الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{مُّذَبۡذَبِينَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (143)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{يراءون الناس} بالقيام بالنهار، {ولا يذكرون الله}، يعني في الصلاة، {إلا قليلا}، يعني بالقليل، الرياء ولا يصلون في السر، {مذبذبين بين ذلك}، يقول: إن المنافقين ليسوا مع اليهود فيظهرون ولايتهم، ولا مع المؤمنين في الولاية، {لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله} عن الهدى، {فلن تجد له سبيلا} إليه...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{مُذَبْذَبِينَ}: مردّدين، وأصل التذبذب: التحرّك والاضطراب،

وإنما عنى بذلك: أن المنافقين متحيرون في دينهم، لا يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحةٍ فهم لامع المؤمنين على بصيرة، ولا مع المشركين على جهالة، ولكنهم حيارى بين ذلك، فمثلهم المثل الذي ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي:

حدثنا به محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «مَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَله الشّاةِ العائِرةِ بَيَنَ الغَنَمَيْنِ، تَعِيرُ إلى هَذِهِ مَرّةً وَإلى هَذِهِ مَرّةً، لا تَدْرِي أيّتَهُما تَتْبَعُ».

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}: من يخذله الله عن طريق الرشاد وذلك هو الإسلام الذي دعا الله إليه عباده، يقول: من يخذله الله عنه فلم يوفقه له، فلن تجد له يا محمد سبيلاً: يعني طريقا يسلكه إلى الحقّ غيره. وأيّ سبيل يكون له إلى الحقّ غير الإسلام؟ وقد أخبر الله جل ثناؤه: أنه من يتبع غيره دينا فلن يُقبل منه، ومن أضله الله عنه فقد غوى، فلا هادي له غيره.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

هو أنهم لم يظهروا لكل واحد من الفريقين منهم الموافقة لهم والكون معهم، بل ظهر منهم الخلاف عند كل فريق لأنهم كانوا أصحاب طمع عباد أنفسهم، يكونون حيث رأوا السعة معهم؛ فلا {إلى هؤلاء} في حقيقة الدين عند أنفسهم {ولا إلى هؤلاء}.. وقوله تعالى: {ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا} قيل: حجة...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{مُّذَبْذَبِينَ}: ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر، فهم متردّدون بينهما متحيرون. وحقيقة المذبذب: الذي يذب عن كلا الجانبين أي يذاد ويدفع فلا يقرّ في جانب واحد، كما قيل: فلان يرمى به الرحوان إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب كأن المعنى: كلما مال إلى جانب ذب عنه. وقرأ ابن عباس «مذبذبين» بكسر الذال، بمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم. أو بمعنى يتذبذبون. كما جاء: صلصل وتصلصل بمعنى. وفي مصحف عبد الله. متذبذبين. وعن أبي جعفر: «مدبدبين»، بالدال غير المعجمة وكأن المعنى: أخذ بهم تارة في دبة وتارة في دبة، فليسوا بماضين على دبة واحدة. والدبة: الطريقة.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

و {مذبذبين} معناه: مضطربين لا يثبتون على حال: والتذبذب: الاضطراب بخجل أو خوف أو إسراع في مشي ونحوه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن السبب في ذلك أن الفعل يتوقف على الداعي، فإن كان الداعي إلى الفعل هو الأغراض المتعلقة بأحوال هذا العالم، كثر التذبذب والاضطراب، لأن منافع هذا العالم وأسبابه متغيرة سريعة التبدل، وإذا كان الفعل تبعا للداعي، والداعي تبعا للمقصود ثم إن المقصود سريع التبدل والتغير، لزم وقوع التغير في الميل والرغبة، وربما تعارضت الدواعي والصوارف فيبقى الإنسان في الحيرة والتردد. أما من كان مطلوبه في فعله إنشاء الخيرات الباقية، واكتساب السعادات الروحانية، وعلم أن تلك المطالب أمور باقية بريئة عن التغير والتبدل لا جرم كان هذا الإنسان ثابتا راسخا، فلهذا المعنى وصف الله تعالى أهل الإيمان بالثبات فقال {يثبت الله الذين ءامنوا} وقال {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} وقال: {يأيتها النفس المطمئنة}...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{مذبذبين بين ذلك} قال الراغب:"الذبذبة حكاية صوت الحركة للشيء المعلق ثم استعير لكل اضطراب وحركة. قال تعالى: {مذبذبين بين ذلك} أي مضطربين مائلين تارة إلى المؤمنين وتارة إلى الكافرين" وقيل بين الكفر والإيمان. ويقوي الأول قوله: {لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} أي لا يخلصون في الانتساب إلى واحد من الفريقين لأنهم يطلبون المنفعة، ولا يدرون لمن تكون العاقبة، فهم يميلون إلى اليمين تارة وإلى الشمال أخرى، فمتى ظهرت الغلبة التامة لأحد الفريقين ادعوا أنهم منه، كما بينه تعالى في الآية التي قبل هاتين الآيتين: {ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا} أي ومن قضت سنة الله في أخلاق البشر وأعمالهم أن يكون ضالا عن الحق موغلا في الباطل، فلن تجد له أيها الرسول أو أيها السامع سبيلا للهداية برأيك واجتهادك، فإن سنن الله تعالى لا تتبدل ولا تتحول هذا هو معنى إضلال الله تعالى الذي يتفق به نصوص كتابه بعضها مع بعض وتظهر به حكمته في التكليف والجزاء. وليس معناه أنه ينشئ فطرة بعض الناس على الكفر والضلال فيكون مجبورا على ذلك لا عمل له ولا اختيار فيه كعمل المعدة في الهضم، والقلب في دورة الدم، كما توهم من لا عقل له ولا علم.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

