الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡمُنفِقِينَ وَٱلۡمُسۡتَغۡفِرِينَ بِٱلۡأَسۡحَارِ} (17)

قوله تعالى : { الصَّابِرِينَ } : إنْ قَدَّرْتَ " الذين يقولون " منصوبَ المحل أو مجرورَه على ما تقدَّم كان " الصابرين " نعتاً له على كلا التقديرين ، فيجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصب وأن يكون في محل جر ، وإنْ قَدَّرْته مرفوع المحل تعيَّن نصب " الصابرين " بإضمار أعني .

والأسْحار جمع " سَحَر " بفتح العين وسكونها . واختلف أهل اللغة في السَّحَر : أيُّ وقتٍ هو ؟ فقال جماعةٌ منهم الزجاج : " إنه الوقت قبل طلوع الفجر " ، ومنه " تَسَحَّر " أي أكل في ذلك الوقت ، وأسْحَرَ إذا سار فيه ، قال زهير :

بَكَرْنَ بُكوراً واسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ *** فهنَّ ووادي الرَّسِّ كاليدِ للفَم

قال الراغب : " السَّحَرُ : اختلاطُ ظلامِ آخر الليل بضياءِ النهار ، وجُعِل اسماً لذلك الوقت ، ويقال : " لَقيته بأعلى سَحَرَيْن " ، والمُسْحِرُ : الخارجُ سَحَراً ، والسَّحورُ : اسمُ للطعامِ المأكولِ سَحَراً ، والتسَحُّرُ أكْلُه " . والمُسْتَحِرُ : الطائر الصَّيَّاحُ في السَّحَر ، قال :

يُعَلُّ به بَرْدُ أنيابِها *** إذا غَرَّدَ الطائرُ المُسْتَحِرْ

وقال بعضُهم : " أَسْحَرَ الطَائر أي : صاحَ وتحرَّك في صياحه " وأنشد البيت . وهذا وإنْ كان مطلقاً ، وإنما يريد ما ذكرْتُه بالصِّياح في السحر ، ويقال : أَسْحَر الرجل : أي دخل في وقتِ السَّحَر كأَظْهَرَ أي : دخل في وقت الظُّهر ، قال :

وأَدْلَجَ مِنْ طِيْبَةٍ مسرعاً *** فجاءَ إلينا وقد أَسْحَرَا

ومثلُه : " اسْتَحَرَ " أيضاً . وقال بعضُهم : " السَّحَرُ من ثلث الليل الأخير إلى طلوع الفجر " وقال بعضهم أيضاً : " السَّحَرُ عند العرب من آخر الليل ، ثمَ يَسْتمر حكمُه إلى الإِسفار ، كلُّه يقال له : سَحَر " . قيل : وسُمِّي السَّحَرُ سَحَراً لخفائِه ، ومنه قيل : للسِّحْر : سِحْرِ لِلُطْفِه وخَفَائه .

والسَّحْر بسكون الحاء مُنْتهى قَصَبةِ الرئة ، ومنه قولُ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : " ماتَ بين سَحْري ونَحْري " سُمِّي بذلك لخفائِه ، و

" سَحَر " فيه كلام كثير ، بالنسبةِ إلى الصرف وعدمه ، والتصرفِ وعدمهِ ، والإِعرابِ وعدمِه ، يأتي تفصيلُها إن شاء الله تعالى عند ذِكْرِهِ إذ هو الأليقُ به .

وقوله : { وَالصَّادِقِينَ } وما عُطِف عليه . إن قيل : كيف دَخَلَتِ الواوُ على هذه الصفاتِ وكلُّها لقبيلٍ واحد ؟ ففيه جوابان ، أحدُهما أنَّ الصفاتِ إذا تكرَّرت جازَ أن يُعْطَفَ بعضُها على بعضٍ بالواوِ ، وإنُ كانَ الموصوفُ بها واحداً ، ودخولُ الواوِ في مثل هذا تفخيمٌ ، لأنه يُؤْذِنُ بأن كلَّ صفةٍ مستقلةٌ بالمدحِ . والجوابُ الثاني : أن هذه الصفاتِ متفرقةٌ فيهم ، فبعضُهم صابرٌ ، وبعضُهم صادِقٌ ، فالموصوفُ بها متعدِّدٌ ، هذا كلامُ أبي البقاء .

وقال الزمخشري : " الواوُ المتوسطةُ بين الصفاتِ للدلالةِ على كمالهم في كلِّ واحدة منها " . قال الشيخ : " ولا نعلمُ العطفَ في الصفة بالواو يَدُّلُّ على الكمالِ " قلت : قد عَلِمَه علماءُ البيان ، وقد تقدَّم لك تحقيقُ هذه المسألةِ في أوائلِ سورة البقرة ، وما أنشدْتُه على ذلك من لسانِ العرب . والباء في " بالأسحارِ " بمعنى في .