْطَف بعضُها على بعض بالواو - وإن كان الموصوف بها واحداً - ، ودخول الواو - في مثل هذا - تفخيم ؛ لأنه يُؤذِن بأن كل صفة مستقلة بالمدح .
الثاني : أن هذه الصفات متفرقة فيهم ، فبعضُهم صابر ، وبعضُهم صادق ، فالموصوف بها متعدِّد . هذا كلام أبي البقاء .
وقال الزمخشريُّ : " الواو المتوسطة بين الصفاتِ للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها " .
قال أبو حيّان : " ولا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال " .
قال شهاب الدين{[24]} : " قد علمه علماء البيان ، وتقدم تحقيقه في أول سورة البقرة ، وما أنشدته على ذلك من لسان العرب " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.