المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (54)

ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل الكافرين بعيسى فقال : { ومكروا } يريد تحيلهم في أخذ عيسى للقتل بزعمهم ، ويروى أنهم تحيلوا له ، وأذكوا عليه العيون{[3203]} حتى دخل هو والحواريون بيتاً فأخذوهم فيه ، فهذا مكر بني إسرائيل ، وجازاهم الله تعالى بأن طرح شبه عيسى على أحد الحواريين ورفع عيسى ، وأعقب بني إسرائيل مذلة وهواناً في الدنيا والآخرة ، فهذه العقوبة هي التي سماها الله مكراً في قوله { ومكر الله } وهذا مهيع أن تسمى العقوبة باسم الذنب وإن لم تكن في معناه ، وعلى هذا فسر جمهور المفسرين الآية ، وعلى أن عيسى قال للحواريين : من يصبر فيلقى عليه شبهي فيقتل وله الجنة ؟ فقال أحدهم - أنا - فكان ذلك ، وروى قوم أن بني إسرائيل دست يهودياً جاسوساً على عيسى حتى صحبه ودلهم عليه ودخل معه البيت فلما أحيط بهم ألقى الله شبه عيسى على ذلك الرجل اليهودي فأخذ وصلب ، فهذا معنى قوله : { ومكروا ومكر الله } وهذه أيضاً تسمية عقوبة باسم الذنب ، والمكر في اللغة ، السعي على الإنسان دون أن يظهر له ذلك ، بل أن يبطن الماكر ضد ما يبدي ، وقوله { والله خير الماكرين } معناه في أنه فاعل حق في ذلك ، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب ، لأنه في الأباطيل يحتاج إلى التحيل ، والله سبحانه أشد بطشاً وأنفذ إرادة ، فهو خير من جهات لا تحصى ، لا إله إلا هو{[3204]} ، وذكر حصر عيسى عليه السلام ، وعدة أصحابه به وأمر الشبه وغير ذلك من أمره سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .


[3203]:- أذكوا العيون: بثوا الجواسيس والطلائع، وفي بعض النسخ: أذكوا له.
[3204]:- سأل رجل الجنيد فقال: كيف رضي الله لنفسه المكر وقد عاب به غيره؟ فقال: لا أدري ما تقول، ولكن أنشدني فلان الظهراني: ويقبح من سواك الفعل عندي فتفعله فيحسن منك ذاكا ثم قال: قد أجبتك إن كنت تعقل.