اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مُّذَبۡذَبِينَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (143)

قوله : " مُذَبْذَبِينَ " : فيه ثلاثةُ أوجهٍ :

أحدها : أنه [ حالٌ ] من فاعل " يراءون " .

الثاني : أنه حالٌ من فاعل " وَلاَ يَذْكُرُون " .

الثالث : أنه منصوبٌ على الذَّمِّ ، والجمهور على " مُذَبْذَبينَ " بميمٍ مضمومة وذَالَيْن معجمتَيْن ، ثانيتهما مفتوحةٌ على أنه اسم مفعول ، من ذَبْذَبْتُهُ ، فَهُوَ مُذَبْذَبٌ ، أي : مُتَحَيِّرٌ ، وقرأ ابن عبَّاس وعمرو بنُ فائدٍ{[16]} بكَسْر الذال الثانيةِ اسمَ فاعلٍ ، وفيه احتمالان :

أحدهما : أنه من " ذَبْذَب " متعدِّياً ، فيكونُ مفعولُه محذوفاً ، أي : مُذَبْذِبينَ أنْفُسَهُمْ أو دينهُمْ ، أو نحو ذلك .

الثاني : أنه بمعنى تَفَعْلَل ، نحو : " صَلْصَلَ " فيكون قاصراً ؛ ويَدُلُّ على هذا الثاني قراءةُ أبَيٍّ ، وما في مصحف عبد الله{[17]} " مُتَذَبْذِبِينَ " فلذلك يُحْتَمَلُ أن تكونَ قراءةُ ابن عبَّاس بمعنى مُتَذَبْذبين ، وقرأ الحَسَنُ البصريُّ{[18]} " مَذَبْذَبِين " بفتح الميم . قال ابن عطيَّة : " وهي مردودةٌ " وقال غيره : لا ينبغي أن تَصِحَّ عنه ، واعتذر أبو حيان عنها لأجْلِ فصاحة الحَسَن ، واحتجاجِ الناس بكلامه بأنَّ فتْح الميم لأجل إتباعها بحركة الذال ؛ قال : " وإذا كانُوا قد أتبعوا في " مِنْتِنٍ " حركة الميم بحركة التاء ، مع الحاجز بينهما ، وفي نحو " مُنْحَدُر " أتبعوا حركة الدال بحركة الراء حالة الرفع ، مع أنَّ حركة الإعراب غيرُ لازمة ؛ فلأنْ يُتْبِعُوا في نحو " مَذَبْذَبِينَ " أوْلَى " . [ قال شهاب الدين : ] وهذا فاسدٌ ؛ لأن الإتباع في الأمثلة التي أوردها ونظائِرَها إنما هو إذا كانت الحركةُ قويةً ، وهي الضمةُ والكسرةُ ، وأمَّا الفتحةُ فخفيفةٌ ، فلم يُتْبِعُوا لأجْلها ، وقرأ ابن القعقاع بدَالَيْن مُهْملتَيْنِ من الدُّبَّة ، وهي الطريقة [ الَّتي يُدَبُّ فيها ] يقال : " خَلِّني وَدُبَّتِي " أي : طريقَتِي ؛ قال : [ الطويل ]

طَهَا هُذْرُبَانٌ قَلَّ تَغْمِيضُ عَيْنِهِ *** عَلَى دُبَّةٍ مِثْلِ الْخَنِيفِ المُرَعْبَلِ{[19]}

وفي حديث ابن عبَّاس : " اتَّبِعُوا دُبَّةَ قُرَيْشٍ " ، أي : طَريقَهَا ، فالمعنى على هذه القراءة : أن يأخُذَ بهم تارةً دُبَّةً ، وتارة دُبَّةً أخرى ، فَيَتْبَعُونَ متحيِّرين غيرَ ماضينَ على طريقٍ واحدٍ .