هذه الأوصاف المذمومة تدل بتنبيهها على أن المؤمنين متصفون بضدها، من الصدق ظاهرا وباطنا، والإخلاص، وأنهم لا يجهل ما عندهم، ونشاطهم في صلاتهم وعباداتهم، وكثرة ذكرهم لله تعالى. وأنهم قد هداهم الله ووفقهم للصراط المستقيم. فليعرض العاقل نفسه على هذين الأمرين وليختر أيهما أولى به، وبالله المستعان...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ويستمر السياق في رسم الصور الزرية المنفرة:

(مذبذبين بين ذلك. لا إلى هؤلاء. ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا)..

وموقف الذبذبة، والأرجحة، والاهتزاز، وعدم الاستقرار والثبات في أحد الصفين: الصف المؤمن أو الصف الكافر.. موقف لا يثير إلا الاحتقار والاشمئزاز كذلك في نفوس المؤمنين. كما أنه يوحي بضعف المنافقين الذاتي. هذا الضعف الذي يجعلهم غير قادرين على اتخاذ موقف حاسم هنا أو هناك.. ولا على المصارحة برأي وعقيدة وموقف.. مع هؤلاء أو هؤلاء..

ويعقب على هذه الصور الزرية، وهذه المواقف المهزوزة، بأنهم قد حقت عليهم كلمة الله؛ واستحقوا ألا يعينهم في الهداية؛ ومن ثم فلن يستطيع أحد أن يهديهم سبيلا. ولا أن يجد لهم طريقا مستقيما:

(ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا)..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الإشارة بقوله: {بين ذلك} إلى ما استفيد من قوله: {يُراءون الناس} لأنّ الذي يقصد من فعله إرضاء الناس لا يلبث أن يصير مذبذباً، إذ يجد في الناس أصنافاً متبايَنة المقاصد والشهوات...

المعنى أنهم أضاعوا الإيمان والانتماء إلى المسلمين، وأضاعوا الكفر بمفارقة نصرة أهله، أي كانوا بحالة اضطراب وهو معنى التذبذب. والمقصود من هذا تحقيرهم وتنفير الفريقين من صحبتِهم لينبذهم الفريقان...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

إن الكافر يمتاز عن المنافق ظاهرا بأنه منسجم مع نفسه، هو غير مؤمن بالإسلام ويعلن ذلك ولكنه في حقيقة الأمر يتصارع مع فطرته التي تدعوه إلى الإيمان. قد يقول قائل: وكيف يتساوى الذي أظهر الإيمان وأبطن الكفر مع الذي أعلن الكفر؟ ونقول: الكافر لم يخدع الطائفة المؤمنة ولم يقل كالمنافق إنه من الفئة المؤمنة وهو ليس معها، بل يعلن الكافر كفره منسجما مع نفسه، لكن المنافق مذبذب خسيس في وضعه الإنساني والرجولي...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

5 -إِنّ المنافقين يعيشون في حيرة دائمة ودون أي هدف أو خطّة لطريقة الحياة معينة، ولهذا فهم يعيشون حالة من التردد والتذبذب، فلا هم مع المؤمنين حقّاً ولا هم يقفون إِلى جانب الكفار ظاهراً، وفي هذا تقول الآية الكريمة: (مذبذبين بين ذلك لا إِلى هؤلاء ولا إِلى هؤلاء...). ويحسن هنا الالتفات إِلى أنّ كلمة «مذبذب» اسم مفعول من الأصل «ذبذب» وهي تعني في الأصل صوتاً خاصاً يسمع لدى تحريك شيء معلق إِثر تصادمه بأمواج الهواء، وقد اُطلقت كلمة «مذبذب» على الإِنسان الحائر الذي يفتقر إِلى الهدف أو إِلى أي خطّة وطريقة للحياة. هذا واحد من أدق التعابير التي أطلقها القرآن الكريم على المنافقين، كما هي إِشارة إِلى إمكانية معرفة المنافقين عن طريق هذا التذبذب الظاهر في حركتهم ونطقهم، كما يمكن أن يفهم من هذا التعبير أن المنافقين هم كشيء معلق يتحرك بدون أي هدف وليس لحركته أي اتجاه معين، بل يحركه الهواء من أي صوب كان اتجاهه ويأخذه معه إِلى الجهة التي يتحرك فيها. وتبين الآية في الختام مصير هؤلاء المنافقين، وتوضح أنّهم أُناس قد سلب الله عنهم حمايته نتيجة لأعمالهم وتركهم يتيهون في الطريق المنحرف الذي سلكوه بأنفسهم، فهم لن يهتدوا أبداً إِلى طريق النجاة، لأنّ الله كتب عليهم التيه والضلالة عقاباً لهم على أعمالهم...

تقول الآية الكريمة في ذلك: (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا)، (وقد شرحنا معنى الإِضلال، وبيّنا كيف أنّه لا يتنافى مع حرية الإِرادة والانتخاب، وذلك في الجزء الأوّل من هذا التّفسير في هامش الآية (26) من سورة البقرة)...