اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡمُنفِقِينَ وَٱلۡمُسۡتَغۡفِرِينَ بِٱلۡأَسۡحَارِ} (17)

قوله تعالى : { الصَّابِرِينَ } إن قدرت { الَّذِينَ يَقُولُونَ } منصوبَ المحل ، أو مجروره - على ما تقدم - كان " الصَّابِرِينَ " نعتاً له - على كلا التقديرين ، فيجوز أن يكون في محل نصب ، وأن يكون في محل جر ، وإن قدرته مرفوعَ المحل تعين نَصْب " الصَّابِرِينَ " بإضمار " أعني " .

فصل

المراد بالصابرين في أداء المأمورات ، وترك المحظورات ، وعلى البأساء ، والضراء وحين البأس ، والصادقين في إيمانهم .

قال قتادة : " هم قوم صدقت نِيَّاتُهم ، واستقامت قلوبُهم وألسنتُهم ، فصدقوا في السر والعلانية " .

فالصدق يجري على القول والفعل والنية ، فالصدق في القول مشهور - وهو تجنُّب الكذب - والصدق في الفعل الإتيان به تاماً ، يقال : صدق فلان في القتال ، وصدق في الحكمة ، والصدق في النية العزم الجازم حتى يبلغَ الفعلَ .

" القانِتِينَ " المطيعين ، المُصَلِّين ، والقنوت : عبارة عن الدوام على الطاعة والمواظبة عليها ، " والمنفقين " أموالهم في طاعة الله ، ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه ، وأهله ، وأقاربه ، وصلة رحمه ، وفي الزكاة ، والجهاد ، وسائر وجوه البر .

{ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَار } .

قال مجاهدٌ وقتادة والكلبيُّ : يعني المصلين بالأسحار . {[12]}

وعن زيد بن أسلم : هم الذين يصلون الصبحَ في جماعةٍ . {[13]}

وقال الحسنُ : مدوا الصلاة إلى السَّحَر ، ثم استغفروا . {[14]}

وقال نافع : كان ابن عمر يُحْيِي الليل ، ثم يقول : يا نافِعُ ، أسْحَرْنَا ؟ فيقول : لا ، فيعاوِدُ الصلاةَ ، فإذا قلتُ : نَعَمْ ، قعد يستغفر اللهَ ، ويدعو حتى يُصْبحَ . {[15]}

وعن أبي هريرةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يَنْزِلُ اللهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةِ - حِينَ يبقى ثُلُثُ اللَّيْلِ - فَيَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ ، أنا الْملِكُ ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَن ذَا الَّذِي يَسْالُنِي فَأُعْطِيهُ ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ{[16]} ؟ " رواه مسلم .

قال القرطبيُّ : وقد اختلف في تأويله ، وأوْلى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي - مفسَّراً - عن أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما - قالا : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إن الله - عز وجل - يُمْهلُ حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأوَّلُ ، ثُمَّ يَأمرُ مُنَادِياً ، يَقُولُ : هَلْ مِن دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى{[17]} ؟ " ، صححه أبو محمد عبدُ الحق ، وهو يرفع الإشكال ، ويوضِّح كلَّ احتمال ، وأن الأول من باب حذف المضاف ، أي : ينزل مَلَكُ رَبِّنَا ، فيقول . وقد رُوِيَ " يُنْزَلُ " - بضمِّ الياءِ - وهو يُبَيِّن ما ذكرنا .

وحكي عن الحسن أن لُقْمانَ قال لابنه : " لاَ تَكُونَنَّ أعْجَزَ مِنْ هَذَا الدِّيكِ ؛ يُصَوِّتُ بالأسْحَارِ وَأنْتَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِكَ " . واعلم أن وقت السَّحَر أطيبُ أوقاتِ النومِ ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة ، وأقبل على العبوديةِ ، كانت الطاعة أكملَ ، وأشقَّ ، فيكثر ثوابُها ، وأيضاً فإن النوم هو الموت الأصغر ، وعند السحر كأنّ الأموات تصير أحياءً ، فيكون وقتاً للوجود العام .

و " الأسْحَار " جمع سَحَرٍ - بفتح العين وسكونها - واختلف أهلُ اللغة في السَّحَرِ ، ايُّ وقت هو ؟

فقال الزّجّاج{[18]} وجماعة : إنه وقتٌ قبلَ طلوعِ الفجر ، ومنه تسحر ، أي : أكل في ذلك الوقت واسْتَحَرَ- إذا سافر فيه .