ومُذَبْذَبٌ وشبهُه نحْوُ : مُكَبْكَبٍ ومُكَفْكَفٍ ؛ مِمَّا ضُعِّفَ أولُه وثانيه ، وصَحَّ المعنى بإسقاط ثالثه - فيه مذاهبٌ :

أحدها : - وهو قولُ جمهور البصريين - : أنَّ الكلَّ أصولٌ ؛ لأنَّ أقلَّ البنية ثلاثةُ أصولٍ ، وليس أحدُ المكرَّرين أوْلَى بالزيادةِ من الآخر .

الثاني - ويُعْزَى للزجَّاج - : أنَّ ما صَحَّ إسقاطُه زائدٌ .

الثالث - وهو قول الكوفيين - : أن الثالث بدلٌ من تضعيف الثاني ، ويزعُمُون أن أصل كَفْكَفَ : كَفَّفَ بثلاث فاءات ، وذَبْذَبَ : ذَبَّبَ بثلاث ياءات ، فاستُثْقِل توالي ثلاثةِ أمثالٍ ، فأبْدَلُوا الثالثَ من جنْس الأوَّل ، أمَّا إذا لم يَصِحَّ المعنى بحذفِ الثالث ، نحو : سِمْسِم وَيُؤيُو وَوَعْوَعٍ ؛ فإنَّ الكلَّ يزعمون أصالةَ الجميعِ ، والذَّبْذَبَةُ في الأصل : الاضطرَابُ والحركة ومنه سُمِّي الذُّباب ؛ لكَثْرة حركَتِه .

قال - عليه السلام - : " من وُقي شر قَبْقَبه وذبذبه ولَقْلَقِه وجبت له الجَنَّة " {[20]} يعني : الذكر يُسَمَّى بذلك لتَذَبْذُبِه ، أي : حركته ، وقيل التَّذَبْذُب{[21]} : التَّرَدُّد بين حَالَيْن{[22]} .

قال النابغة : [ الطويل ]

ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أعْطَاكَ سُورَةً *** تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ{[23]}

وقال آخر : [ الطويل ]

خَيَالٌ لأمِّ السَّلْسَبِيلِ وَدُونَهَا *** مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْبَعيرِ المُذَبْذِبِ{[24]}

بكسر الذال الثانية ، قال ابنُ جنِّي : " أي : القَلق الذي لا يستقرُّ " ؛ قال الزمخشريُّ : " وحقيقةُ المذبذب الذي يُذَبُّ عن كلا الجانبين ، أي : يُذاد ويُدْفع ، فلا يقرُّ في جانبٍ واحدٍ ، كما يقال : " فُلانٌ يُرْمَى به الرَّحَوانِ " ، إلا أنَّ الذبذبة فيها تكريرٌ ليْسَ في الذَّبِّ ، كأنَّ المعنى : كلَّما مالَ إلى جانبٍ ذَبَّ عنه " .

قال ابن الأثير في " النهاية " {[25]} : وأصْلُه من الذَّبِّ وهو الطَّرْدُ ؛ ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام : " تزوَّجْ وإلاَّ فأنْتَ مِنَ المُذَبْذَبِينَ " {[26]} أي : المَطْرُودين عن المؤمنين لأنَّكَ لم تَقْتَدِ بهم ، وعن الرُّهْبَانِ{[27]} ؛ لأنك تَرَكْتَ طَريقَتَهُم ، ويجُوز أن يكُونَ من الأوّل .

و " بَيْنَ " معمولٌ لقوله : " مُذَبْذَبِينَ " و " ذَلِكَ " إشارةٌ إلى الكُفْر والإيمانِ المدلولِ عليهما بذكْرِ الكافرين والمؤمنين ، ونحو : [ الوافر ]

إذا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إليه *** . . . {[28]}

أي : إلى السَّفَهِ ؛ لدلالة لفظ السفيه عليه ، وقال ابن عطية : " أشير إليه ، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ ؛ لتضمُّن الكلام له ؛ نحو : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } [ ص : 32 ] { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] يعني توارتِ الشمسُ ، وكُلُّ من على الأرْضِ ؛ قال أبو حيان " وليس كذلك ، بل تقدَّم ما يدُلُّ عليه " وذكر ما قدَّمْتُه ، وأشير ب " ذَلِكَ " وهو مفردٌ لاثنين ؛ لما تقدَّم في قوله { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } [ البقرة : 68 ] .

