قوله : " مُذَبْذَبِينَ " : فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه [ حالٌ ] من فاعل " يراءون " .
الثاني : أنه حالٌ من فاعل " وَلاَ يَذْكُرُون " .
الثالث : أنه منصوبٌ على الذَّمِّ ، والجمهور على " مُذَبْذَبينَ " بميمٍ مضمومة وذَالَيْن معجمتَيْن ، ثانيتهما مفتوحةٌ على أنه اسم مفعول ، من ذَبْذَبْتُهُ ، فَهُوَ مُذَبْذَبٌ ، أي : مُتَحَيِّرٌ ، وقرأ ابن عبَّاس وعمرو بنُ فائدٍ{[16]} بكَسْر الذال الثانيةِ اسمَ فاعلٍ ، وفيه احتمالان :
أحدهما : أنه من " ذَبْذَب " متعدِّياً ، فيكونُ مفعولُه محذوفاً ، أي : مُذَبْذِبينَ أنْفُسَهُمْ أو دينهُمْ ، أو نحو ذلك .
الثاني : أنه بمعنى تَفَعْلَل ، نحو : " صَلْصَلَ " فيكون قاصراً ؛ ويَدُلُّ على هذا الثاني قراءةُ أبَيٍّ ، وما في مصحف عبد الله{[17]} " مُتَذَبْذِبِينَ " فلذلك يُحْتَمَلُ أن تكونَ قراءةُ ابن عبَّاس بمعنى مُتَذَبْذبين ، وقرأ الحَسَنُ البصريُّ{[18]} " مَذَبْذَبِين " بفتح الميم . قال ابن عطيَّة : " وهي مردودةٌ " وقال غيره : لا ينبغي أن تَصِحَّ عنه ، واعتذر أبو حيان عنها لأجْلِ فصاحة الحَسَن ، واحتجاجِ الناس بكلامه بأنَّ فتْح الميم لأجل إتباعها بحركة الذال ؛ قال : " وإذا كانُوا قد أتبعوا في " مِنْتِنٍ " حركة الميم بحركة التاء ، مع الحاجز بينهما ، وفي نحو " مُنْحَدُر " أتبعوا حركة الدال بحركة الراء حالة الرفع ، مع أنَّ حركة الإعراب غيرُ لازمة ؛ فلأنْ يُتْبِعُوا في نحو " مَذَبْذَبِينَ " أوْلَى " . [ قال شهاب الدين : ] وهذا فاسدٌ ؛ لأن الإتباع في الأمثلة التي أوردها ونظائِرَها إنما هو إذا كانت الحركةُ قويةً ، وهي الضمةُ والكسرةُ ، وأمَّا الفتحةُ فخفيفةٌ ، فلم يُتْبِعُوا لأجْلها ، وقرأ ابن القعقاع بدَالَيْن مُهْملتَيْنِ من الدُّبَّة ، وهي الطريقة [ الَّتي يُدَبُّ فيها ] يقال : " خَلِّني وَدُبَّتِي " أي : طريقَتِي ؛ قال : [ الطويل ]
طَهَا هُذْرُبَانٌ قَلَّ تَغْمِيضُ عَيْنِهِ *** عَلَى دُبَّةٍ مِثْلِ الْخَنِيفِ المُرَعْبَلِ{[19]}
وفي حديث ابن عبَّاس : " اتَّبِعُوا دُبَّةَ قُرَيْشٍ " ، أي : طَريقَهَا ، فالمعنى على هذه القراءة : أن يأخُذَ بهم تارةً دُبَّةً ، وتارة دُبَّةً أخرى ، فَيَتْبَعُونَ متحيِّرين غيرَ ماضينَ على طريقٍ واحدٍ .
ومُذَبْذَبٌ وشبهُه نحْوُ : مُكَبْكَبٍ ومُكَفْكَفٍ ؛ مِمَّا ضُعِّفَ أولُه وثانيه ، وصَحَّ المعنى بإسقاط ثالثه - فيه مذاهبٌ :
أحدها : - وهو قولُ جمهور البصريين - : أنَّ الكلَّ أصولٌ ؛ لأنَّ أقلَّ البنية ثلاثةُ أصولٍ ، وليس أحدُ المكرَّرين أوْلَى بالزيادةِ من الآخر .