قال زُهَيْر : [ الطويل ]

بَكَرْنَ بُكُوراً ، وَاسْتَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ *** فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفمِ{[19]}

وقال الرَّاغب{[20]} : " السَّحَر : اختلاط ظلام آخرِ الليل بضياءِ النهارِ ، وجُعِل اسماً لذلك الوقت ، ويقال : لَقِيتُه بأعلى السحرين ، والْمُسْحِر : الخارج سَحَراً ، والسّحور : اسم للطعام المأكول سَحَراً ، والتَّسَحُّر : أكلُه " .

والمُسْتَحِر : الطائر الصيَّاح في السَّحَر .

قال الشاعر : [ المتقارب ]

يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أنْيَابِهَا *** إذَا غَرَّدَ الطَّائِرُ الْمُسْتَجِرْ{[21]}

وقال بعضهم : أسْحَر الطائرُ ، أي : صاح ، وتحرك في صياحه ، وأنشد البيت ، وهذا وإن كان مطلقاً فإنما يريد ما ذكر بالصياح في السَّحر ، ويقال : أسْحَر الرجلُ إذا دَخَل في وقت السحر كأظهر - أي : دخل في وقت الظهر .

قال : [ المتقارب ]

وَأدْلجَ مِن طَيْبَة مُسْرِعاً *** فَجَاءَ إلَيْنَا وَقَدْ أسْحَرَا{[22]}

ومثله : استحر أيضاً .

وقال بعضهم : السَّحَرُ من ثُلُث الليل الأخير إلى طلوع الفجر .

وقال بعضهم - أيضاً - : السحر - عند العرب - من آخر الليل ، ثم يستمر حكمه إلى الإسفار كلِّه ، يقال له سحر قيل : وسمي السحر سحراً ؛ لخفائه ، ومنه قيل للسِّحْرِ سِحْرٌ ؛ للُطْفِهِ وخفائه .

والسَّحْر - بسكون الحاء - منتهى قصبة الرّكبة ، ومنه قول عائشة - رضي الله عنها - : " مَاتَ بَيْنَ سَحْري وَنَحْري{[23]} " سُمِّي بذلك لخفائه .

و " سَحَر " فيه كلام كثير بالنسبة إلى الصرْف وعدمه ، والتصرف وعدمه ، والإعراب وعدمه ، يأتي تفصيله - إن شاء الله تعالى - .

فإن قيل : كيف دخلت الواوُ على هذه الصفاتِ ، وكلُّها لقبيل واحد ؟ ففيه جوابان :

أحدهما : أن الصفاتِ إذا تكرَّرَت جاز أن يُعْطَف بعضُها على بعض بالواو - وإن كان الموصوف بها واحداً - ، ودخول الواو - في مثل هذا - تفخيم ؛ لأنه يُؤذِن بأن كل صفة مستقلة بالمدح .

الثاني : أن هذه الصفات متفرقة فيهم ، فبعضُهم صابر ، وبعضُهم صادق ، فالموصوف بها متعدِّد . هذا كلام أبي البقاء .

وقال الزمخشريُّ : " الواو المتوسطة بين الصفاتِ للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها " .

قال أبو حيّان : " ولا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال " .

قال شهاب الدين{[24]} : " قد علمه علماء البيان ، وتقدم تحقيقه في أول سورة البقرة ، وما أنشدته على ذلك من لسان العرب " .

والباء في قوله : " بِالأسْحَارِ " بمعنى " في " .


[12]:سقط في ب.
[13]:ستأتي في "المؤمنون" 1 وينظر: شرح الطيبة 4/ 145.
[14]:قال سيبويه في الكتاب 3/265 وزعم من يوثق به: أنه سمع من العرب من يقول: "ثلاثة أربعه" طرح همزة أربعه على الهاء ففتحها، ولم يحولها تاء لأنه جعلها ساكتة والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيدا.
[15]:ينظر: الكتاب 4/ 166.
[16]:ينظر: الدر المصون 2/35.
[17]:ينظر: السبعة 200، والكشف 1/334، والحجة، 3/6 والبحر المحيط 2/389، والدر المصون 2/5.
[18]:قال سيبويه 3/25 "فإن قلت: ما بالي أقول: واحد اثنان، فأشم الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف فلأن الواحد اسم متمكن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج وليس أصلها الإدراج...".
[19]:ينظر: المشكل 1/ 123.
[20]:ينظر: الكتاب 2/107.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.
[22]:سقط في ب.
[23]:ينظر: الدر المصون 2/6.
[24]:ينظر ديوانه ص 216، ولسان العرب (ثور)، وخزانة الأدب 7/210، ورصف المباني ص 41 والمصنف 1/68، والدر المصون 2/6.