قوله : { لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ } " إِلَى " في الموضعيْنِ متعلقةٌ بمحْذُوف ، وذلك المحذوف هو حالٌ حُذِفَ ؛ لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : مُذَبْذَبينَ لا مَنْسُوبينَ إلى هؤلاء ولا منسوبين إلى هؤلاء ، فالعاملُ في الحال نَفْسُ " مُذَبْذَبينَ " ، قال أبو البقاء{[29]} : " وموضعُ { لا إلى هؤلاءِ } نصبٌ على الحالِ من الضمير في مذبذبين ، أي : يتذبذبون مُتَلَوِّنينَ " وهذا تفسير معنًى ، لا إعراب .

فصل

قال قتادة : معنى الآيَة : ليْسُوا مُؤمِنين مُخْلصِينَ ، فَيَجِبُ لَهُم مَا يجِبُ للمُؤمنين ، ولا مُشْرِكين مُصَرِّحِين بالشِّرْكِ{[30]} .

وروى نَافعٌ عن ابن عمر ، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال : " مثَلُ المُنَافِقِ كمثلِ [ الشَّاةِ ]{[31]} العَائِرَةِ بين الغَنَمَيْن تَعِيرُ إلى هذه مَرَّةً وإلى هَذِه مَرَّة " {[32]} .

فصل في أن الحيرة في الدين بإيجاد الله تعالى

استدلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّ الحِيرَة في الدِّينِ إنَّما تَحْصُل{[33]} بإيجَادِ اللَّه - تعالى - ؛ لأن قوله : " مُذَبْذَبِينَ " يقتضي فَاعِلاً قد ذَبْذَبَهُم ، وصَيَّرَهُم مُتَردِّدِين ، وذلك ليس باخْتِيَار العَبْدِ ، فإن الإنْسَان إذا وَقَع في قلبه الدَّوَاعِي المُتعَارِضَة ، المُوجِبَة للتَّحَيُّر والتَّرَدُّد ، فلو أرَادَ أن يَدْفَع ذلك التَّرَدُّد عن نَفْسِه ، لم يَقْدِر عليه أصْلاً ، ومن تأمَّل في أحْوَالِهِ عَلِمَ ذلك ، وإذا ثَبَت أنَّ تِلْكَ الذَّبْذَبَة لا بُدَّ لها من فاعلٍ ، وأن فاعِلَها لَيْس هو العَبْدُ ؛ ثبت أنَّ فَاعِلَهَا هو اللَّه - تعالى - .

فإن قيل : قوله - تعالى - : { لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ } يقتضي ذَمَّهُم على تَرْكِ طَريقَةِ المُؤمنين ، وطريقَة الكُفَّار ؛ والذَّمُّ على تَرْكِ طريقِ الكُفَّارِ غير جَائِزٍ .

فالجواب : أنَّ طريقة الكُفَّار وإن كانت خَبِيثَةً ، إلا أن طريقَةَ النِّفَاقِ أخْبَثُ منها ؛ ولذلك فإن الله - تعالى{[34]} - ذم الكُفَّار في أوَّل سُورَةِ البَقَرَةِ في آيتين ، وذمَّ المُنافِقِين في تِسْعَ عَشْرَة آية ، وما ذَلِك{[35]} إلا لأن طَريقَة النِّفَاقِ أخْبَثُ من طَرِيقَةِ الكُفَّارِ ، فهو - تعالى - لم يَذُمَّهم على تَرْكِ الكُفْرِ ، بل لأنَّهُم عَدَلُوا عن الكُفْرِ إلى مَا هُو أخْبَثُ من الكُفْرِ .

قوله : { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي : طَرِيقاً إلى الهُدَى .