الثاني - ويُعْزَى للزجَّاج - : أنَّ ما صَحَّ إسقاطُه زائدٌ .
الثالث - وهو قول الكوفيين - : أن الثالث بدلٌ من تضعيف الثاني ، ويزعُمُون أن أصل كَفْكَفَ : كَفَّفَ بثلاث فاءات ، وذَبْذَبَ : ذَبَّبَ بثلاث ياءات ، فاستُثْقِل توالي ثلاثةِ أمثالٍ ، فأبْدَلُوا الثالثَ من جنْس الأوَّل ، أمَّا إذا لم يَصِحَّ المعنى بحذفِ الثالث ، نحو : سِمْسِم وَيُؤيُو وَوَعْوَعٍ ؛ فإنَّ الكلَّ يزعمون أصالةَ الجميعِ ، والذَّبْذَبَةُ في الأصل : الاضطرَابُ والحركة ومنه سُمِّي الذُّباب ؛ لكَثْرة حركَتِه .
قال - عليه السلام - : " من وُقي شر قَبْقَبه وذبذبه ولَقْلَقِه وجبت له الجَنَّة " {[20]} يعني : الذكر يُسَمَّى بذلك لتَذَبْذُبِه ، أي : حركته ، وقيل التَّذَبْذُب{[21]} : التَّرَدُّد بين حَالَيْن{[22]} .
ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أعْطَاكَ سُورَةً *** تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ{[23]}
خَيَالٌ لأمِّ السَّلْسَبِيلِ وَدُونَهَا *** مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْبَعيرِ المُذَبْذِبِ{[24]}
بكسر الذال الثانية ، قال ابنُ جنِّي : " أي : القَلق الذي لا يستقرُّ " ؛ قال الزمخشريُّ : " وحقيقةُ المذبذب الذي يُذَبُّ عن كلا الجانبين ، أي : يُذاد ويُدْفع ، فلا يقرُّ في جانبٍ واحدٍ ، كما يقال : " فُلانٌ يُرْمَى به الرَّحَوانِ " ، إلا أنَّ الذبذبة فيها تكريرٌ ليْسَ في الذَّبِّ ، كأنَّ المعنى : كلَّما مالَ إلى جانبٍ ذَبَّ عنه " .
قال ابن الأثير في " النهاية " {[25]} : وأصْلُه من الذَّبِّ وهو الطَّرْدُ ؛ ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام : " تزوَّجْ وإلاَّ فأنْتَ مِنَ المُذَبْذَبِينَ " {[26]} أي : المَطْرُودين عن المؤمنين لأنَّكَ لم تَقْتَدِ بهم ، وعن الرُّهْبَانِ{[27]} ؛ لأنك تَرَكْتَ طَريقَتَهُم ، ويجُوز أن يكُونَ من الأوّل .
و " بَيْنَ " معمولٌ لقوله : " مُذَبْذَبِينَ " و " ذَلِكَ " إشارةٌ إلى الكُفْر والإيمانِ المدلولِ عليهما بذكْرِ الكافرين والمؤمنين ، ونحو : [ الوافر ]
إذا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إليه *** . . . {[28]}
أي : إلى السَّفَهِ ؛ لدلالة لفظ السفيه عليه ، وقال ابن عطية : " أشير إليه ، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ ؛ لتضمُّن الكلام له ؛ نحو : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } [ ص : 32 ] { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] يعني توارتِ الشمسُ ، وكُلُّ من على الأرْضِ ؛ قال أبو حيان " وليس كذلك ، بل تقدَّم ما يدُلُّ عليه " وذكر ما قدَّمْتُه ، وأشير ب " ذَلِكَ " وهو مفردٌ لاثنين ؛ لما تقدَّم في قوله { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } [ البقرة : 68 ] .
