البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (54)

المكر : الخداع والخبث وأصله الستر ، يقال : مكر الليل إذا أظلم واشتقاقه من المكر ، وهو شجر ملتف ، فكان الممكور به يلتف به المكر ، ويشتمل عليه ، ويقال : امرأة ممكورة إذا كانت ملتفة الخلق .

والمكر : ضرب من النبات .

تعالى : تفاعل من العلو ، وهو فعل ، لاتصال الضمائر المرفوعة به ، ومعناه : استدعاء المدعوّ من مكانه إلى مكان داعيه ، وهي كلمة قصد بها أولاً تحسين الأدب مع المدعو ، ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدّوه ولبهيمته ونحو ذلك .

{ ومكروا ومكر الله } الضمير في : مكروا ، عائد على من عاد عليه الضمير في : { فلما أحسّ عيسى منهم الكفر } وهم : بنو إسرائيل ، ومكرهم هو احتيالهم في قتل عيسى بأن وكلوا به من يقتله غيلة ، وسيأتي ذكر كيفية حصره وحصر أصحابه في مكان ، ورومهم قتله وإلقاء الشبه على رجل ، وقتل ذلك الرجل وصلبه في مكانه ، إن شاء الله .

{ ومكر الله } مجازاتهم على مكرهم سمى ذلك مكراً ، لأن المجازاة لهم ناشئة عن المكر ، كقوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وقوله { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } وكثيراً ما تسمى العقوبة باسم الذنب ، وإن لم تكن في معناه .

وقيل : مكر الله بهم هو ردّهم عما أرادوا برفع عيسى إلى السماء ، وإلقاء شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل .

وقال الأصم : مكر الله بهم أن سلط عليهم أهل فارس فقتلوهم وسبوا ذراريهم وذكر ابن إسحاق : أن اليهود غزوا الحواريين بعد رفع عيسى ، فأخذوهم وعذبوهم ، فسمع بذلك ملك الروم ، وكان ملك اليهود من رعيته ، فأنقذهم ثم غزا بني إسرائيل وصار نصرانياً ، ولم يظهر ذلك .

ثمَ ولي ملك آخر بعدُ وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحوٍ من أربعين سنة ، فلم يترك فيه حجراً على آخر ، وخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز .

وقال المفضل : ودبروا ودبر الله ، والمكر لطف التدبير .

وقال ابن عيسى : المكر قبيح ، وإنما جاز في صفة الله تعالى على مزاوجة الكلام وقيل : مكر الله بهم إعلاء دينه وقهرهم بالذل ، ومكرهم لزومهم إبطال دينه .

والمكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر في خفية ، وذلك غير ممتنع وقيل : المكر الأخذ بالغفلة لمن استحقه ، وسأل رجل الجنيد ، فقال : كيف رضي الله سبحانه لنفسه المكر وقد عاب به غيره ؟ فقال : لا أدري ما تقول ، ولكن أنشدني فلان الظهراني :

ويقبح من سواك الفعل عندي *** فتفعله فيحسن منك ذاكا

ثم قال : قد أجبتك إن كنت تعقل .

{ والله خير الماكرين } معناه أي : المجازين أهل الخير بالفضل وأهل الجور بالعدل ، لأنه فاعل حق في ذلك ، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب ، وقال تعالى : { والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً }

وقيل : خير ، هنا ليست للتفضيل ، بل هي : كهي في قوله : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً } وقال حسان .

فشركما لخيركما الفداء *** وفي هذه الآية من ضروب البلاغة : الاستعارة في : أحس ، إذ لا يحس إلا ما كان متجسداً ، والكفر ليس بمحسوس ، وإنما يعلم ويفطن به ، ولا يدرك بالحس إلاَّ إن كان أحس ، بمعنى رأى ، أو بمعنى : سمع منهم كلمة الكفر ، فيكون : أحس ، لا استعارة فيه ، إذ يكون أدرك ذلك منهم بحاسة البصر ، أو بحاسة الأذن ، وتسمية الشيء باسم ثمرته .

قال الجمهور : أحس منهم القتل ، وقتل نبي من أعظم ثمرات الكفر .

والسؤال والجواب في : { قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون } والتكرار في : من أنصاري إلى الله ، وأنصار الله ، وآمنا بالله ، وآمنا بما أنزلت ، ومكروا ومكر الله ، والماكرين ، وفي هذا التجنيس المماثل ، والمغاير ، والحذف ، في مواضع .