البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡمُنفِقِينَ وَٱلۡمُسۡتَغۡفِرِينَ بِٱلۡأَسۡحَارِ} (17)

السحر : بفتح الحاء وسكونها ، قال قوم منهم الزجاج : الوقت قبل طلوع الفجر ، ومنه يقال : تسحر أكل في ذلك الوقت ، واستحر : سار فيه قال .

بكرن بكوراً واستحرت بسحرة *** فهنّ لوادي الرس كاليد للفم

واستحر الطائر صاح وتحرك فيه قال :

يعل به برد أنيابها *** اذا غرّد الطائر المستحر

وأسحر الرجل واستحر ، دخل في السحر قال :

وأدلج من طيبة مسرعاً *** فجاء إلينا وقد أسحرا

وقال بعض اللغويين السحر : من ثلث الليل الآخر إلى الفجر ، وجاء في بعض الأشعار عن العرب أن السحر يستمر حكمه فيما بعد الفجر .

وقيل : السحر عند العرب يكون من آخر الليل ثم يستمر إلى الاسفار .

وأصل السحر الخفاء للطفه ، ومنه السحر والسحر .

{ الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار } لما ذكر الإيمان بالقول ، أخبر بالوصف الدّال على حبس النفس على ما هو شاق عليها من التكاليف ، فصبروا على أداء الطاعة ، وعن اجتناب المحارم ، ثم بالوصف الدال على مطابقة الاعتقاد في القلب للفظ الناطق به اللسان ، فهم صادقون فيما أخبروا به من قولهم : { ربنا إننا آمنا } وفي جميع ما يخبرون .

وقيل : هم الذين صدقت نياتهم ، واستقامت قلوبهم وألسنتهم في السر والعلانية ، وهذا راجع للقول الذي قبله ، ثم بوصف القنوت ، وتقدم تفسيره في قوله : { كل له قانتون } فأغنى عن إعادته ، ثم بوصف الإنفاق ، لأن ما تقدم هو من الأوصاف التي نفعها مقتصر على المتصف بها لا يتعدى ، فأبى في هذا بالوصف المتعدي إلى غيره ، وهو الإنفاق ، وحذفت متعلقات هذه الأوصاف للعلم بها ، فالمعنى : الصابرين على تكاليف ربهم ، والصادقين في أقوالهم ، والقانتين لربهم ، والمنفقين أموالهم في طاعته ، والمستغفرين الله لذنوبهم في الأسحار ولما ذكر أنهم رتبوا طلب المغفرة على الإيمان الذي هو أصل التقوى ، أخبر أيضاً عنهم ، أنهم عند اتصافهم بهذه الأوصاف الشريفة ، هم مستغفرون بالأسحار ، فليسوا يرون اتصافهم بهذه الأوصاف الشريفة مما يسقط عنهم طلب المغفرة ، وخص السحر بالذكر ، وإن كانوا مستغفرين دائماً ، لأنه مظنة الإجابة ، كما صح في الحديث : « أنه تعالى ، تنزه عن سمات الحدوث ، ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر » وكانت الصحابة : ابن مسعود ، وابن عمر ، وغيرهم يتحرون الأسحار ليستغفروا فيها ، وكان السحر مستحباً فيه الإستغفار لأن العبادة فيه أشق ، ألا تراهم يقولون : إن إغفاءة الفجر من ألذ النوم ؟ ! ولأن النفس تكون إذ ذاك أصفى ، والبدن أقل تعباً ، والذهن أرق وأحد ، إذ قد أجم عن الأشياء الشاقة الجسمانية والقلبية بسكون بدنه ، وترك فكره بانغماره في وارد النوم .

وقال الزمخشري : إنهم كانوا يقدمون قيام الليل ، فيحسن طلب الحاجة فيه { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } انتهى .

ومعناه ، عن الحسن وهذه الأوصاف الخمسة هي لموصوف واحد وهم : المؤمنون ، وعطفت بالواو ولم تتبع دون عطف لتباين كل صفة من صفة ، إذ ليست في معنى واحد ، فينزل تغاير الصفات وتباينها منزلة تغاير الذوات فعطفت .

وقال الزمخشري : والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها .

انتهى ولا نعلم العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال .

قال المفسرون في الصابرين : صبروا عن المعاصي .

وقيل : عن المصائب .

وقيل : ثبتوا على العهد الأول .

وقيل : هم الصائمون .

وقالوا في الصادقين : في الأقوال .

وقيل : في القول والفعل والنية .

وقيل : في السر والعلانية .

وقالوا في القانتين : الحافظين للغيب .

وقال الزجاج : القائمين على العبادة .

وقيل : القائمين بالحق .

وقيل : الداعين المتضرعين .

وقيل : الخاشعين .

وقيل : المصلين .

وقالوا في المنفقين : المخرجين المال على وجه مشروع .

وقيل : في الجهاد .

وقيل : في جميع أنواع البر .

وقال ابن قتيبة : في الصدقات .

وقالوا في المستغفرين : السائلين المغفرة ، قاله ابن عباس وقال ابن مسعود وابن عمر ، وأنس ، وقتادة السائلين المغفرة وقت فراغ البال وخفة الأشغال ، وقال قتادة أيضاً : المصلين بالأسحار .

وقال زيد بن أسلم : المصلين الصبح في جماعة .

وهذا الذي فسروه كله متقارب .