قوله : { لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ } " إِلَى " في الموضعيْنِ متعلقةٌ بمحْذُوف ، وذلك المحذوف هو حالٌ حُذِفَ ؛ لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : مُذَبْذَبينَ لا مَنْسُوبينَ إلى هؤلاء ولا منسوبين إلى هؤلاء ، فالعاملُ في الحال نَفْسُ " مُذَبْذَبينَ " ، قال أبو البقاء{[29]} : " وموضعُ { لا إلى هؤلاءِ } نصبٌ على الحالِ من الضمير في مذبذبين ، أي : يتذبذبون مُتَلَوِّنينَ " وهذا تفسير معنًى ، لا إعراب .
قال قتادة : معنى الآيَة : ليْسُوا مُؤمِنين مُخْلصِينَ ، فَيَجِبُ لَهُم مَا يجِبُ للمُؤمنين ، ولا مُشْرِكين مُصَرِّحِين بالشِّرْكِ{[30]} .
وروى نَافعٌ عن ابن عمر ، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال : " مثَلُ المُنَافِقِ كمثلِ [ الشَّاةِ ]{[31]} العَائِرَةِ بين الغَنَمَيْن تَعِيرُ إلى هذه مَرَّةً وإلى هَذِه مَرَّة " {[32]} .
فصل في أن الحيرة في الدين بإيجاد الله تعالى
استدلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّ الحِيرَة في الدِّينِ إنَّما تَحْصُل{[33]} بإيجَادِ اللَّه - تعالى - ؛ لأن قوله : " مُذَبْذَبِينَ " يقتضي فَاعِلاً قد ذَبْذَبَهُم ، وصَيَّرَهُم مُتَردِّدِين ، وذلك ليس باخْتِيَار العَبْدِ ، فإن الإنْسَان إذا وَقَع في قلبه الدَّوَاعِي المُتعَارِضَة ، المُوجِبَة للتَّحَيُّر والتَّرَدُّد ، فلو أرَادَ أن يَدْفَع ذلك التَّرَدُّد عن نَفْسِه ، لم يَقْدِر عليه أصْلاً ، ومن تأمَّل في أحْوَالِهِ عَلِمَ ذلك ، وإذا ثَبَت أنَّ تِلْكَ الذَّبْذَبَة لا بُدَّ لها من فاعلٍ ، وأن فاعِلَها لَيْس هو العَبْدُ ؛ ثبت أنَّ فَاعِلَهَا هو اللَّه - تعالى - .
فإن قيل : قوله - تعالى - : { لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ } يقتضي ذَمَّهُم على تَرْكِ طَريقَةِ المُؤمنين ، وطريقَة الكُفَّار ؛ والذَّمُّ على تَرْكِ طريقِ الكُفَّارِ غير جَائِزٍ .
فالجواب : أنَّ طريقة الكُفَّار وإن كانت خَبِيثَةً ، إلا أن طريقَةَ النِّفَاقِ أخْبَثُ منها ؛ ولذلك فإن الله - تعالى{[34]} - ذم الكُفَّار في أوَّل سُورَةِ البَقَرَةِ في آيتين ، وذمَّ المُنافِقِين في تِسْعَ عَشْرَة آية ، وما ذَلِك{[35]} إلا لأن طَريقَة النِّفَاقِ أخْبَثُ من طَرِيقَةِ الكُفَّارِ ، فهو - تعالى - لم يَذُمَّهم على تَرْكِ الكُفْرِ ، بل لأنَّهُم عَدَلُوا عن الكُفْرِ إلى مَا هُو أخْبَثُ من الكُفْرِ .
قوله : { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي : طَرِيقاً إلى الهُدَى .
واسْتَدَلوا بهذه الآيَة على مَسْألتيْنِ :
الأولَى : أن تلك الذَّبْذَبَة من اللَّه - تعالى - ، وإلا لَمْ يتَّصِلْ هذا الكلام بما قَبْلَهُ .
الثانية : أنه صَريحٌ في أن اللَّه - تعالى - أضَلَّهُم{[36]} عن الدِّينِ .
قالت المعتزلة{[37]} : فمعنى هذا الإضلالِ : أنه عِبَارةٌ عن حُكْم اللَّه{[38]} - تعالى - عَلَيْهِ بالضَّلالِ ، أو أنَّه - تعالى - يُضِلُّه يوم القيامة عن طريق الجَنَّة ، وقد تقدَّم مثل ذَلِك .