غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (54)

42

{ ومكروا } يعني كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر { ومكر الله } المكر في اللغة السعي في خفية ومداجاة . قال الزجاج : يقال مكر الليل وأمكر إذا أظلم . وقيل : أصله من إجماع الأمر وإحكامه ، ومنه امرأة ممكورة مجتمعة الخلق . فلما كان المكرر رأياً محكماً قوياً مصوناً عن جهات النقض والفتور لا جرم سمي مكراً . أما مكرهم بعيسى عليه السلام فهو أنهم هموا بقتله ، وأما مكر الله بهم فهو أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال السوء إليه . روي أن ملك اليهود أراد قتل عيسى عليه السلام وكان جبريل لا يفارقه ساعة ، فأمره جبريل أن يدخل بيتاً فيه روزنة . فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل من تلك الروزنة وكان قد ألقى شبهه على غيره ممن وكل به ليقتله غيلة فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق : فرقة قالت : كان الله فينا فذهب . وأخرى قالت : كان ابن الله . وأخرى قالت : كان عبد الله ورسوله . وقيل : إن الحواريين كانوا اثني عشر ، وكانوا مجتمعين في بيت ، فنافق واحد منهم ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى عليه السلام . وذكر محمد بن إسحق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى فشمسوهم ولقوا منهم الجهد . فسمع بذلك ملك الروم . وكان ملك اليهود من رعيته فقيل : إنه قتل رجلاً من بني إسرائيل ممن يحب أمرك ، وكان يخبرهم أنه رسول الله وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وفعل ما فعل فقال : لو علمت ذلك ما خليت بينه وبينهم . ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه ، فتابعهم على دنيهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها ، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقاً عظيماً ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم . وكان اسم هذا الملك " طباريس " ، وهو صار نصرانياً إلا أنه ما أظهر ذلك . ثم إنه جاء بعده ملك آخر يقال له " ملطيس " وغزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بنحو من أربعين سنة ، فقتل وسبى ولم يترك في حاشية بيت المقدس حجراً على حجر ، فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز ، فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح والهم بقتله . وقيل : إنهم مكروا في إخفاء أمره وإبطال دينه ، ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل أعداءه وهم اليهود { والله خير الماكرين } أقواهم مكراً وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب .

واعلم أن المكر إن كان عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر فهو في حق الله تعالى محال ، فاللفظ إذن من المتشابهات فيجب أن يؤول بأن جزاء المكر يسمى مكراً كقوله :{ وجزاء سيئة سيئة مثلها }[ الشورى : 40 ] أو بأنه تعالى عاملهم معاملة من يمكر وهو عذابهم على سبيل الاستدراج . وإن كان المكر عبارة عن التدبير المحكم الكامل لم يكن اللفظ متشابهاً لأنه غير ممتنع في حق الله إلا أنه قد اختص في العرف بالتدبير في إيصال الشر إلى الغير .

/خ60