المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{مُّذَبۡذَبِينَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (143)

و { مذبذبين } معناه : مضطربين لا يثبتون على حال : والتذبذب : الاضطراب بخجل أو خوف أو إسراع في مشي ونحوه ، ومنه قول النابغة :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ترى كل ملك دونها يتذبذب{[4342]}

ومنه قول الآخر : [ البعيث بن حريث ] :

خَيَالٌ لأُمِّ السَّلْسَبيلِ وَدُونَها مَسِيرةُ شَهْرٍ للْبَرِيدِ المُذَبْذَبِ{[4343]}

بكسر الذال الثانية ، قال أبو الفتح : أي المهتز القلق الذي لا يثبت ، ولايتمهل فهؤلاء المنافقون مترددون بين الكفار والمؤمنين ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين »{[4344]} فالإشارة بذلك إلى حالي الكفر والإيمان ، وأشار إليه وإن لم يتقدم ذكره ، لظهور تضمن الكلام له ، كما جاء { حتى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] { وكل من عليها فان }{[4345]} وقرأ جمهور الناس «مذبذَبين » بفتح الذال الأولى والثانية ، وقرأ ابن عباس وعمرو بن فائد ، «مذَبذِبين » بكسر الذال الثانية وقرأ أبي بن كعب «متذبذِبين » بالتاء وكسر الذال الثانية وقرأ الحسن بن أبي الحسن «مَذَبذَبين » بفتح الميم والذالين وهي قراءة مردودة وقوله تعالى : { فلن تجد له سبيلاً } معناه سبيل هدى وإرشاد .


[4342]:- البيت بتمامه- وقد قاله يخاطب النعمان بن المنذر ويمدحه: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب؟ يريد: إن الله أعطاك منزلة ومكانة يضطرب أمامها ويخجل كل ملك آخر.
[4343]:- البيت للبعيث بن حريث، وبعده –كما في الحماسة-: فقلت لها أهلا وسهلا ومرحبا فردت بتأهيل وسهل ومرحب والمذبذِب بكسر الذال الثانية معناه: "الممتر القلق الذي لا يثبت ولا يتمهل" قال ابن جني.
[4344]:- رواه مسلم، وأحمد في مسنده، والنسائي- عن ابن عمر، ونصه كاملا: (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، لا تدري أيهما تتبع). والعائرة: مؤنث العائر- ومعناها فسّره الحديث نفسه.
[4345]:- الآية الأولى رقم (32) من سورة (ص)- وهي قوله تعالى: {فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب}- يعني الشمس، أضمرها ولم يجر لها ذكر. والآية الثانية رقم (26) من سورة (الرحمان) وهي: {كل من عليها فان} يريد: على الأرض. أيضا أضمرها ولم يجر لها ذكر- والعرب تفعل ذلك إذا كان في الكلام ما يدل عليه باللفظ أو القرائن المعنوية.