واسْتَدَلوا بهذه الآيَة على مَسْألتيْنِ :

الأولَى : أن تلك الذَّبْذَبَة من اللَّه - تعالى - ، وإلا لَمْ يتَّصِلْ هذا الكلام بما قَبْلَهُ .

الثانية : أنه صَريحٌ في أن اللَّه - تعالى - أضَلَّهُم{[36]} عن الدِّينِ .

قالت المعتزلة{[37]} : فمعنى هذا الإضلالِ : أنه عِبَارةٌ عن حُكْم اللَّه{[38]} - تعالى - عَلَيْهِ بالضَّلالِ ، أو أنَّه - تعالى - يُضِلُّه يوم القيامة عن طريق الجَنَّة ، وقد تقدَّم مثل ذَلِك .


[16]:ينظر: الدر المصون 2/35.
[17]:ينظر: السبعة 200، والكشف 1/334، والحجة، 3/6 والبحر المحيط 2/389، والدر المصون 2/5.
[18]:قال سيبويه 3/25 "فإن قلت: ما بالي أقول: واحد اثنان، فأشم الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف فلأن الواحد اسم متمكن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج وليس أصلها الإدراج...".
[19]:ينظر: المشكل 1/ 123.
[20]:ينظر: الكتاب 2/107.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.
[22]:سقط في ب.
[23]:ينظر: الدر المصون 2/6.
[24]:ينظر ديوانه ص 216، ولسان العرب (ثور)، وخزانة الأدب 7/210، ورصف المباني ص 41 والمصنف 1/68، والدر المصون 2/6.
[25]:قرأ بها عيسى بن عمر كما في الشواذ 129، وستأتي في سورة "ص" آية 1،2.
[26]:تقدمت.
[27]:سقط في أ.
[28]:سقط في أ.
[29]:ينظر: المشكل 1/123.
[30]:ينظر: الكتاب 3/324.
[31]:ينظر:الإملاء 1/ 122.
[32]:ينظر: الكشاف 1/335، والمحرر الوجيز 1/397، والبحر المحيط 2/ 389، الدر المصون 2/7. وأما رد الفارسي لكلام أبي إسحاق الزجاج وانتصاره للأخفش فلم أجده في "الحجة" في مظنته، بل إنه لم يحك مذهب كسر الميم.
[33]:ينظر معاني القرآن للزجاج 1/327. وفي ب الذي حكاه الأخفش من كسر الميم- خطأ لا يجوز، ولا تقوله العرب لثقله.
[34]:وهذا الطعن عندي ضعيف، لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل والياء أختها، فإذا اجتمعا، عظم الثقل، ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك: "الله" وهو في غاية الخفة، فيصير اللسان منتقلا من أثقل الحركات إلى أخف الحركات، والانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان، أما إذا جعلنا الميم مفتوحة، انتقل اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا: "الله" فكان النطق بها سهلا، فهذا وجه تقرير قول سيبويه والله أعلم. ينظر الرازي 7/134.
[35]:(10) في أ: وبقوله.
[36]:سقط في أ.
[37]:روي ذلك عن مقاتل، وذكره أبو حيان في البحر المحيط 2/389.
[38]:آية 61 من سورة آل عمران. والبهل: اللعن: وفي حديث ابن الصبغاء قال: الذي بهله بريق أي الذي لعنه ودعا عليه رجل اسمه بريق. وبهله الله بهلا: لعنه. وعليه بهلة الله وبهلته أي لعنته. وفي حديث أبي بكر: من ولي من أمور الناس شيئا فلم يعطهم كتاب الله فعليه بهلة الله أي لعنة الله، وتضم باؤها وتفتح. وباهل القوم بعضهم بعضا وتباهلوا وابتهلوا: تلاعنوا. والمباهلة: الملاعنة. يقال: باهلت فلانا؟ أي لاعنته، ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا. وفي حديث ابن عباس: من شاء باهلته أن الحق معي. ينظر: اللسان (بهل).